كيفية حضور الأئمة عند الاحتضار

السؤال: كيف يحضر الأئمّة (ع) في عدة أماكن عند الموتى في نفس الوقت؟ وكيف يمكن رؤية روح الأئمة (ع) بالعين الباصرة؟ وكيف يرى الميت المعصومين (ع) عند الاحتضار ولا يراهم مَن يكون عند الميت؟

الجواب:

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

لقد ذكرنا في جواب سابق: أنّ الأحاديث مستفيضة بل متواترة في حضور النبيّ وأهل بيته (عليهم السلام) عند الاحتضار، وقال الشيخ المفيد: (أجمع عليه أهل الإمامة، وتواتر الخبر به عن الصادقين من الأئمّة..) [أوائل المقالات ص73]، ونصّ على تواتره أيضاً جماعة من العلماء؛ كالحرّ العامليّ في [الفصول المهمة ج1 ص303] بعد أن سرد 39 حديثاً.

فإذا كان حضورهم (عليهم السلام) عند الاحتضار ثابتاً بالأدلّة القطعيّة، فيلزم الاعتقاد بذلك إجمالاً، ولا يلزم معرفة كيفيّة حضورهم: من أنّهم كيف يحضرون في أماكن مختلفة في آن واحد؟ وأنّه كيف ترى العين الروحَ؟ وكيف لا يراهم غير الميت؟ فإنّ أجوبة هذه الأسئلة - سواء عرفناها أم لا – لا تؤثّر في لزوم الاعتقاد بأصل حضورهم (عليهم السلام)؛ لأنّ شؤون عالـم الآخرة والغيب مختلف عن شؤون عالـم الدنيا والمادّة، وليسا على وزان واحد، والاحتضار هو بوّابة عالـم الآخرة والغيب، فلا يصحّ إنكار الحضور لعدم معرفة وجهه وكيفيّته.

قال العلّامة المجلسيّ: (اعلم أنّه يجب الإقرار بحضور النبيّ والأئمّة الاثني عشر (صلوات الله عليهم)، عند موت الأبرار والفجّار... ويجب الإقرار بذلك مجملاً، ولا يلزم التفكّر في كيفيّة ذلك) [عقائد الإسلام ص58].

وقد اختلف العلماء في معنى (الحضور) على أقوالٍ:

1ـ الحضور الجسديّ: وهو أنّ الأئمّة (عليهم السلام) يحضرون بأجسادهم الماديّة أو المثاليّة، وهذا المعنى هو الظاهر من كثير من الأحاديث الواردة، كحديث الإمام الصادق (عليه السلام): « إنّه إذا كان ذلك واحتضر [يعني المؤمن] حضره رسول الله وعليّ وجبرئيل وملك الموت، فيدنو منه عليّ (عليه السلام) فيقول: يا رسول الله، إنّ هذا كان يحبّنا أهل البيت فأحبه... وإذا احتضر الكافر حضره رسول الله وعليّ وجبرئيل وملك الموت، فيدنو منه عليّ (عليه السلام) فيقول: يا رسول الله، إنّ هذا كان يبغضنا أهل البيت فأبغضه... » [الزهد ص81، الكافي ج3 ص131].

2ـ الحضور الانكشافيّ: وهو أنّ الميت ينكشف له الحجاب فيرى الأئمّة (عليهم السلام) في منازلهم، ويمكن استفادة هذا المعنى من بعض الروايات، ففي حديث الإمام السجّاد (عليه السلام): « فيرى دون العرش محمدا ( ص ) على سرير دون عرش الرحمن ويرى عليا (ع) على كرسي بين يديه وسائر الأئمة (ع) على مراتبهم الشريفة بحضرته » [التفسير المنسوب إلى العسكريّ ص572]

3ـ الحضور التمثّلي: وهو أنّ الأئمّة (عليهم السلام) يُمثَّلون للميت، كما هو الحال في مشاهدة التلفاز ونحوه، وقد جاء في بعض الأخبار لفظ التمثّل، كما في حديث الإمام الصادق (عليه السلام): « ويُمثَّل له رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين والأئمّة من ذرّيّتهم (عليهم السلام) » [الكافي ج3 ص127، فضائل الشيعة ص29].

4ـ الحضور الخياليّ: وهو أنّ صور الأئمّة ترتسم في القوى الخياليّة للمحتضِر فيراهم. وهذا المعنى ذكره البعضُ دون نسبةٍ لقائلٍ، وهو – كما ترى - تأويل، لم يقم عليه دليلٌ.

5ـ الحضور الثمرتيّ: وهو أنّ ثمرة الولاية تظهر للموالي، وثمرة العداء تظهر للناصبيّ، ذهب لهذا الشيخ المفيد والسيّد المرتضى.

وهذا المعنى تأويلٌ وتوجيه، لم يدلّ عليه دليل، ولَـم يقبله العلماء من بعدهما، وقد لجأ إليه الشيخ والسيّد بسبب عدم معالجة السؤال الأوّل والثاني الآتيين، وتصدّى العلماء لمعالجة السؤالين وغيرهما، وبيّنوا عدم صحّة المصير للتأويل مع إمكان الأخذ بالظاهر، كما صرّح العلامة المجلسيّ في [عقائد الإسلام ص58، وبحار الأنوار ج6 ص200-202].

وأمّا المعاني الثلاث الأولى فعليها شواهد من الأحاديث كما ذكرنا، ويرى البعضُ أنّ حضور الأئمّة (عليهم السلام) عند المحتضرين لا يكون على نحوٍ واحد، فيحضرون عند البعضِ بأبدانهم المثاليّة، وعند بعضهم على نحو الانكشاف، وعند بعضهم على نحو التمثّل، على حسب اختلاف مراتبهم ودرجاتهم. وبهذا يتمّ الجمع بين الطوائف الثلاث من الأخبار.

فإن تمّ هذا فهو، وإلّا فترجيح أحد المعاني – مع عدم لزومه – صعبٌ؛ لكونه من المتشابهات التي ينبغي الإيمان بها إجمالاً وردّ علمها لأهلها، قال العلّامة المجلسيّ: (والأحوط والأولى في أمثال تلك المتشابهات الإيمان بها، وعدم التعرّض لخصوصيّاتها وتفاصيلها، وإحالة علمها إلى العالم (عليه السلام)، كما مـرّ في الأخبار التي أوردناها في باب التسليم، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم) [بحار الأنوار ج6 ص202].

إذا عرفتَ هذا، فلنأتي إلى الأسئلة المتقدّمة، ونجيب عنها:

السؤال الأوّل: كيف يحضر المعصومون (ع) عند الموتى في أماكن متعدّدة في آن واحد؟

أقول: يمكن الجواب عن هذا السؤال بوجوهٍ، نذكر بعضها:

الأوّل: إنّ هذا السؤال يصحّ لو ثبت حضورهم في « آن واحد » بأماكن متعدّدة، وهذا ليس ثابتاً، فإنّ الثابت هو اتّفاق موت جماعة في زمانٍ، ولكن لـم يثبت أنّهم يموتون – بحسب الواقع – في « آن واحد »، فإنّ موتهم في نفس الآن وإنْ كان محتملاً، ولكن لا دليل عليه؛ إذْ يُحتمل وجود فارق زمانيّ ولو للحظة.

الثاني: أنّ الحضور بمعنى الحضور التمثّلي، وهو أنّ الله تعالى يخلق لكلّ واحد من المعصومين (عليهم السلام) مثالاً بصورته، وهذه الأمثلة هي التي تكلّم الموتى وتبشّرهم من قبل الأئمة (عليهم السلام).

الثالث: أنّه يمكن أن يرى بعضهم الأئمةَ (عليهم السلام) من قريب، وبعضهم من بعيد، فإنّ ظاهر بعض الأخبار هو حضورهم الجسديّ، وبعضها أنّه ينكشف لهم مكان المعصومين (عليهم السلام)، وهو ما يُسمّى بالحضور الانكشافيّ.

الرابع: أنّ الممتنع هو حضور الأبدان الماديّة الدنيويّة في آن واحد في أماكن متعدّدة، لا الحضور بأجساد مثاليّة، فإنّ الحضور بأبدان مثالية غير ممتنع، وقد ورد في صحيحة أبي ولّاد الحنّاط عن الصادق (عليه السلام): « المؤمن أكرم على الله من أن يجعل روحه في حوصلة طير، ولكن في أبدانٍ كأبدانهم » [الكافي ج3 ص244]، ونحوه معتبرة أبي بصير عنه (عليه السلام)، فأهل البرزخ في أبدان مثاليّة، فيمكن أن يحضر الأئمة (عليهم السلام) بأجساد مثاليّة.

قال العلّامة المجلسيّ: (يمكن أن يكون لهم أجساد مثالية كثيرة؛ لِـما جعل الله لهم من القدرة الكاملة التي بها امتازوا عن سائر البشر) [بحار الأنوار ج6 ص202].

وقد قـرّر العرفاء أنّ للسالكين ذوي الأرواح القويّة القدرةَ على إنشاء أبدان مثاليّة كثيرة تتواجد في أماكن مختلفة في آن واحد، قال السيّد حيدر الآمليّ: (.. ويُعرَف صدق هذا أيضاً: من قصّة الأبدال، وكيفيّة تبديلهم من صورة إلى صورة أخرى، وحضورهم في أمكنة مختلفة على صورة واحدة) [أسرار الشريعة ص160]، وقال الفيض الكاشانيّ: (ومن الغرائب: إظهار السالكين أبدانهم المثاليّة في مواضع مختلفة في آن واحد) [عين اليقين ج2 ص349].

كما أنّ علم الروح الجديد أثبت إمكان خلق الروح قوالب مثالية متعدّدة في آن واحد، وحلولها في جميعها أو تصرّفها جميعها في آن واحد تصرّفاً تدبيريّاً، كما نقل فريد وجدي.

السؤال الثاني: العين الباصرة غير قادرة على رؤية المعصومين (ع) لأنّ أبدانهم ليست كثيفة؟

أقول: إنّ الميت حال الاحتضار يُكشف الحجاب عنه، فيرى الملائكة عند الاحتضار، كما يرى المعصومين (عليهم السلام) بأبدانهم المثاليّة – كما ذكرنا سابقاً -، قال الفيض الكاشانيّ: (إنّ هذه الرؤية إنّما تكون في النشأة البرزخيّة لا الحسيّة) [علم اليقين ج2 ص856].

السؤال الثالث: أنّا نحضر الموتى إلى قبض روحهم ولا نرى عندهم أحداً؟

أقول: ذكر العلّامة المجلسيّ في [بحار الأنوار ج6 ص200] خمسة وجوه في الجواب عن هذا السؤال، نقتصر في المقام على ثلاثة منها:

الأوّل: أنّ الله تعالى قادر على أن يحجبهم عن أبصارنا لضربٍ من المصلحة، كما ورد في أخبار الفريقين - في تفسير قوله تعالى: {جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَّسْتُورًا} -: أنّ الله تعالى أخفى شخص النبيّ (صلى الله عليه وآله) عن أعدائه مع أنّ أولياءه كانوا يرونه، وهو أمر معروف.

وقد ورد هذا الجواب التفسير المنسوب إلى الإمام العسكريّ (عليه السلام): « ينظر العليل المؤمن إليهم فيخاطبهم بحيث يحجب الله صوته عن آذان حاضريه ، كما يحجب الله رؤيتنا أهل البيت ورؤية خواصنا عن أعينهم » [التفسير ص211].

الثاني: أنه يمكن أن يكون حضورهم بجسدٍ مثاليّ لطيف لا يراه غير المحتضِر، كحضور ملك الموت وأعوانه، كما ذكرنا سابقاً.

الثالث: أنّه يمكن أن يخلق الله تعالى لكلّ منهم مثالاً بصورته، وهذه الأمثلة يكلّمون الموتى ويبشّرونهم من قِبلهم (عليهم السلام)، كما ذكرنا سابقاً.

والحمد لله رب العالمين