الله تعالى يعلم ما سأكون حتى قبل أن يخلقني لماذا يعذبني؟
إنّ الله تعالى يتعلق علمه بكل الأشياء حتى أفعال الإنسان الاختيارية، وهذا يستلزم سلب الاختيار عنه، فهو مسيّر لا مخيّر، لأنّه تعالى يعلم أنّه سوف يرتكب الذنب والجريمة وبالتالي أجبره على المعصية، فإنّ علمه تعالى لا يتخلّف عن المعلوم، وإذا تخلّف ولم يصدر منه الذنب والمعصية يلزم تخلف علمه تعالى وينقلب جهلا تعالى عن ذلك، وعلى هذا ما وجه استحقاق الثواب والعقاب واجرائهما، وإنزال الكتب، وجعل التكاليف. فكيف يصح تكليف الإنسان بعمل ليس هو فاعله وموجده .....
للإجابة عن هذه الشبهة ينبغي تقديم مقدمات:
المقدمة الأولى: لابد معرفة الهدف الأسمى والحقيقي من خلق الخلق.
فنقول: إنّ من رام معرفة الحق ومعرفة لماذا الله تعالى خلق الخلق؟
لا يخلو من أمرين إمّا الرحمة والرأفة بخلقه، أو للظلم والجور عليهم، والتالي باطل، لأنّه تعالى حكيم والحكيم لا يفعل القبيح.
والمقدم، ما توضحه رواية جعفر بن محمد بن عمارة عن أبيه قال: سألت الصادق جعفر بن محمد (عليه السلام) فقلت له: لِمَ خلق الله الخلق؟ فقال: إنّ الله تبارك وتعالى لم يخلق خلقه عبثا ولم يتركهم سدى، بل خلقهم لإظهار قدرته وليكلفهم طاعته فيستوجبوا بذلك رضوانه، وما خلقهم ليجلب منهم منفعة ولا ليدفع بهم مضّرة بل خلقهم لينفعهم ويوصلهم الى نعيم الابد(1).
وما يوضّحه كلام مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام)
((أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خَلَقَ الْخَلْقَ حِينَ خَلَقَهُمْ غَنِيّاً عَنْ طَاعَتِهِمْ، آمِناً مِنْ مَعْصِيَتِهِمْ، لِأَنَّهُ لَا تَضُرُّهُ مَعْصِيَةُ مَنْ عَصَاهُ، وَلَا تَنْفَعُهُ طَاعَةُ مَنْ أَطَاعَهُ، فَقَسَمَ بَيْنَهُمْ مَعَايِشَهُمْ وَوَضَعَهُمْ مِنَ الدُّنْيَا مَوَاضِعَهُمْ))(2)
يظهر من خلال الرواية والخطبة الشريفة أنّ الباري تعالى خلق الخلق لتتسامى وتعلوا نفوسهم الى درجات الكمال، ومن خلال ذلك يستحقون دخول الجنة التي هي غاية ما يريده الانسان، ولا يصل الى ذلك إلا من خلال العبادة والطاعة لله تعالى قال تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُون)، ولا يمكن للعابد والمطيع أن يعبد ولا يعرف، فلابد من المعرفة، لأنّها من شرائط العبادة، لذلك ورد عن المصطفى (صلى الله عليه وآلة) :(أول عبادة الله المعرفة به)(3).
وقال: أمير المؤمنين (عليه السلام): (أول الدين معرفته)(4)، فإذا عرفوه عبدوه وإذا عبدوه استغنوا بعبادته عن عبادة من سواه، والعبادة توجب الرحمة التي نتيجتها كمال الإنسان قال تعالى: (إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ)(5)
المقدمة الثانية:
إنّ الفاعل الحقيقي المباشر، والمسبب لأفعال الإنسان، والمحصّل لها، والمعطي لوجودها هو نفسه باختياره، والله تعالى يفيض عليه الوجود، فأفعال الإنسان تنسب الى الإنسان باعتباره المباشر والمسبب، وتنسب الى الله تعالى باعتباره تعالى مفيض الوجود.
فعلمه تعالى قبل الايجاد ليس علة وسبب لصدور المعلوم (الخلق)، بل علمه تعالى محيط بالأشياء، فالله تعالى لم يجبر الإنسان على المعصية، بل انه عالم بأنّ العبد هو من يختار المعصية بكامل ارادته واختياره فلم يجبره على ذلك، فعلمه تعالى بأفعال العباد ليس علة تامة تجبرهم على وقوع الطاعة أو المعصية، ((إنّ علمه سبحانه لم يتعلق بصدور أي أثر من مؤثّره على أيّ وجه اتفق، وإنمّا تعلق علمه بصدور الآثار عن العلل مع الخصوصية الكامنة في نفس تلك العلل...وإن كانت العلة عالمة وشاعرة ومريدة ومختارة كالإنسان، فقد تعلّق علمه على صدور أفعالها منها بتلك الخصوصيات، وانطباع فعلها بصبغة الإختيار والحرية، فلو صدر فعل الإنسان منه بهذه الكيفية لكان علمه مطابقا للواقع غير متخلف عنه.))(6)
فعلمه لا يكون علّة لدخولهم النار أو الجنة، بل بالإختيار والابتلاء، فهو تعالى لم يجبر أحدا على الطاعة ولا على المعصية، بل أعطى للإنسان كامل الإرادة والإختيار، فهو يختار ما يريد وهذا هو المصحح لانزال الكتب وإرسال الرسل والحجج (عليهم السلام) وجعل التكاليف على العباد وذلك ما أشارت اليه الآيات والروايات.
أمّا الآيات:
منها: قوله تعالى (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا)(7)
ومنها قوله تعالى: (كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ)(8)
ومنها: قوله تعالى: (كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ)(9)
ومنها: قوله تعالى: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8))(10)
فالآيات الكريمة ظاهرة في التخيير لا في الجبر والقهر، فالله تعالى بيّن الأحكام الإلهية، وكل ما فيه شؤون حياة الناس ومصالحهم ومفاسدهم، وترك لهم حرية الاختيار في ذلك.
منها: قوله تعالى: (وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُم بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَىٰ)(11)
ومنها: قوله تعالى: (كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَىٰ قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ)(12)
فليس من العدل والحكمة إكرام المسيء الذي لا يستحق الإكرام، فإنّ من قتل إنسان ظلما وعدوانا وسلب أمواله وسبى عياله أمِنَ العدل إكرامه؟!
أم أنّ هذا الفعل تأباه القوانين السماوية والأرضية وكل من له لب.
أمّا الروايات:
منها: رواية هشام بن سالم عن الصادق (عليه السلام) «قال: الله أكرم من أن يكلّف الناس ما لا يطيقون، والله أعزّ من أن يكون في سلطانه ما لا يريد»(13)
ومنها: صحيحة يونس بن عبدالرّحمن عن غير واحد عن أبي جعفر وأبي عبدالله (عليه السلام) «قالا: إنّ الله أرحم بخلقه من أن يجبر خلقه على الذنوب ثمّ يعذّبهم عليها، والله أعزّ من أن يريد أمراً فلا يكون، قال: فسئلا هل بين الجبر والقدر منزلة ثالثة؟ قالا: نعم، أوسع ممّا بين السماء والأرض»(14).
ومنها: صحيحته الاُخرى عن الصادق (عليه السلام) قال: «قال له رجل: جعلت فداك أجبر الله العباد على المعاصي؟ قال: الله أعدل من أن يجبرهم على المعاصي ثمّ يعذّبهم عليها.(15)
ومنها: عن هشام ابن سالم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ما كلّف الله العباد كلفة فعل، ولا نهاهم عن شيء حتى جعل لهم الاستطاعة، ثم أمرهم ونهاهم فلا يكون العبد آخذا ولا تاركا إلا باستطاعة متقدمة قبل الأمر والنهي، وقبل الأخذ والترك، وقبل القبض والبسط.(16)
ومنها وفي حديث آخر، وقد ذُكر عنده الجبر والتفويض، يقول الإمام الرضا (عليه السلام) لجالسيه: «أَلَا أُعْطِيكُمْ فِي هَذَا أَصْلًا لَا تَخْتَلِفُونَ فِيهِ، وَلَا يُخَاصِمُكُمْ عَلَيْهِ أَحَدٌ إِلَّا كَسَرْتُمُوهُ؟
قُلْنَا: إِنْ رَأَيْتَ ذَلِكَ.
فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يُطَعْ بِإِكْرَاهٍ، وَلَمْ يُعْصَ بِغَلَبَةٍ، وَلَمْ يُهْمِلِ الْعِبَادَ فِي مُلْكِهِ، هُوَ الْمَالِكُ لِمَا مَلَّكَهُمْ، وَالْقَادِرُ عَلَى مَا أَقْدَرَهُمْ عَلَيْهِ، فَإِنِ ائْتَمَرَ الْعِبَادُ بِطَاعَتِهِ لَمْ يَكُنِ اللَّهُ عَنْهَا صَادًّا وَلَا مِنْهَا مَانِعاً، وَإِنِ ائْتَمَرُوا بِمَعْصِيَتِهِ فَشَاءَ أَنْ يَحُولَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ذَلِكَ فَعَلَ، وَإِنْ لَمْ يَحُلْ وَفَعَلُوهُ، فَلَيْسَ هُوَ الَّذِي أَدْخَلَهُمْ فِيهِ. ثُمَّ قَالَ: مَنْ يَضْبِطْ حُدُودَ هَذَا الْكَلَامِ فَقَدْ خَصَمَ مَنْ خَالَفَهُ» (17)
يتبين من هذه الروايات الشريفة عدم إجبار الباري تعالى خلقه على أعمالهم الصالحة والطالحة، من الذنوب التي توجب استحقاقهم العذاب، فإنهّا ظاهرة بل تنص على أنّه تعالى لا يكلّف الناس بعمل ولا ينهاهم ويزجرهم عن عمل إلا جعل لهم القابلية والاستطاعة تكوينا وتشريعا، أمّا من حيث التكوين فلو لم يمكنّهم من عمل وأمرهم به يلزم التكليف بما لا يطاق أمّا من حيث التشريع يلزم العسر والحرج الشديدين.
__________________________________________
(1) علل الشرائع، الصدوق، ج1، ص9
(2) نهج البلاغة خطب الامام علي(ع)، ج2، ص160
(3) بحار الانوار ج74، ص74
(4) نهج البلاغة ج1، ص14
(5) سورة هود الآية: 119
(6) الالهيات ج2 ص 199ـ ص200
(7) سورة الانسان الآية: 3
(8) سورة الطور الآية: 21
(9) سورة المدثر الآية: 38
(10) سورة الشمس الآية: 7و 8
(11) سورة طه الآية: 134
(12) سورة الملك الآية: 8و9
(13) الكافي ج1، ص160
(14) [اُصول الكافي 1: 159 ح 9]
(15) الكافي، ج1، ص159
(16) التوحيد، ص279
(17) عيون أخبار الرضا، الشيخ الصدوق، ج1، ص132، رقم 48.
اترك تعليق