لماذا يتباين الناس عقائديّاً إذا كانت العقائد تخضع لدلالة العقل؟

السؤال: إذا كانت العقيدة تعبّر عن حقائق واقعيّةٍ غير قابلةٍ للتعدّد، فلماذا لا يتوصّل البشر جميعاً إلى عقيدةٍ واحدةٍ رغم الدعوة القرآنيّة المتكرّرة لتحكيم العقل والاحتكام إلى البرهان؟

: الشيخ معتصم السيد احمد

الجواب:

الاختلاف في العقائد رغم كونها تمثّل حقائق واقعيّةً ثابتة، يعود إلى طبيعة الإنسان وما يحيط به من مؤثّراتٍ تعقّد عمليّة إدراك الحقيقة، وسنحاول هنا بيان بعض الأسباب التي تؤدّي إلى هذا الاختلاف العقائديّ.

أولاً: العقل البشريّ، رغم قدرته الفطريّة على إدراك الحقائق، يظلّ عرضة للتأثّر بعدّة عوامل خارجيَّة تؤدّي إلى تشويش الفهم وإعاقة الوصول إلى الحقيقة. ومن أبرز هذه العوامل البيئة الثقافيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة، التي تعمل على تأطير الإنسان ضمن أفكار محدّدة، أو تشكّل ما يسمّيه البعض بـ(القوالب الفكريّة)، فتتحكّم هذه القوالب في نظرة الفرد للعالم من حوله، بحيث يصير فهمه للحقائق محكوماً بهذه الأطر، سواء كانت صائبة أم منحازة.

فالإنسان الذي ينشأ في بيئة تكرّس مفاهيم خاطئة، أو تُغرقه في تصوّراتٍ مشوّهةٍ عن الحياة والوجود، يميل إلى تبنّي هذه القناعات دون تفكيرٍ نقديٍّ أو مراجعة، وهو ممّا يجعله عاجزاً عن رؤية الحقّ بوضوح. هذا التشويش قد يكون نتاجاً للثقافة الموروثة، أو نتيجة لهيمنة أفكار معيّنة يفرضها الإعلام، أو حتّى نتيجة لتأثير السلطات السياسيّة والاجتماعيّة التي تسعى لتوجيه الأفراد نحو تصوّرات تخدم مصالحها.

والقرآن الكريم يعالج هذه الإشكاليّة بشكل دقيق في قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} [سورة البقرة: 170]. هذه الآية تكشف عن أحد أخطر أشكال التشويش الفكريّ، وهو التبعيّة العمياء للتقاليد الموروثة. فالبيئة التي يتربّى فيها الإنسان قد تفرض عليه نمطاً معيّناً من التفكير لا يستند إلى البرهان أو العلم، بل إلى التقليد، حتّى إن كانت هذه التقاليد خاليةً من المنطق أو الدليل.

ثانياً: الإنسان بطبيعته كائن مركّب، تجتمع فيه الشهوة والعقل، وتتصارع في داخله الميول والرغبات مع إدراكه للحقائق. ومع أنّ العقل أداة الإنسان للتفكير والتحليل، فإنّ الميول النفسيّة كثيراً ما تؤثّر على حكمه، فرغباته تسعى لطمس صوت الحقيقة، حتّى إن كانت واضحة أمامه. هذه الحالة من الخضوع للرغبات هي ما يعبّر عنها القرآن الكريم في قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ} [سورة الجاثية: 23]. فالآية تشير إلى إنسانٍ ما اختار بإرادته أن يجعل هواه هو المعيار الوحيد لسلوكه وقراراته، فيصبح أسيراً لرغباته ومصالحه الشخصيّة، ويتّخذها مرجعاً بدلاً من العقل أو الدليل. والأخطر في هذا السياق أنّ القرآن يبيّن أنّ الضلال الناتج عن اتّباع الهوى قد يحدث رغم وجود العلم والمعرفة بالحقّ، وهو ما يعني أنّ المشكلة ليست في غياب الحقيقة، بل في العجز عن مواجهة الأهواء التي تشوّه إدراكها أو تجعل الإنسان يتجنّبها عمداً.

ثالثاً: الإسلام يركّز على جعل العقيدة مسألة فرديّة ومسؤوليّة شخصيّة لا يمكن فرضها بالقوّة أو الإكراه، لأنّ الإيمان الحقيقيّ لا يتحقّق إلّا بإرادة حّرة وقناعة ذاتيّة. وهذه الحريّة تعني أنّ الإنسان ملزَمٌ بالسعي لإدراك الحقائق العقديّة من خلال مجاهدة فكريّة صادقة، يقول تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} [سورة البقرة: 256]، فالإكراه قد يدفع الإنسان إلى التظاهر بالاعتقاد، لكنّه لا يمكن أن يحقّق الإيمان القائم على اليقين؛ لذلك يدعو الإسلام الأفراد إلى استخدام عقولهم بحريّة والتأمّل في الأدلّة بعيداً عن الضغوط الخارجيّة، لأنّ القناعة الراسخة لا تنشأ إلّا من عقلٍ منفتحٍ وبحثٍ صادقٍ عن الحقيقة.

رابعاً: الاختلاف العقديّ بين الناس ليس ظاهرةً عشوائيّةً أو خارجة عن الحكمة الإلهيّة، بل هو جزءٌ من منظومة الابتلاء التي أرادها الله لاختبار الإنسان وتمحيص اختياراته. يقول الله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} [سورة التغابن: 2]، وهذه الآية تشير إلى أنّ الله خلق الإنسان ضمن نظام قائم على التمييز بين الإيمان والكفر، ليكون ذلك معياراً لإرادته الحرّة واختياره الواعي. فالاختلاف العقديّ يمثّل ساحةً يمارس فيها الإنسان حرّيّته في الاختيار، ويبرز فيها وعيه وقدرته على التفريق بين الحقّ والباطل.

وينبغي ألّا يُفهم أنّ إرادة الله هنا هي حالة من الإجبار والإكراه، وإنّما المقصود أنّ الله بإرادته منح الإنسان الفرصة، وفتح له المجال لإثبات نفسه والتعبير عن استجابته للحقّ، فوجود الكفر والإيمان الوتباين في اعتقادات الناس يشكّل عنصراً أساسيّاً في التقييم الإلهيّ للبشر، حيث تُقاس قيمة الإنسان من خلال مدى سعيه للتحرّر من المؤثّرات السلبيّة، وقدرته على الالتزام بالحقائق التي يكتشفها.

وفي الختام يجب أن نشير إلى مسألة مهمّة وهي أنّ الإسلام لا يلغي الواقع الإنسانيّ الذي يشهد تعدّداً في المعتقدات، ودعاء إلى التعايش السلميّ والتعامل بالحسنى مع المخالفين إذا لم يكونوا محاربين، كما في قوله تعالى: {لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [سورة الممتحنة: 8]، وقوله تعالى: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [سورة الكافرون: 6]، هذا المبدأ يعكس الحكمة الإلهيّة في منح البشر حرّية الاختيار، مع تحميلهم مسؤوليّة البحث عن الحقيقة. والحمد لله ربّ العالمين.