كيف يتم تحديد الأعلم من بين الفقهاء؟

السؤال: معلوم عند الاثني عشرية أنّ المرجع الفقيه يجب أن يكون الأعلم بين المجتهدين، إلا أنه قد يتعذّر إثبات ذلك حيث إنّ صاحب الخبرة الذي يشهد بأعلمية فلان بحاجةٍ إلى من يشهد له بخبرته واختبار المرجع من المكلّف متعذر على الغالب.. فلا يبقى إلا الاطمئنان العاطفي والشيوع بين الناس وأحيانا دعم دول أو مخابرات كما يروج البعض!

: الشيخ معتصم السيد احمد

الجواب:

بحثَ فقهاء الشيعة مفصّلاً مسائل التقليد ومن بينها وجوب تقليد الأعلم، ولا يسعنا هنا استيعاب أهم مسائل الاتّفاق والاختلاف في هذه المسألة، ولذا سنحاول الاختصار والتسهيل بقدر المستطاع.

أولاً: مَن لم يثبت اجتهاده لا يصحّ تقليده وإنْ توفّرت فيه بقيّة الشروط، وثبوت اجتهاد المجتهد من الموضوعات الخاصة التي لا يرجع فيها إلى مطلق العرف، وإنّما يرجع فيها للعرف الخاص وهم أهل الخبرة والاختصاص.

وقد أشار الفقهاء في بحوثهم إلى عدّة طرق يتعرّف من خلالها المكلّف على المجتهد والأعلم أيضاً من بينها:

أ‌- العلم الوجدانيّ: وهو أنْ يحصل للمكلّف العلم باجتهاد المجتهد، أو أعلميته، كأنْ يكون هو من أهل الخبرة، فمن خلال مباحثته أو الاطّلاع على كتبه وبحوثه أو غير ذلك، إذِ المهمّ أنْ يحصل للمكلفِ علماً وجدانيّاً بأنّ فلاناً من الناس بلغ مرتبة الاجتهاد.

ب‌- قيام البيّنة الشرعيّة: وهي شهادة عدلين من أهل الخبرة على اجتهاد المجتهد أو أعلميته، وقد اشترط بعضهم عدم معارضة تلك البيّنة ببيّنة أخرى، كأنْ يشهد شاهدان آخران عدلان من أهل الخبرة بأنّه ليس مجتهداً، إلا أنّ بعضهم اختار الترجيح لإحدى البيّنتين على الأخرى بالكثرة العدديّة، واختار بعضهم تساقطهما معاً.

ت‌- الشياع المفيد للعلم: هو أنْ يصبح الشخص معروفاً في الأوساط العلمية بالاجتهاد أو الأعلمية.

ثانياً: في حال تعدّد الفقهاء والمجتهدين هل يتعيّن تقليد الأعلم أم يجزي تقليد أيّ واحد منهم؟ وقع الاختلاف بين الأعلام على أقوال:

أ‌- وجوب تقليد الأعلم مطلقاً سواء عَلِمَ المكلّف بوجود اختلاف في الفتاوى بينه وبين المجتهدين الآخرين أم لم يعلم.

ب‌- التخيـير بين تقليد الأعلم وغيره مطلقاً، أي: يجوز للمكلف أنْ يقلّد أيّ واحد من المجتهدين سواء اتفقوا جميعاً في الفتوى أم اختلفوا.

ت‌- التفصيل بين كون الأعلم معروفاً مميّزاً، ويُعلم بالاختلاف بينه وبين غيره، وبين كونه مجهولاً، فيجب تقليد الأعلم في صورة تمييزه ومعرفته، أما في حالة الجهل به فيتخيّر في تقليد من شاء من الفقهاء.

ث‌- التفصيل بين صورة العلم بوجود اختلاف في الفتوى بين الفقهاء، وبين صورة عدم العلم بذلك، فيجب الفحص عن الأعلم وتقليده في الصورة الأولى، أما في الصورة الثانية، فيتخير في تقليد أيّهما شاء.

ثالثاً: الطريق إلى تحديد الأعلم: حصر الفقهاء طريق ذلك بأهل الخبرة والاختصاص، وهو ما ذكره السيد اليزدي(قده) حيث قال: والمرجع في تعيـينه: أهل الخبرة والاستنباط. (العروة الوثقى، مسألة 17 من مسائل الاجتهاد والتقليد)

وبعد اتضاح جميع هذه النقاط يتضح الجواب على ما تقدم من أسئلة:

أولاً: ليس المشهور بين فقهاء الإماميّة وجوب تقليد الأعلم مطلقاً؛ بل المشهور بين المعاصرين هو التفصيل، حيث حكموا بتقليد الأعلم في حال حصول اختلاف بين فتوى الأعلم والأقل منه علماً، أما في حال عدم الخلاف فلا وجوب لتقليد الأعلم.

ثانياً: تحديد الأعلم ليس متعذراً سواء كان بالعلم الوجداني (بأن يكون الشخص من أهل الخبرة)، أو بقيام البيّنة (شهادة عدلين من أهل الخبرة)، أو بالشياع المورث للاطمئنان، ولا نظنّ أنّ هناك مشكلة في تحديد مَنْ هم أهل الخبرة، وما أشار إليه السائل بأنّ الخبير يحتاج إلى من يشهد بخبرته، فيلزم التسلسل، غير صحيح؛ إذْ أنّ أهل الخبرة هم المجتهدون والقريبون من الإجتهاد، وفضلاء الحوزة العلمية وأساتذتها يَعرفون أهل الخبرة، كما أنّ الشياع في الوسط الحوزوي بأنّ فلاناً من أهل الخبرة، طريقٌ من طرق معرفة الخبير. والخبراء كُثُر في الحوزة العلميّة، فإنّ أساتذة البحث الخارج المقبولين يُعَدّون من الخبراء.

والخبرة تأتي من الممارسة الطويلة في الحوزة العلمية، وذلك من خلال الحضور عند أساتذتها، وفَهْمُ ما يطرحون في دروسهم، ومناقشة أساتذتهم، وكذلك ممارسة التدريس لفترة طويلة في أروقة الحوزة العلمية. وهؤلاء معروفون في الأوساط الحوزوية، يعرفهم صغار طلبة الحوزة، بل ومَن له احتكاك بعلماء الحوزة.

ثالثاً: ما أسماه السّائل بالاطمئنان العاطفي غير صحيح، فهناك فرق بين الاطمئنان الناتج عن الميول الشخصيّة والانطباع الذاتيّ، وبين الاطمئنان الناتج عن قرائن معتمدة عند العقلاء، وشهادة عدلين أو الشياع، كليهما من القرائن العقلائيّة وما ينتج عنهما يسمى اطمئناناً عقلائياً.

رابعاً: الحوزة العلميّة وبتاريخها العريض وبضوابطها العلميّة والمنهجيّة، محصّنة ضد عبث الدول واختراق المخابرات، وتاريخ المرجعيّة الشيعيّة خير شاهد على ذلك، والثابت للعيان هو تأثير المرجعيّة الشيعيّة على الحكومات بما لها من استقلال وهيبة في وسط الشيعة، والأمثلة على ذلك لا تحصى.