كيفَ يحتجُّ اللهُ على عبادِه بإمامٍ غائبٍ لا يرونَه ؟  

: سيد حسن العلوي

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته  :  

أوّلاً: الإيمانُ بالغيبِ مِن ضروريّاتِ الأديانِ السماويّة، فجميعُها نادَت بالإيمانِ بالغيب، فاللهُ غيبٌ، والملائكةُ غيبٌ، وما في السماءِ غيبٌ، والرّسلُ والأنبياءُ والأئمّةُ بالنسبةِ إلى زمانِنا غيبٌ لنا، وإبليسُ والشياطينُ وعالمُ الجنِّ غيبٌ، والقيامةُ غيبٌ، والجنّةُ والنارُ غيبٌ، والصراط والميزانُ والحوضُ والحسابُ غيبٌ، وقد مدحَ اللهُ المُتّقينَ على إيمانِهم بالغيبِ فقال: { ذلكَ الكتابُ لا ريبَ فيه هُدىً للمُتّقين، الذينَ يؤمنونَ بالغيبِ ويقيمونَ الصلاةَ وممّا رزقناهُم ينفقون. } [البقرةُ: 2 – 3].  

كثيرٌ مِن عقائدِنا التي نؤمنُ بها غيبٌ، ولكِن قامَ الدليلُ على ثبوتِها وصحّتِها، إمّا منَ العقلِ أو النقل.  

  

ثانياً: قالَ تعالى: { وإذ قالَ ربُّكَ للملائكةِ إنّي جاعلٌ في الأرضِ خليفة } فقد أخبرَ اللهُ عن الخليفةِ قبلَ أن يخلقَه، وهوَ منَ الغيبِ، وكانَ الغرضُ مِن هذا الإخبارِ أن يعتقدَ الملائكةُ طاعتَه، ويوطّنوا أنفسَهم على الخضوعِ له، فأضمرَ إبليسُ الحسدَ له، والتكبّرَ والتمرّدَ عليهِ، وعدم طاعتِه، فصارَ مُنافقاً بهذا الاعتقاد، ولذا لم يسجُد لهُ لاحقاً.  

بينَما الملائكةُ أضمروا له الطاعةَ واشتاقوا إليه، ووطّنوا أنفسَهم على طاعةِ خليفةِ اللهِ متى ما خلقَه الله، فصاروا مؤمنينَ في أعلى الدّرجات، ووفّقَهم اللهُ للسجودِ له لاحقاً. (لاحِظ كمالَ الدينِ للصّدوق، ص41).  

ومِن هُنا يتبيّنُ أنّ اللهَ تعالى اختارَ الخليفةَ قبلَ الخليقةِ، وأخبرَ الملائكةَ عنه، واحتجَّ عليهم به.  

  

ثالثاً: أمّا في هذا الزمانِ فهناكَ جملةٌ منَ الغائبينَ عنّا منَ الأولياءِ والأعداء، فعيسى والخضرُ وإلياسُ منَ الأولياء، وإبليسُ والدجّالُ من أعداءِ الله، نؤمنُ بوجودِهم، لا أقل عيسى وإبليس، فمنَ المقطوعِ به غيبتُهما وبقاؤهما عندَ جميعِ المُسلمين، والبقيّةُ عندَ أغلبهم، أحياءٌ يُرزقون، غائبونَ عنّا، ويجبُ علينا الإيمانُ ببقاءِهم وغيبتهِم، ومعَ ذلكَ لا تضرُّ غيبتُهم بالإيمانِ بهم.  

  

رابعاً: إنّ جميعَ الأنبياءِ آمنوا بخاتمِ الأنبياءِ والمُرسلينَ محمّدٍ بنِ عبدِ الله (صلّى اللهُ عليهِ وآله) وبشّروا أممَهم به وبمجيئِه في آخرِ الزّمان، فآمنوا به جميعاً، مع أنّهُ غائبٌ عنهم، ولمّا يولد، بل أخذَ الإقرارَ منهم في عوالمَ سابقةٍ بأن ينصروه في عالمِ الدّنيا ويبشّروا بمجيئِه، قالَ تعالى: { وإذ أخذَ اللهُ ميثاقَ النبيّينَ لما آتيتُكم مِن كتابٍ وحكمةٍ ثمَّ جاءَكم رسولٌ مُصدّقٌ لما معكم لتؤمنّنَ به ولتنصرنّه قالَ أأقررتُم وأخذتُم على ذلكُم إصري قالوا أقررَنا قالَ فاشهدوا وأنا معكُم منَ الشاهدين } [آلُ عمران: ٨١]  

وقالَ تعالى: { وإذ قالَ عيسى ابنُ مريم يا بني إسرائيلَ إنّي رسولُ اللهِ إليكم مُصدّقاً لِما بينَ يديَّ منَ التوراةِ ومُبشّرا برسولٍ يأتي مِن بعدي اسمُه أحمد فلمّا جاءَهم بالبيّناتِ قالوا هذا سحرٌ مُبين } [الصفُّ: ٦]  

وقالَ تعالى: { الَّذينَ يَتَّبِعونَ الرَّسولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذي يَجِدونَهُ مَكتوبًا عِندَهُم فِي التَّوراةِ وَالإِنجيلِ يَأمُرُهُم بِالمَعروفِ وَيَنهاهُم عَنِ المُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيهِمُ الخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنهُم إِصرَهُم وَالأَغلالَ الَّتي كانَت عَلَيهِم فَالَّذينَ آمَنوا بِهِ وَعَزَّروهُ وَنَصَروهُ وَاتَّبَعُوا النّورَ الَّذي أُنزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ المُفلِحونَ } [الأعرافُ: ١٥٧]  

فهل غيبةُ النبيّ محمّدٍ (صلّى اللهُ عليهِ وآله) عن هؤلاءِ الأنبياءِ، وغيبتُه عَن أممِهم تضرُّ بنبوّتِه ورسالتِه؟! كلّا.  

  

خامساً: مسألةُ خروجِ الإمامِ المهدي (عجّلَ اللهُ فرجَه) في آخرِ الزمان، منَ المسائلِ التي يؤمنُ بها جميعُ المُسلمين، ورواياتُها عن النبيّ (صلّى اللهُ عليهِ وآله) متواترةٌ، وتعدُّ مِن مسائلِ الإيمانِ، وجميعُ المُسلمينَ منتظرونَ خروجَه، بغضِّ النظرِ عن ولادتِه أو عدمِها، الكلامُ عن أصلِ خروجِه في آخرِ الزمان، وأنّهُ مِن أحفادِ النبيّ (صلّى اللهُ عليهِ وآله)، فهذا المقدارُ ممّا تسالمَ عليه جميعُ المُسلمين، ولذا فجميعُ الأمّةِ المُحمّديّة تنتظرُ هذا الإمامَ الذي يصلحُ اللهُ البشريّةَ على يديه المُباركتين.  

فهوَ غائبٌ، مولودٌ خلفَ الستار – على رأي الشيعة – وسيولدُ في آخرِ الزمان – على رأي غيرِهم – فهوَ على كِلا الحالينِ غائبٌ، ومعَ ذلكَ فنحنُ مكلّفونَ بالإيمانِ به، وبخروجِه في آخرِ الزمان.  

  

سادِساً: قال َتعالى: { قُل فَلِلَّهِ الحُجَّةُ البالِغَةُ فَلَو شاءَ لَهَداكُم أَجمَعينَ } [الأنعام: ١٤٩]. فحججُ اللهِ متنوّعةٌ، تارةً يحتجُّ عليهم بنبيٍّ أو إمامٍ يولدُ لاحقاً، وأخرى يحتجُّ عليهم بنبيٍّ أو إمامٍ حاضر، وثالثةً يحتجُّ عليهم بنبيّ أو إمامٍ غائبٍ عنهم، وغيبةُ الإمامِ لا تضرُّ بحُجّيّتِه، ولا بحُجّيّةِ

الحُجّة.  

ولو كانَت غيبتُه تضرُّ، للزمَ منها بطلانُ نبوّةِ هؤلاءِ الأنبياء:  

1- نبيُّ اللهِ موسى غابَ عن قومِه أربعينَ يوماً، قالَ تعالى: { وَواعَدنا موسى ثَلاثينَ لَيلَةً وَأَتمَمناها بِعَشرٍ فَتَمَّ ميقاتُ رَبِّهِ أَربَعينَ لَيلَةً وَقالَ موسى لِأَخيهِ هارونَ اخلُفني في قَومي وَأَصلِح وَلا تَتَّبِع سَبيلَ المُفسِدينَ } [الأعرافُ: ١٤٢] ولمّا رجعَ إلى قومِه وجدَهم ارتدّوا وعبدوا العجلَ، فهل غيبتُه أربعينَ يوماً عنهم ضرَّت بنبوّتِه؟!

ولو كانَت الغيبةُ تضرُّ بحُجّيّةِ حُجّةِ اللهِ للزمَ أن تبطلَ نبوّةُ موسى لا أقل في فترةِ غيبتِه عن بني إسرائيل.  

2- خاتمُ الأنبياءِ وسيّدُ المُرسلينَ (صلّى اللهُ عليهِ وآله) فإنّه غابَ عن الناسِ فترةَ هجرتِه مِن مكّةَ إلى المدينة، واختفى في الغارِ، وانقطعَت أخبارِه، فهل غيبتُه تلكَ الفترةَ القصيرةَ تضرُّ بحُجّيّتِه وتبطلُ نبوّتُه؟!   

  

سابعاً: إنّ حضورَ الإمامِ وغيبتَه يدورانِ مدارَ الحكمةِ الإلهيّة، فإن كانَت الحكمةُ تقتضي حضورَه ووجودَه بينَ الناس، فيكونُ حاضِراً موجوداً بينَهم، وإن اقتضَت الحكمةُ غيبتَه واستتارَه وحجبَه عن الناسِ (حمايةً للإمامِ أو تأديباً للأمّةِ أو لغيرِهما) سترَه اللهُ وغيّبَه عن أعينِ الناس.  

فقد اقتضَت الحكمةُ سترَ ولادةِ النبيّ إبراهيم وموسى، والغيبةَ المؤقّتةَ لموسى ويونس.   

روى الصّدوقُ بسندِه عن عبدِ الحميدِ ابنِ أبي الديلم قالَ : قالَ الصادقُ جعفرٌ بنُ محمّدٍ عليهما السّلام : يا عبدَ الحميدِ إنَّ للهِ رسلاً مُستعلنينَ ورسلاً مُستخفين، فإذا سألتَه بحقِّ المُستعلنينَ فسلهُ بحقِّ المُستخفين. (كمالُ الدينِ للصّدوق، ص21).  

وفي الحديثِ المشهورِ عندَ جميعِ المُسلمينَ المرويّ عن كميلٍ بنِ زياد عن أميرِ المؤمنينَ (ع) قالَ: اللهمَّ بلى ولا تخلو الأرضُ مِن حُجّةٍ قائمٍ للهِ بحُجّتِه، إمّا ظاهراً معلوماً، وإمّا خائفاً مغموراً، لئلّا تبطلَ حججُ اللهِ وبيّناتُه. (الغيبةُ للنّعماني، ص136).  

ورويَ عن أميرِ المؤمنينَ (ع) أنّهُ تكلّمَ بهذا الكلامِ وحفظَ عنه وخطبَ به على منبرِ الكوفة : اللهمَّ إنّه لا بدَّ لكَ مِن حُججٍ في أرضِك ، حجّةٍ بعدَ حُجّةٍ على خلقِك ، يهدونَهم إلى دينِك ، ويعلمونَهم علمَك كيلا يتفرّقَ أتباعُ أوليائِك ، ظاهرٍ غيرِ مُطاعٍ ، أو مُكتتمٍ يترقّبُ ، إن غابَ عن الناسِ شخصُهم في حالِ هُدنتِهم فلم يغِب عنهم قديمُ مبثوثِ علمِهم ، وآدابُهم في قلوبِ المؤمنينَ مُثبتةٌ ، فهُم بها عاملون .  

ويقولُ عليهِ السّلام في هذهِ الخُطبة في موضعٍ آخر : فيمَن هذا ؟ ولهذا يأزرُ العلمُ إذا لم يوجَد لهُ حملةٌ يحفظونَه ويروونَه ، كما سمعوهُ من العلماءِ ويصدقونَ عليهم فيه ، اللهمَّ فإنّي لأعلمُ أنَّ العلمَ لا يأزرُ كلُّه ولا ينقطعُ موادُّه وإنّكَ لا تُخلي أرضَك مِن حُجّةٍ لكَ على خلقِك ، ظاهرٍ ليسَ بالمُطاع ، أو خائفٍ مغمورٍ كيلا تبطُلَ حُجّتُك ولا يضلَّ أولياؤك بعدَ إذ هديتَهم بل أينَ هُم ؟ وكم هُم ؟ أولئكَ الأقلّونَ عدداً ، الأعظمونَ عندَ اللهِ قدراً. (الكافي للكُليني: 1 / 339).  

  

ثامناً: إنّ غيبةَ الإمامِ الحُجّةِ (عجّلَ اللهُ فرجَه) لم يكُنِ اللهُ سببها، ولا الإمامُ نفسُه، وإنّما الناسُ والظلمةُ هُم سببُ غيبةِ وليّ اللهِ وحُجّتِه، ولذا غيّبَه عنهم، فللهِ مشروعٌ كبيرٌ وضخمٌ على يدِ الإمامِ المهدي (عجّلَ اللهُ فرجهَ) ولذا ادّخرَه لذلكَ المشروع، ومتى حانَ وقتُه أظهرَه اللهُ غوثاً ومُنجياً ومُخلّصاً للبشريّةِ جميعاً.  

  

والحمدُ للهِ ربِّ العالمين.