الزهراء (عليها السلام) شهيدةٌ .. وشاهدةٌ..!.
السؤال: (( جاء في الحديث عن الإمام الكاظم(عليه السلام): «فاطمةُ صدّيقةٌ شهيدةٌ». والسؤال: إذا كان المراد من مفردة " الشهيدة " هو المعنى الحقيقي المذكور في كتب الفقه فهذا لا يصحّ ؛ لأنّ هذا المعنى مختصٌّ بِمَن يُقتلُ في المعركة. وإن كان المراد أنّها بمنزلة الشهداء فلا يكون في ذلك فضيلة لها ؛ لأنّ هذا المعنى ثابتٌ لغيرها مثل المرأة الحامل إذا ماتت مع حملها. وإن كان المراد من الشهيدة هنا أن تكون شاهدة يوم القيامة فهذا يعني عدم دلالة الحديث على ما تدّعون من تعرّضها للاعتداء..؟!.)).
الجواب:
بسم الله الرحمن الرحيم .. وبعد.. فإنّ الإجابة عن الشبهة المذكورة في السؤال تستدعي الكلام في عدّة مسائل:
المسالة الأولى: فيما يتعلّق بدلالة الخبر الذي ذكره السائل ورواه ثقة الإسلام الكليني بسند صحيح إلى علي بن جعفر عن أخيه الإمام موسى بن جعفر(عليه السلام) قال: « إِنَّ فَاطِمَةَ (عَلَيْهَا السَّلَامُ) صِدِّيقَةٌ شَهِيدَةٌ ، وإِنَّ بَنَاتِ الأَنْبِيَاءِ لَا يَطْمَثْنَ » [الكافي ج1 ص458]، فقد ذكر العلماء أنّ المراد بالشهيدة هنا هو كونها (عليها السلام) مقتولةً ظلماً وعدوانا في دفاعها عن أمير المؤمنين(عليه السلام) حينما أراد القوم إجباره على المبايعة؛ فلذلك كانت شهيدة، وإليك بعض كلماتهم:
1- عن المجلسي الأوّل قال معلّقاً على الخبر المذكور:( وشهادتها صلوات الله عليها كانت من ضرب فلان.... الباب على بطنها عند إرادة أمير المؤمنين لبيعة أبي بكر....إلخ قصة الهجوم على الدار)[ينظر روضة المتّقين ج5ص342].
2- قال فيه العلّامة المجلسي الثاني: (...ثمّ إنَّ هذا الخبر يدلّ على أنّ فاطمة "صلوات الله عليها" كانت شهيدة وهو من المتواترات، وكان سبب ذلك أنّهم لما غصبوا الخلافة.... ثمّ ساق قصّة الهجوم إلى أن قال: فمنعتهم فاطمةُ عند الباب فضرب قنفذُ غلامُ عمر البابَ على بطن فاطمة عليها السلام فكسر جنبيها، وأسقطت لذلك جنيناً كان سمّاه رسول الله صلّى الله عليه وآله مُحسناً، فمرضت لذلك وتوفيت صلوات الله عليها في ذلك المرض.... ثمّ شرع سماحته بنقل روايات الحادثة من كتب الفريقين) [ينظر: مرآة العقول ج5 ص318].
3- وعند شرحه للحديث المذكور قال المولى المازندرانيّ: (.... والشهيد من قُتل من المسلمين في معركة القتال المأمور به شرعاً ، ثمَّ اتّسع [أي لقب الشهيد]فأُطلق على كلّ مَن قُتل منهم ظُلماً كفاطمة (عليها السلام) إذ قتلوها بضرب الباب على بطنها وهي حامل فسقط حملها فماتت لذلك.)[شرح أصول الكافي ج7 ص213].
المسألة الثانية: تقدّم معنا قول المولى المازندراني: (ثمّ اتسع – أي لفظ الشهيد - فأُطلق على كلّ مَن قُتل ظلماً كفاطمة "عليها السلام"...) وكما ترى فإنّ فيه إشارةً إلى أنّ مفردة (الشهيد) هي مصطلح شرعي مختصٌّ بالأديان السماويّة، وبالتالي فالمرجع في تحديد مفهومه سعةً وضيقاً موكول إلى الشارع المقدّس؛ وليس إلى ذوقنا وفهمنا العرفي حتّى يمكننا التدخّل فيه، وصرفه من معنى إلى آخر، أو تخصيصه بصنف دون غيره ؛ ولذا عندما عرّف الزبيدي مفردة الشهيد قيّدها بالاصطلاح الشرعي فقال: (والشَّهِيد في الشَّرْعِ: القَتِيل في سَبيلِ اللهِ....)[تاج العروس ج5ص46]، كأنّه يريد تفهيمنا أنّ هذا مصطلح شرعي خاصٌّ لا يُفهم المراد منه إلّا عن طريق الشارع.
فإذا عرفت ذلك فإنّه وبعد الرجوع إلى المصادر الشرعيّة نجد أنّ لمفردة (الشهيد) هو معنىً واسعاً يشمل كلّ من قتل في سبيل الله تعالى، بل هو أوسع من ذلك بكثير، ولا يختصّ بمَن قتل في أرض المعركة فقط، وإليك بعض الشواهد وما يستفاد منهما:
1- ما جاء في أخبار أصحابنا فضلاً عن الخبر محل البحث، فقد روى الصدوق بسند صحيح ينتهي إلى أبي الصلت الهروي قال: « سمعت الرضا "عليه السلام" يقول: والله ما مِنَّا إلّا مقتول شهيد... الخبر »[يُراجع: عيون الأخبار ج2 ص287، من لا يحضره الفقيه ج2 ص585]، ومن الواضح أنّه لم يُقتل في المعركة منهم (عليهم السلام) إلّا سيّد الشهداء الحسين(عليه السلام)، ومع ذلك فلا أحد يشك أو يُنكر - مثلاً - شهادة أمير المؤمنين(عليه السلام) في محرابه..!.
2- ما جاء في الأخبار عن طرق العامّة، حيث روى أحمد عنه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أنّه قال:« مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ أَهْلِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ دِينِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ دَمِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ »[مسند أحمد ج1ص190]، وأوضح منه في الدلالة ما رواه مسلم من قوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «مَا تَعُدُّونَ الشَّهِيدَ فِيكُمْ؟، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، مَنْ قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، قَالَ: إِنَّ شُهَدَاءَ أُمَّتِي إِذًا لَقَلِيلٌ، قَالُوا: فَمَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: "مَنْ قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ مَاتَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ مَاتَ فِي الطَّاعُونِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ مَاتَ فِي الْبَطْنِ فَهُوَ شَهِيدٌ..» [ينظر: صحيح مسلم ج6ص ، مسند أحمد ج2ص31051] ، وكما ترى فإنّ هذه الأحاديث صريحة في كون الأصناف المذكورة هم شهداء على نحو الحقيقة لا على نحو التنزيل الذي افترضه السائل ولا أصل له، اللهم إلّا إذا أراد بالتنزيل ما للإنسان من الأجر والثواب، أي أنّ بعض الأعمال الصالحة يكون أجر العامل فيها مثل أجر الشهيد، لكن من الواضح أنّ موضوع الأجر أجنبي عن الأحاديث أعلاه لا سيّما الأخير منها؛ لأنّها تتحدّث عن تصنيف الشهداء لا عن أجور الأعمال.. فتدبّر جيّداً.
3- ما حكاه الشوكاني من كلمات أئمّة المذاهب فقال: (وأما من قتل مدافعاً عن نفس أو مال أو في الممرّ ظلماً فقال أبو حنيفة وأبو يوسف والهادوية: إنّه شهيد. وقال الإمام يحيى والشافعي: إنّه قيل له شهيد، فليس من الشهداء الذين لا يغسلون)[نيل الأوطار ج4 ص82]. أي أنّه يسمّى شهيداً ويقال عنه أنّه شهيد لكن لا يشمله ما سيأتي من حكم شهداء المعركة.
والحاصل أنّ مفهوم (الشهيد) واسع عند علماء المسلمين وليس مخصوصاً بمَن يُقتل في أرض المعركة؛ فإنّ الطرق إلى الله بعدد أنفاس الخلائق ولا تختصُّ بالجهاد، قال النقوي القائيني: (ثمّ أنّ الشّهيد له معنيان: أحدهما: معناه اللَّغوي العرفي، أعني: المقتول في المعركة في الجهاد مع الكفّار وهذا واضح. ثانيهما: معناه العرفاني الواقعي، أعني من قُتل في سبيل اللَّه سواء قُتل في المعركة أو في جادّة السّلوك والسّفر إلى الحقّ؛ وذلك لأنّ سبيل اللَّه لا اختصاص له بالمعركة بل هو أعمّ منها...)[مفتاح السعادة في شرح نهج البلاغة ج5ص94].
نعم الحكم الفقهي بسقوط التغسيل والتكفين مختصّ بصنفٍ من أصناف الشهداء ، وهو الذي توفّر فيه شرطان: أحدهما: أن يُقتل في معركة مشروعة. والآخر: أن لا يُدركه المسلمون وبه رمق من الحياة. وبالتالي فهو حكم يمتاز به شهيد المعركة عن شهداء غيرها، وليس لتمييز مَن هو شهيد ممّن ليس بشهيد.[يراجع عن الشرطين الرسائل العمليّة لجميع فقهاء الطائفة].
المسألة الثالثة: وترتبط بما توهّمه السائل من وجود المنافاة بين الشهيد بمعنى المقتول في سبيل الله وبين الشاهد على الأعمال يوم القيامة، ولعلّ الذي أوقعه في مثل هذا التوهم هو توجّه نظره إلى المفهوم دون المصداق، وهذا ما يحتاج إلى بيان فنقول:
أوّلاً: نحن عندما نتأمل في عالم الكلمات والمفردات، نجد أن معنى كلمة "الشهيد" يشير إلى الشخص الذي يُقتل في سبيل الله، بينما معنى كلمة "الشاهد" يرتبط بالشخص الذي يُقدم على الإدلاء بالشهادة في النزاعات والمواقف المماثلة. ومثل هذا الفرق يقال عنه: الفرق بين المفاهيم: أي بين ما نفهمه من مفردة الشهيد وما نفهمه من مفردة الشاهد، أمّا لو سرّحنا النظر في عالم الواقع الخارجي يعني عالم الأعيان والأشخاص فقد نجد الشخص الواحد مصداقاً للشهيد المقتول في سبيل الله تعالى، ومصداقاً أيضاً للشاهد يوم القيامة ، وهذا ما يسمّى بالاتحاد في المصداق الخارجي، كما في شخص رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فإنّ المشهور عند المسلمين بلا خلاف يُعتَدُّ به أنّه شهيد مقتول بالسمّ[ينظر: الرابط التالي: https://2u.pw/8L4OFioJ ]، وبذلك وردت الأخبار كالخبر الذي رواه العامّة صحيحاً - عندهم - عن عبد الله بن مسعود قال: ((لَأَن أحلفَ تسعاً أنّ رسول الله "صلّى الله عليه [وآله] وسلّم" قُتل قتلاً أحبُّ إليَّ مِن أن أحلفَ واحدة أنّه لم يقتل؛ وذلك بأنَّ الله جعله نبيّاً واتخذه شهيداً... ))[مسند أجمد بن حنبل:ج1،ص408 ، ورواه الحاكم في المستدرك:ج1،ص59 وقال: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه"، وكذا الهيثمي في مجمع الزوائد:ج9،ص34 وقال: "رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح"]. فالنبيُّ إذن شهيد بمعنى مقتول قتلاً بالسمّ ، وهو أيضاً شهيد بمعنى شاهد على الناس وأعمالهم لقوله تعالى : {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيداً}[النساء:41]، فتحصّل أنّ الإنسان قد يكون شهيداً وشاهداً في آن واحد.
ثانياً: لابدً أن يُعلَم بأنّه لا مجال لفصل مقام الشاهد على الأعمال عن مقام الشهيد في سبيل الله حتّى نضطر – مثلاً - إلى البحث عن مدلول مفردة (الشهيدة) الواردة في السؤال وهل أنّها بالمعنى الأوّل أم الثاني؛ والسبب في عدم إمكان الفصل هو أنّ كلّ شهيد مقتول في سبيل الله هو في نفس الوقت شاهد له تعالى على خلقه؛ فقد ذكر علماء اللغة وغيرهم أنّ واحداً من أسباب تسمية المقتول في سبيله تعالى شهيداً هو لأنّه يشهد بالحقّ لله تعالى على الخلق يوم القيامة، وإليك نزراً يسيراً من كلماتهم:
1- قال علماء اللغة كابن منظور والفيروز آبادي والزبيدي والطريحيّ: (والشَّهِيد في الشَّرْعِ: القَتِيل في سَبيلِ اللهِ، واختُلف في سبب تَسمية: سُمُّوا شهداء لأَنّهُم مِمَّن يُسْتَشْهَدُ يومَ القيامةِ مع النبي "صلّى الله عليه [وآله] وسلّم" على الأُمَمِ الخاليَةِ التي كَذَّبت أَنبياءها في الدُّنيا.[يراجع: لسان العرب ج3ص242، القاموس المحيط ج1ص305، تاج العروس ج5ص46، مجمع البحرين ج3ص81]
2- ونقل ابن حجر في سبب تسميتهم بالشهداء أقوالاً لعلماء العامّة منها: (لأنّهم أحياء فكأنَّ أرواحهم شاهدة أي حاضرة.... أو لأنّهم قاموا بشهادة الحقّ في الله ... أو لأنّهم ممّن يَشهد على الأمم قبله.. )[ يُنظر: فتح الباري ج6 ص43].
فإذا عرفت ذلك فإنّ اعتقاد الطائفة بشهادتها (عليها السلام) مقتولة مظلومة، وتصريح الروايات الصحيحة بذلك لا يتعارضان مع الاعتقاد أيضاً بكونها (عليها السلام) شاهدة على أعمال العباد، غاية ما في الأمر أنّ شهادتها على الأعمال تكون مستفادة من أخبار أخرى غير الخبر المذكور في السؤال، كما مثلاً في تفسير قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً}[البقرة: 143] حيث وردت روايات معتبرة كثيرة عنهم (عليهم السلام) في معنى الأمّة الوسط وأنّهم آل محمد (صلّى الله عليه وآله) منها صحيحة بُرَيد العِجليّ قال: « قُلْتُ لأَبِي جَعْفَرٍ (عليه السلام) قَوْلَ اللَّه تَبَارَكَ وتَعَالَى:{وكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ ويَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} قَالَ: نَحْنُ الأُمَّةُ الْوَسَطُ ونَحْنُ شُهَدَاءُ اللَّه تَبَارَكَ وتَعَالَى عَلَى خَلْقِه وحُجَجُه فِي أَرْضِه.... الخبر »[الكافي ج1ص191]، ولا ريب في أنّ فاطمة (عليها السلام) واحدة من هؤلاء الحجج؛ لقوله (صلّى الله عليه وآله): « أنا وعليّ وفاطمة والحسن والحسين وتسعة من ولد الحسين حجج الله على خلقه، أعداؤنا أعداء الله، وأولياؤنا أولياء الله »[أمالي الصدوق ص194]، بل هي حجّة الحجج: كما في رواية الإمام العسكري(عليه السلام): « نحن حُجَجُ اللَّهِ على خلقه و جدَّتنا فاطمةُ حجَّةٌ اللَّه علينا »[تفسير أطيب البيان للعلّامة السيّد عبد الحسين الطيّب ج13 ص225]، وبالجملة فإنّها (عليها السلام) لو لم تكن شاهدة على الخلق وأعمالهم لَما كانت حجّة عليهم كما لا يخفى.. والحمد لله ربّ العالمين.
اترك تعليق