كيف يتكلم المعصوم وهو في المهد؟
السؤال: هل الإمام المعصوم يتكلم في المهد؟ وكيف يمكن ذلك؟
الجواب:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
ذكر جملة من علمائنا - كابن حمزة الطوسيّ في [الثاقب في المناقب ص200] - أنّ الأئمة (عليهم السلام) يتكلّمون في المهد.
وقد ورد في ذلك أخبار مبثوثة في كتب الحديث والفضائل:
منها: كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) لـمّا وُلد. [مناقب آل أبي طالب ج2 ص21].
ومنها: خبر أبي سفيان مع الإمام الحسن (عليه السلام) وله أربعة عشر شهراً [مناقب آل أبي طالب ج3 ص173].
ومنها: خبر يعقوب السرّاج مع الإمام الكاظم (عليه السلام) في المهد [ينظر: الكافي ج1 ص247، إثبات الوصية ص162، الإرشاد ص290، دلائل الإمامة ص327].
ومنها: خبر السيّدة حكيمة مع الإمام الجواد (عليه السلام) لـمّا ولد [ينظر دلائل الإمامة ص383].
ومنها: خبر السيّدة حكيمة وغيرها مع الإمام المهدي (عجل الله فرجه) لـمّا ولد [ينظر كمال الدين ص425، الثاقب في المناقب ص203، إعلام الورى ج2 ص215].
أقول: كلام الطفل في المهد لا يمنعه العقل، بل يرى جواز وقوعه، وإنّما هو خلاف العادة، والعادة يمكن خرقها، كما في المعجزة والكرامة ونحوها من الخوارق.
ولم ينفرد الشيعة بإثبات مثل هذا الأمر الخارق للأئمّة المعصومين (عليهم السلام)؛ إذ إنّه ثابت بالنصّ القرآنيّ والحديث النبويّ عند المخالفين، فإنّ أهل السنّة يروون عدّة أحاديث في أنّ جماعةً تكلّموا في المهد، ومنها أحاديث مخرَّجة في صحيحيّ البخاريّ ومسلم.
وإثبات مثل هذا الأمر لأهل البيت (عليهم السلام)، مستند لأحاديث مرويّة في كتب الحديث والسيرة، ولا يسع الإنكار بمجرّد الاستبعاد المحض، قال ابن تيميّة الحرّاني: (ومن أصول أهل السنة والجماعة: التصديق بكرامات الأولياء وما يجري الله على أيديهم من خوارق العادات في أنواع العلوم والمكاشفات وأنواع القدرة والتأثيرات؛ كالمأثور عن سالف الأمم في سورة الكهف وغيرها، وعن صدر هذه الأمّة من الصحابة والتابعين وسائر قرون الأمة، وهي موجودة فيها إلى يوم القيامة) [مجموع الفتاوى ج3 ص153].
أمّا النصّ القرآنيّ: فقد أثبت كلام النبيّ عيسى (عليه السلام) في المهد في عدّة آيات، وهي قول الله تعالى: {وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلا وَمِنَ الصَّالِحِينَ} [آل عمران: 46]، وقوله تعالى: {تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا} [سورة المائدة: 110]، وقوله: {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا * قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آَتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا} [سورة مريم: 29-30].
وأمّا الحديث النبويّ: فهو ما أخرجه البخاريّ ومسلم عن أبي هريرة عن النبيّ (ص)، قال « لـم يتكلّم في المهد إلّا ثلاثة: عيسى، وكان في بني إسرائيل رجلٌ يُقال له: جريج، كان يصلّي، جاءته أمّه فدعته، فقال: أجيبها أو أصلي؟ فقالت: اللهمّ لا تمته حتّى تريه وجوه المومسات، وكان جريج في صومعته فتعرّضت له امرأة فكلّمته، فأبى، فأتت راعياً، فأمكنته من نفسها، فولدت غلاماً، فقالت: من جريج، فأتوه، فكسروا صومعته، وأنزلوه، وسبّوه، فتوضّأ وصلّى، ثمّ أتى الغلام، فقال: مَن أبوك يا غلام؟ فقال: الراعي، قالوا: نبني صومعتك من ذهب، قال: لا، إلّا من طين، وكانت امرأة ترضع ابناً لها من بني إسرائيل، فمرّ بها رجل راكب ذو شارة، فقالت: اللهمّ اجعل ابني مثله، فترك ثديها، وأقبل على الراكب، فقال: اللهمّ لا تجعلني مثله، ثمّ أقبل على ثديها يمصّه - قال أبو هريرة: كأنّي أنظر إلى النبيّ (ص) يمصّ إصبعه -، ثمّ مرّ بأمةٍ، فقالت: اللهم لا تجعل ابني مثل هذه، فترك ثديها، فقال: اللهمّ اجعلني مثلها، فقالت: لِـم ذاك؟ فقال: الراكب جبّار من الجبابرة، وهذه الأمة يقولون سرقت زنيت ولم تفعل » [صحيح البخاري ج4 ص140، صحيح مسلم ج8 ص4].
وذكر الشراح: أنّ في الأخبار أشخاصاً آخرين ورد أنّهم تكلّموا في المهد [ينظر فتح الباري ج6 ص344، عمدة القاري ج7 ص284، وغيرها.
وقال الصالحي الشاميّ – عند كلامه عن مولد النبيّ الأعظم (صلى الله عليه وآله) -:
(الباب التاسع: في مناغاته (ص) للقمر في مهده وكلامه فيه:
روى الطبرانيّ والبيهقيّ عن العبّاس بن عبد المطلب (رض)، قال: « قلت: يا رسول الله، دعاني إلى الدخول في دينك أمارة لنبوّتك، رأيتك في المهد تناغي القمر وتشير إليه بإصبعك، فحيث ما أشرتَ إليه مال، قال: كنتُ أحدّثه ويحدّثني ويلهيني عن البكاء وأسمع وجبته حين يسجد تحت العرش.
قال الإمام أبو عثمان الصابونيّ في كتاب المائتين: هذا حديث غريب الإسناد والمتن في المعجزات حسن. المناغاة: المحادثة، وناغت الأمّ صبيّها: لاطفته وشاغلته بالمحادثة والملاعبة. قال الحافظ في الفتح: وفي سير الواقديّ: أنّ النبيّ (ص) تكلّم في المهد أوائل ما ولد. وذكر ابن سبع في الخصائص: أنّ مهده (ص) كان يتحرّك بتحريك الملائكة له، وأنّ أوّل كلام تكلّم به أن قال: « الله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً ».
فائدة : تكلّم في المهد جماعةٌ، نظم شيخنا [يعني جلال الدين السيوطي] أسماءهم في كتابه قلائد
الفوائد فقال:
تكلّم في المهد النبيّ محمّد * وموسى وعيسى والخليل ومريم
ومبرئ جريج ثمّ شاهد يوسف * وطفل لدى الأخدود يرويه مسلم
وطفل عليه مرّ بالأمة التي * يُقال لها تزني ولا تتكلّم
وماشطة في عهد فرعون طفلها * وفي زمن الهادي المبارك يختم) [سبل الهدى والرشاد ج1 ص349].
وقد كتبَ بعضُ الباحثين دراسة خاصّة فيمَن تكلّم في المهد، وأحصى منهم: النبيّ الأعظم (ص)، والنبيّ إبراهيم (ع)، والنبيّ موسى (ع)، والنبيّ يحيى (ع)، والنبيّ عيسى (ع)، والسيّدة مريم (ع)، وشاهد النبيّ يوسف (ع)، وغلام جريج الراهب، وابن المرأة التي قالت اللهم اجعل ابني مثله، وغلام أصحاب الأخدود، وابن ماشطة ابنة فرعون، ومبارك اليمامة. وعدَّ خمسةً صحّت فيهم الرواية.
إذن: كلام المعصوم (ع) في المهد يعدّ من كراماتهم الواردة في الأحاديث، وله شواهد من كلام النبيّ عيسى (ع) الوارد في القرآن الكريم، وكلام النبيّ الأعظم (ص) وغيره الواردة في أحاديث المخالفين.
الحمد لله رب العالمين
اترك تعليق