من خلق الله؟
كيفَ يُردُّ على (شبهةُ وجودِ اللهِ بلا مُوجد )والتفضّلُ علينا بذكرِ المصدر
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته :
لا نظنُّ أنَّ هناكَ شبهةً علميّةً وقعَ حولَها الاختلافُ والتباينُ بينَ الفلاسفةِ المُفكّرينَ تحتَ عنوانِ (شُبهة وجودِ اللهِ بلا مُوجدٍ) فلو كانَ للهِ خالقٌ لما كانَ إلهاً، فكلُّ ما يقعُ عليهِ الخلقُ والإيجادُ يُسمّى مخلوقاً، وكلُّ مخلوقٍ لابدَّ له مِن خالقٍ غيرِ مخلوق، ويبدو أنَّ السائلَ يشيرُ إلى قولِ بعضِ السذّجِ الذينَ يقولونَ: إذا كانَ لكلِّ شيءٍ سببٌ وعلّةٌ فما هوَ السببُ والعلّةُ التي أوجدَت الخالق؟ ولا يوجدُ فيلسوفٌ يحترمُ عقله يتبنّى هذا القول، لأنَّ قانونَ العليّةِ والسببيّةِ يتعلّقُ بالموجوداتِ المُمكنة، أي التي لم تكُن ثمَّ كانَت، ومِن هُنا يقالُ إنَّ كلَّ حادثٍ لابدَّ له مِن مُحدث، أمّا مَن كانَ وجودُه عينَ ذاتِه فلا يقالُ كيفَ وُجدَ؟ وعليهِ فإنَّ المقصودَ منَ القولِ: كلُّ شيءٍ لا بدَّ لهُ من سببٍ، هوَ أنَّ كلَّ شيءٍ لم يكُن ثمَّ كانَ لابدَّ لهُ مِن سببٍ، واللهُ تعالى ليسَ بحادثٍ حتّى يشمله هذا القانون، وبحسبِ عبارةِ الفلاسفةِ فإنَّ الموجودَ المُمكنَ هوَ ما نسألُ عن سببِ وجودِه؛ لأنّهُ ممكنٌ في ذاتِه وحتّى يخرجَ مِن طورِ الإمكانِ إلى طورِ الوجودِ والتحقّقِ لا بدَّ لهُ مِن علّة، أمّا ما كانَ واجباً للوجودِ بذاتِه لا يُسأل عَن سببِه.
وإشكاليّةُ فلاسفةِ الإلحادِ ليسَت في احتياجِ المخلوقِ إلى علّة، فهيَ قضيّةٌ مسلّمةٌ عندَ جميعِ العقلاء، وإنّما إشكاليّتُهم في معرفةِ طبيعةِ تلكَ العلّة، ولأنَّ العقلَ لا يمكنُه الإحاطةُ علماً باللهِ فكفروا بوجودِه، ثمَّ علّقوا أمرَ الكونِ إلى المجهول، أو علّقوهُ على قدمِ المادّةِ وأزليّتِها، ومجملُ ما يقوله الإلحادُ لا يخرجُ عن هذينِ الخيارين، وهذا لا يمكنُ قبوله، فلا يمكنُ الإيمانُ بأنَّ مصدرَ الكونِ والموجوداتِ هوَ المجهولُ أو الصُّدفةُ العمياء، كما لا يمكنُ أن تكونَ المادّةُ بنفسِها قديمةً وأزليّة؛ لأنَّ كلَّ ما في عالمِ المادّةِ حادثٌ وقابلٌ للتغيّرِ والزوالِ فكيفَ يكونُ أزليّاً؟ ومنَ الواضحِ أنَّ الإنسانَ بدأ مشوارَه في البحثِ عن اللهِ بعدَ أن اكتشفَ بعقلِه وتفكيرِه كونَ المادّةِ تحتاجُ إلى خالقٍ، فكيفَ بعدَ ذلكَ ينتكسُ هذا العقلُ الباحثُ ليعودَ بعدَ طولِ بحثٍ وعناءٍ إلى أنَّ المادّةَ هيَ الإله؟ فالمادّةُ والطبيعةُ تكتنفُها مظاهرُ النقصِ والحاجةِ في كلِّ أركانِها وزواياها. يقولُ الإمامُ الصّادقُ عليهِ السّلام: (.. والقديمُ لا يكونُ حديثاً، ولا يتغيّرُ ولا يخلو ذلكَ الشيءُ مِن أن يكونَ جوهراً واحداً ولوناً واحداً، فمِن أينَ جاءَت هذهِ الألوانُ المُختلفةُ والجواهرُ الكثيرةُ الموجودةُ في هذا العالمِ مِن ضروبٍ شتّى؟ ومِن أينَ جاءَ الموتُ إن كانَ الشيءُ الذي أُنشئَت منهُ الأشياءُ حيّاً؟ أو مِن أينَ جاءَت الحياةُ إن كانَ ذلكَ الشيءُ ميّتاً؟ ولا يجوزُ أن يكونَ مِن حيٍّ وميّتٍ قديمينِ لم يزالا، لأنَّ الحيَّ لا يجيءُ منهُ ميّتٌ وهوَ لم يزَل حيّاً، ولا يجوزُ أيضاً أن يكونَ الميّتُ قديماً لم يزَل لِما هوَ به منَ الموت، لأنَّ الميّتَ لا قُدرةَ بهِ ولا بقاء). فالمصنوعُ لا يكونُ قديماً لأنّهُ مُتغيّرٌ ومتبدّلٌ ينتقلُ مِن حالٍ إلى حال، والمادّةُ تشهدُ على نفسِها بالمصنوعيّةِ فهيَ لا تخلوا أن تكونَ جوهراً أو عرضاً متفاوتةً ومُتباينةً فكيفَ والحالُ هذا أن تكونَ قديمة.
حتّى نظريّةُ داروين التي يتمسّكُ بها بعضُ المُلحدينَ قائمةٌ أساساً على الاعترافِ بقانونِ العلّةِ والمعلولِ وأنَّ الحياةَ لا يمكنُ أن تأتي مِن فراغ، والملحدُ وإن كانَ يقدّمُ تفسيراً يرضيهِ عن سرِّ الحياةِ بحسبِ هذهِ النظريّة، إلّا أنّهُ يتوقّفُ عندَ الخليّةِ الواحدة - التي أوجدَت كلَّ أشكالِ الحياةِ - مِن غيرِ أن يكشفَ عَن مصدرِها، فإمّا تتحوّلُ تلكَ الخليّةُ عندَه إلى إلهٍ قائمٍ بذاتِه، وإمّا ينسبُها إلى المجهولِ أيضاً.
وفي المُحصّلةِ نحنُ لم نقِف على وجودِ مثلِ هذهِ الشبهةِ، وكلُّ ما يمكنُ أن يقالَ لماذا لم يشمَل قانونُ السببيّةِ اللهَ تعالى؟ وليسَ في هذا القولِ شبهةٌ وإنّما فيهِ خروجٌ عن السّياقِ الطبيعيّ لقانونِ السببيّة، فالموجودُ إمّا واجبٌ وإمّا ممكنٌ، والواجبُ لا يحتاجُ إلى سببٍ في وجودِه وإلّا ما كانَ واجباً.
اترك تعليق