هل كتم الإمام عليّ (ع) العلم عندما لم يظهر مصحفه أيّام خلافته؟

السؤال: في كتاب النجم الثاقب للشيخ حسين الطبرسيّ، يقول: عليّ أخفى القرآن الصحيح عن الأُمّة وادّعى أنّ المهديّ الشيعيّ سيخرج به آخر الزمان... فهل مَن كتم العلم والهدى ملعون أم ماذا؟ قال تعالى: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلْكِتَٰبِ وَيَشْتَرُونَ بِهِۦ ثَمَنًا قَلِيلًا ۙ أُوْلَٰٓئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ إِلَّا ٱلنَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ ٱللَّهُ يَوْمَ ٱلْقِيَٰمَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾(البقرة - 174)

: الشيخ معتصم السيد احمد

الجواب:

بعيداً عمّا جاء في كتاب النجم الثاقب، فإنّ هناك شبهةً قديمةً يثيرها بعضهم على الروايات التي تقول: إنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) كان له مصحفاً خاصّاً يختلف عمّا هو موجود في أيدي المسلمين، ونصُّ الشبهة يمكن صياغته كالتالي: لماذا لم يُخرِج الإمام عليّ (عليه السلام) هذا المصحف في أيّام خلافته وبعد مقتل عثمان بن عفّان، فهل يصحّ في حقّ الإمام عليّ (عليه السلام) القول إنّه كتم الحقّ وأخفاه؟

ولردّ هذه الشبهة لا بدّ من التأكيد على أنّ مصحف الإمام عليّ (عليه السلام) يُطلَقُ على القرآن الذي جمعه عليه السلام بعد وفاة النبيّ (صلّى الله عليه وآله)، وهو أوّل مصحف في الإسلام جمع فيه القرآن الكريم، ولا يُفهم من هذا أنّ مصحف الإمام عليّ (عليه السلام) كان مختلفاً في آياته وسوره عمّا هو متداول بين المسلمين فهذه شبهة لا دليل عليها ولا أساس لها من الصحّة، إنّما كان يتميّز بكونه رُتّب على ترتيب النزول، كما اشتمل على شروح وتفاسير لمواضع من الآيات مع بيان أسباب ومواقع النزول. قال عليه السلام: (ما نزلت آية على رسول الله‏ صلّى الله عليه وآله وسلّم إلّا أقرأنيها وأملاها عليّ، فأكتبها بخطّي، وعلّمني تأويلها وتفسيرها وناسخها ومنسوخها ومحكمها ومتشابهها، ودعا الله‏ لي أن يعلّمني فهمها وحفظها، فما نسيت آية من كتاب الله‏، ولا علماً أملاه عليّ فكتبته منذ دعا لي ما دعا) (تفسير البرهان 1 : 16 ح 14).

وبعد أنْ جمعه جاء به إلى الناس وقال: إنّي لم أزل منذ قبض رسول الله (‏صلّى الله عليه وآله وسلّم) مشغولاً بغسله وتجهيزه، ثُمَّ بالقرآن حتّى جمعته كلّه، ولم ينزل الله‏ على نبيّه آية من القرآن إلّا وقد جمعتها. (الاحتجاج للطبرسي: 82).

إلّا أنّ القوم ردّوه ولم يقبلوه، إذْ قام إليه رجل من كبار القوم فنظر فيه، فقال: يا عليّ، اُردده فلا حاجة لنا فيه.(الاحتجاج للطبرسيّ: 82؛ بحار الأنوار: 92 / 51 ح 18)، فقال لهم الإمام عليّ (عليه السلام): (أمَا والله‏ ما ترونه بعد يومكم هذا أبداً، إنّما كان عليَّ أن أخبركم حين جمعته لتقرأوه.) (تفسير الصافيّ 1 : 36).

وفي أيّام خلافة عثمان وما حصل من اختلاف في القرآن؛ سأل طلحة بن عبيد الله أمير المؤمنين (عليه السلام) لو يخرج للناس مصحفه الذي جمعه بعد وفاة رسول الله (‏صلّى الله عليه وآله) قال: وما يمنعك ـ يرحمك الله‏ ـ أن تُخرج كتاب الله‏ إلى الناس؟! فكفّ عليه السلام عن الجواب أوّلاً، فكرّر طلحة السؤال، فقال: لا أراك يا أبا الحسن أجبتني عمّا سألتك من أمر القرآن، ألَا تُظهره للناس؟ فقال: يا طلحة عمداً كففت عن جوابك فأخبرني عمّا كتبه القوم؟ أقرآن كلّه أم فيه ما ليس بقرآن؟ قال طلحة: بل قرآن كلّه. قال عليه السلام: إنْ أخذتم بما فيه نجوتم من النار ودخلتم الجنّة...(بحار الأنوار ج 92 ص 42 ح 1).

إذنْ: فترتيب القرآن حسب النزول عند الإمام عليّ (عليه السلام) لا يعني أنّ الموجود بين أيدينا فيه نقص، بل هو نفس قرآن الإمام عليّ (عليه السلام)، بلا زيادة ولا نقصان، والفرق بينهما إنّما هو في أنّ القرآن الذي جمعه الإمام عليّ (عليه السلام) قد كتب فيه بيان الناسخ من المنسوخ، والمحكم من المتشابه، وفيه شأن النزول، وفيه مَنْ نزلت الآية أو الآيات، أو السورة، وأين ومتى نزلت؟! وغير ذلك...

أمّا مصير مصحف الإمام عليّ (عليه السلام) فتفيد الروايات بأنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) قد سلّمه للأئمّة من بعده، وهم يتداولونه الواحد بعد الآخر لا يرونه لأحد. (بحار الأنوار 92 : 42 ح 1).

وقد أقرّ بعض علماء السنة بمصحف أمير المؤمنين (ع) روى ابن سعد بسنده عن محمّد (بن سيرين) قال: نبّئتُ أنّ عليًّا أبطأ عن بَيْعة أبى بكرٍ فلقيه أبو بكر فقال: أكَرِهتَ إمارتى؟ فقال: لا، ولكنّى آليتُ بيمينٍ أن لا أرتدى بردائى إلّا إلى الصّلاة حتى أجمع القرآنَ! قال: فزعموا أنّه كتبه على تنزيله. قال محمّد (بن سيرين): فلو أصيب ذلك الكتابُ ‌كان ‌فيه ‌علم. (الطبقات الكبرى لابن سعد: 2 / 292، وبمثله قال ابن جزي في تفسيره: 1 / 12)

ولمن أراد الوقوف على بحثٍ مفصّل في هذا الشأن يمكنه الرجوع إلى كتاب (حقائق هامّة حول القرآن الكريم) للعلّامة المحقّق جعفر مرتضى العامليّ، ففيه فصل مستقلٌّ تحت عنوان (مصحف فاطمة)، عالج فيه بشكل علميّ ومفصّل كلّ الأسئلة التي تدور حول مصحف أمير المؤمنين (ع)، وممّا جاء في ذلك الفصل قوله: (لقد كثر الحديث عن مصحف أمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام)، وعن أنّه هل يخالف هذا المصحف الموجود، أو يوافقه؟! وعلى التقدير الأوّل، ما هو نوع هذه المخالفة؟! وما هو حجمها؟! وما هي المصادر التي صرّحت بوجود مصحف كهذا؟! وهل هو نفس المصحف الذي كان عند النبيّ (صلى الله عليه وآله)، أم هو مصحف آخر؟! إلى غير ذلك من الأسئلة، التي ربُّما تراود ذهن الكثيرين من الناس...، بل لقد راق للبعض هنا أن يسجّل على الشيعة إدانة باغية، وهي: أنّ قرآنهم يختلف عن قرآن المسلمين، بحجّة: أنّهم يروون لعليّ قرآناً، له مواصفات أخرى كما سنرى...

ونحن فيما يلي من صفحات نحاول الإجابة عن هذه الأسئلة، بأسلوب عرض النصوص كما هي، من أجل أنْ يجد الباحث فيها الجواب المقنع والمفيد، والقاطع لكلِّ تلك الترّهات التي يحلو للبعض أن يتشدّق بها، ويروّج لها .. فإلى ما يلي من صفحات ومطالب) انتهى.

ثمَّ يشرع في الإجابة عن كلّ تلك الأسئلة، ولا يسعنا في هذا المقام نقل ما ذكره العلّامة المحقّق، فعلى المهتمّ بالتفصيل الرجوع إلى الكتاب.