ما هوَ مقصودٌ مِن هذهِ الآية ؟ "لا إِكرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَبَيَّنَ الرُّشدُ مِنَ الغَيِّ " البقرة:256
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته :
الإكراهُ مِن (كرِهَ يَكرَه) وهوَ مقتُ الشيءِ والاشمئزازُ منه، وعليهِ يكونُ الإكراهُ هو الحملُ على خلافِ ما يحبُّ ويرغب، سواءٌ كانَ إكراهاً للنفسِ مثلَ أن يُكرهَ الإنسانُ نفسَه على فعلِ شيءٍ لا يحبُّه، أو كانَ إكراهاً للغيرِ كأن يُجبرَ شخصاً آخرَ على فعلِ ما يمقتهُ ويشمئزُّ منه، وقد نهَت الآيةُ عن الإكراهِ في الدينِ مُطلقاً، أي لا يجوزُ حملُ الناسِ على دينِ اللهِ وهُم لا يرغبونَ فيه، قالَ تعالى: (أنلزمكموها وأنتُم لها كارهون) أي لا يمكنُ أن نجبرَكم على الإسلامِ وأنتُم كارهونَ له، والسّببُ في ذلكَ أنَّ الإسلامَ يشترُط في الانتماءِ إليه حصولُ اليقينِ والقناعة، قالَ تعالى: (إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلبٌ أَو أَلقَى السَّمعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) أي أنَّ استجابةَ الإنسانِ للدّينِ يجبُ أن تكونَ نابعةً مِن قلبِه وعقلِه، وقد علّلَت الآيةُ عدمَ الإكراهِ بقولِها (قَد تَبَيَّنَ الرُّشدُ مِنَ الغَيِّ) فمسؤوليّةُ الدينِ هيَ الهدايةُ لطريقِ الرشدِ وليسَ إجبارُهم على إتّباعه، وإنّما على الإنسانِ اختيارُ الرشدِ وإتّباعه بكاملِ حُرّيتِه وإرادتِه، قالَ تعالى: (ونفسٍ وما سوّاها ( 7 ) فألهمَها فجورَها وتقواها ( 8 ) قد أفلحَ مَن زكّاها ( 9 ) وقد خابَ مَن دسّاها ( 10 ). فالقولُ إنَّ الهدايةَ منَ اللهِ لا يعني أنَّ اللهَ هوَ الذي ينوبُ عَن عبادِه، أو هو الذي يأخذُ بأيديهم من دونِ إرادةٍ واختيارٍ منهم، وإنّما تقعُ مسؤوليّةُ ذلكَ على المُكلّفينَ فمَن شاءَ فليؤمِن ومَن شاءَ فليكفُر.
ولتفصيلٍ أكثر ننقلُ ما جاءَ في تفسيرِ الميزانِ بخصوصِ هذهِ الآية:
(بيانُ) قولِه تعالى: لا إكراهَ في الدينِ قد تبيّنَ الرّشدُ منَ الغي، الإكراهُ هوَ الإجبارُ والحملُ على الفعلِ مِن غيرِ رضى، والرشدُ بالضمِّ والضمّتين: إصابةُ وجهِ الأمرِ ومحجّةِ الطريقِ ويقابلهُ الغيّ، فهُما أعمُّ منَ الهُدى والضّلال، فإنّهما إصابةُ الطريقِ الموصلِ وعدمُها على ما قيلَ، والظاهرُ أنَّ استعمالَ الرشدِ في إصابةِ محجّةِ الطريقِ مِن بابِ الانطباقِ على المِصداق، فإنَّ إصابةَ وجهِ الأمرِ مِن سالكِ الطريقِ إن يركَب المحجّةَ وسواءَ السبيل، فلزومُه الطريقَ مِن مصاديقِ إصابةِ وجهِ الأمر، فالحقُّ أنَّ معنى الرشدِ والهُدى معنيانِ مُختلفانِ ينطبقُ أحدُهما بعنايةٍ خاصّةٍ على مصاديقِ الآخرِ وهوَ ظاهرٌ، قالَ تعالى: "فإن آنستُم منهُم رشداً"، وقالَ تعالى: "ولقد آتينا إبراهيمَ رُشدَه مِن قبل"، وكذلكَ القولُ في الغيّ والضّلال، ولذلكَ ذكرنا سابقاً: أنَّ الضّلالَ هوَ العدولُ عن الطريقِ معَ ذكرِ الغايةِ والمقصد، والغيُّ هو العدولُ مع نسيانِ الغايةِ فلا يدري الإنسانُ الغويُّ ماذا يريدُ وماذا يقصد.
وفي قولِه تعالى: لا إكراهَ في الدينِ، نفيُ الدينِ الإجباري، لمّا أنَّ الدينَ وهوَ سلسلةٌ منَ المعارفِ العلميّةِ التي تتبعُها أخرى عمليّة يجمعُها أنّها اعتقاداتٌ، والاعتقادُ والإيمانُ منَ الأمورِ القلبيّةِ التي لا يحكمُ فيها الإكراهُ والإجبار، فإنَّ الإكراهَ إنّما يؤثَرُ في الأعمالِ الظاهريّة والأفعالِ والحركاتِ البدنيّةِ المادّيّة، وأمّا الاعتقادُ القلبيّ فلهُ عللٌ وأسبابٌ أخرى قلبيّةٌ مِن سنخِ الاعتقادِ والإدراك، ومنَ المُحالِ أن يُنتجَ الجهلُ علماً، أو تولّدَ المُقدّماتُ غيرُ العلميّةِ تصديقاً علميّاً، فقولُه: لا إكراهَ في الدين، إن كانَ قضيّةً إخباريّةً حاكيةً عن حالِ التكوينِ أنتجَ حُكماً دينيّاً بنفي الإكراهِ على الدينِ والاعتقاد، وإن كانَ حُكماً انشائيّاً تشريعيّاً كما يشهدُ به ما عقبَه تعالى مِن قوله: قد تبيّنَ الرشدُ منَ الغي، كانَ نهياً عن الحملِ على الاعتقادِ والإيمانِ كرهاً، وهوَ نهيٌ مُتّكٍ على حقيقةٍ تكوينيّة، وهيَ التي مرَّ بيانُها أنَّ الإكراهَ إنّما يعملُ ويؤثّرُ في مرحلةِ الأفعالِ البدنيّةِ دونَ الاعتقاداتِ القلبيّة.
وقد بيّنَ تعالى هذا الحُكمَ بقولِه: قد تبيّنَ الرشدُ منَ الغي، وهوَ في مقامِ التعليلِ فإنَّ الإكراهَ والإجبارَ إنّما يركنُ إليه الآمرُ الحكيمُ والمُربّي العاقلُ في الأمورِ المُهمّة التي لا سبيلَ إلى بيانِ وجهِ الحقِّ فيها لبساطةِ فهمِ المأموِر ورداءة ذهنِ المحكوم، أو لأسبابٍ وجهاتٍ أخرى، فيتسبّبُ الحاكمُ في حُكمِه بالإكراهِ أو الأمرِ بالتقليدِ ونحوه، وأمّا الأمورُ المُهمّة التي تبيّنَ وجهُ الخيرِ والشرّ فيها، وقرّرَ وجهُ الجزاءِ الذي يلحقُ فعلَها وتركَها فلا حاجةَ فيها إلى الإكراه، بل للإنسانِ أن يختارَ لنفسِه ما شاءَ مِن طرفي الفعلِ وعاقبتي الثوابِ والعقاب، والدينُ لمّا انكشفَت حقائقُه واتّضحَ طريقُه بالبياناتِ الإلهيّةِ الموضّحةِ بالسنّةِ النبويّةِ فقد تبيّنَ أنَّ الدينَ رشٌد والرشدُ في إتّباعه، والغيُّ في تركِه والرغبةِ عنه، وعلى هذا لا مُوجبَ لأن يُكرهَ أحدٌ أحداً على الدين.
وهذهِ إحدى الآياتِ الدالّةِ على أنَّ الإسلامَ لم يبتنِ على السيفِ والدم، ولم يُفتِ بالإكراهِ والعنوةِ على خلافِ ما زعمَه عدّةٌ منَ الباحثينَ منَ المُنتحلينَ وغيرِهم (تفسيرُ الميزان ج7، ص 342 – 343)
اترك تعليق