من هم الذين لا يعذبون في قبورهم ؟
يذكرُ الشيخُ المُفيدُ أنَّ هناكَ أناساً لا يُعذّبونَ في القبرِ وإنّما ينتظرونَ البعثَ وهناكَ أناسٌ يُنعّمونَ ويُعذّبونَ وهُم مَن محضَ الإيمانَ والكُفرَ محضاً. هل هناكَ منَ العلماءِ مَن يرى هكذا رأيٍ أيضاً أم لا ؟ وما هوَ الردُّ على وجهةِ نظرِه المُحترمةِ باحترامِ قائلِها (رضوانُ اللهِ عليه) ؟
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته :
قد أفادَ الشيخُ المفيدُ ذلكَ في أجوبتِه على المسّائلِ السّرويّة، وقد نقلَها عنهُ العلّامةُ المجلسي في بحارِه حيثُ قالَ: وقالَ الشيخُ المفيدُ رحمَه اللهُ في أجوبةِ المسائلِ السّرويّة حيثُ سُئلَ: ما قوله أدامَ اللهُ تأييدَه في عذابِ القبرِ وكيفيّتِه؟ ومتى يكونُ؟ وهل تردُّ الأرواحُ إلى الأجسادِ عندَ التعذيبِ أم لا؟ وهل يكونُ العذابُ في القبرِ أو يكونُ بينَ النفختين؟ الجوابُ:
الكلامُ في عذابِ القبرِ طريقُه السّمعُ دونَ العقل.
وقد وردَ عن أئمّةِ الهُدى عليهم السّلام أنّهم قالوا: ليسَ يُعذّبُ في القبرِ كلُّ ميّتٍ، وإنّما يُعذّبُ مِن جُملتِهم مَن محضَ الكُفرَ محضاً، ولا يُنعّمُ كلُّ ماضٍ لسبيلِه، وإنّما يُنعّمُ منهُم مَن محضَ الإيمانَ محضاً، فأمّا ما سوى هذينِ الصِّنفينِ فإنّه يلهى عنهم، وكذلكَ رويَ أنّه لا يُسألُ في قبرِه إلّا هذانِ الصنفانِ خاصّةً، فعلى ما جاءَ بهِ الأثرُ مِن ذلكَ يكونُ الحكمُ ما ذكرناهُ، فأمّا عذابُ الكافرِ في قبرِه ونعيمُ المؤمنينَ فيه فإنَّ الخبرَ أيضاً قد وردَ بأنَّ اللهَ تعالى يجعلُ روحَ المؤمنِ في قالبٍ مثلِ قالبِه في الدّنيا في جنّةٍ مِن جنّاتِه يُنعّمُه فيها إلى يومِ الساعة، فإذا نُفخَ في الصّورِ أنشأ جسدَه الذي بليَ في الترابِ وتمزّقَ ثمَّ أعادَه إليه وحشرَه إلى الموقفِ، وأمرَ بهِ إلى جنّةِ الخُلد، فلا يزالُ مُنعّماً ببقاءِ اللهِ عزَّ وجل غيرَ أنَّ جسدَه الذي يعادُ فيه لا يكونُ على تركيبِه في الدنيا، بل تُعدّلُ طباعُه، وتحسّنُ صورتُه، فلا يهرمُ معَ تعديلِ الطباع، ولا يمسُّه نصَبٌ في الجنّةِ ولا لغوب، والكافرُ يُجعلُ في قالبٍ كقالبِه في الدّنيا في محلِّ عذابٍ يعاقبُ به، ونارٍ يُعذّبُ بها حتّى الساعة، ثمَّ أنشئَ جسدَه الذي فارقَه في القبرِ ويعادُ إليه، ثمَّ يُعذّبُ بهِ في الآخرةِ عذابَ الأبد، ويركّبُ أيضاً جسدُه تركيباً لا يفنى معَه، وقد قالَ اللهُ عزَّ وجلَّ اسمُه: "النارُ يُعرضونَ عليها غدوّاً وعشيّاً ويومَ تقومُ الساعةُ أدخلوا آلَ فرعونَ أشدَّ العذاب" وقالَ في قصّةِ الشهداءِ: "ولا تحسبنَّ الذينَ قُتلوا في سبيلِ اللهِ أمواتاً بل أحياءٌ عندَ ربّهم يُرزقون" فدلَّ على أنَّ العذابَ والثوابَ يكونانِ قبلَ يومِ القيامةِ وبعدَها، والخبرُ واردٌ بأنّه يكونُ معَ فراقِ الروحِ الجسدَ منَ الدّنيا، والرّوحُ ههُنا عبارةٌ عن الفعالِ الجوهرِ البسيط، وليسَ بعبارةٍ عن الحياةِ التي يصحُّ معها العلمُ والقُدرة لأنَّ هذهِ الحياةَ عرضٌ لا يبقى ولا يصحُّ الإعادةُ فيه فهذا ما عوّلَ عليهِ بالنقلِ وجاءَ به الخبرُ على ما بيّنّاه) (بحارُ الأنوار، ج6، ص 272)
وقد وافقَ العلّامةُ المجلسي الشيخَ المُفيد بقولِه: (اعلَم أنَّ الذي ظهرَ منَ الآياتِ الكثيرةِ والأخبارِ المُستفيضةِ والبراهينِ القاطعةِ هوَ أنَّ النّفسَ باقيةٌ بعدَ الموت، إمّا مُعذّبةٌ إن كانَ ممَّن محضَ الكُفرَ، أو مُنعّمةً إن كانَ ممَّن محضَ الإيمان، أو يلهى عنهُ إن كانَ منَ المُستضعفينَ، ويردُّ إليهِ الحياةَ في القبرِ إمّا كاملاً أو إلى بعضِ بدنِه كما مرَّ في بعضِ الأخبار، ويسألُ بعضُهم عن بعضِ العقائدِ وبعضِ الأعمال، ويُثابُ ويعاقبُ بحسبِ ذلك، وتُضغطُ أجسادُ بعضِهم، وإنّما السّؤالُ والضغطةُ في الأجسادِ الأصليّة، وقد يرتفعانِ عن بعضِ المؤمنينَ كمَن لُقّنَ كما سيأتي، أو ماتَ في ليلةِ الجُمعةِ أو يومِها أو غيرِ ذلكَ ممّا مرَّ وسيأتي في تضاعيفِ أخبار..)
ويتّضحُ مِن ذلكَ أنَّ ما قالَه الشيخُ المفيدُ والعلّامةُ المجلسي مصدرُه رواياتُ أهلِ البيتِ (عليهم السّلام)، فقد عقدَ مُحمّدُ بنُ يعقوبَ الكُليني باباً في الكافي تحتَ عنوانِ (المسألةِ في القبرِ ومَن يُسألُ ومَن لا يُسأل) وأوردَ تحتَ هذا العنوانِ مجموعةً منَ الأحاديثِ التي تحصرُ عذابَ القبرِ ونعيمَه فيمَن محضَ الكُفرَ أو الإيمانَ، ومثالٌ لذلكَ عن أبي بكرٍ الحضرمي قالَ: قالَ أبو عبدِ اللهِ (عليهِ السّلام): لا يسألُ في القبرِ إلّا مَن محضَ الإيمانَ محضاً أو محضَ الكُفرَ محضاً والآخرونَ يُلهونَ عنهم). وعن عبدِ اللهِ بنِ سنان، عن أبي عبدِ اللهِ (عليهِ السلام) قالَ: إنّما يُسألُ في قبرِه مَن محضَ الإيمانَ محضاً والكفرَ محضاً وأمّا ما سِوى ذلكَ فيُلهى عنهم). وعن منصورٍ بنِ يونس، عن ابنِ بكير، عن أبي جعفرٍ (عليهِ السلام) قالَ، إنّما يُسألُ في قبرِه مَن محضَ الإيمانَ محضاً والكُفرَ محضاً وأمّا ما سِوى ذلكَ فيُلهى عنه) (الكافي - الشيخُ الكُليني - ج ٣ - الصفحةُ ٢٣٥)
وأوردَ العلّامةُ الحلّي في كتابِه (الإيقاظُ منَ الهجعةِ بالبُرهانِ على الرجعة) عن أبي جعفرٍ (عليهِ السّلام) قالَ: لا يُسألُ في القبرِ إلّا مَن محضَ الإيمانَ محضاً أو محضَ الكُفرَ محضاً، ولا يُسألُ في الرجعةِ إلّا مَن محضَ الإيمانَ محضاً أو محضَ الكُفرَ محضاً، قلتُ: فسائرُ النّاس؟ قالَ: يُلهى عنه) (ج1، ص 254)
وفي المُحصّلةِ ما قالَه الشيخُ المفيدُ ليسَ وجهةَ نظرٍ شخصيّةً حتّى يتمَّ الردُّ عليه، وإنّما تابعٌ في ذلكَ لرواياتِ أهلِ البيتِ (عليهم السّلام)، ولم نقِف على مَن خالفَ هذا الأمرَ منَ العُلماء.
اترك تعليق