عندَ حصولِ حالةِ نسخِ آيةٍ بأخرى، اليس من الضروري تقدّمِ الآيةِ المنسوخةِ على الناسخة؟
الذي نفهمُه عندَ حصولِ حالةِ نسخِ آيةٍ بأخرى، ضرورةُ تقدّمِ الآيةِ المنسوخةِ على الناسخة، لكنّنا نلاحظُ في سورةِ البقرةِ حصولَ العكس، فيتقدّمُ الناسخُ على المنسوخ، فيتقدّمُ قولهُ تعالى: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّونَ مِنكُم وَيَذَرُونَ أَزوَاجًا يَتَرَبَّصنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَربَعَةَ أَشهُرٍ وَعَشرًا..) والتي حدّدَت عدّةَ المتوفّي عنها زوجُها بأربعةِ أشهرٍ وعشرةِ أيّام، بينَما تأتي الآيةُ المنسوخةُ بعدَها بخمسِ آيات، وهيَ قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّونَ مِنكُم وَيَذَرُونَ أَزوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزوَاجِهِم مَتَاعًا إِلَى الحَولِ غَيرَ إِخرَاجٍ..)، فما هوَ توجيهُكم لذلك؟
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته :
ما أشارَ إليهِ السّائلُ صحيحٌ وهوَ أنَّ المنسوخَ يجبُ أن يتقدّمَ على الناسخ، وقد ذكروا موردينِ حصلَ فيهما عكسُ ذلك، كما في كتابِ الناسخِ والمنسوخِ لأبي عبدِ اللهِ بنِ حزم، فبعدَ أن ذكرَ قولهُ تعالى: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّونَ مِنكُم وَيَذَرُونَ أَزوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزوَاجِهِم..) يقولُ: وناسخُها قوله تعالى: (والذينَ يتوفّونَ منكم ويذرونَ أزواجاً يتربّصنَ بأنفسهنَّ أربعةَ أشهرٍ وعشراً) وليسَ في كتابِ اللهِ آيةٌ تقدّمَ ناسخُها على منسوخِها- إلّا هذهِ الآية - وآيةٌ أخرى في الأحزابِ (يا أيّها النبيُّ إنّا أحللنا لكَ أزواجَك) هذهِ الناسخةُ والمنسوخةُ (لا يحلُّ لكَ النساءُ مِن بعد...)
وقد علّلوا ذلكَ بأنَّ ترتيبَ الآياتِ في المصحفِ ليسَ موافِقاً لترتيبِ النزولِ، فالآيةُ المنسوخةُ قد تتقدّمُ على الناسخِ بحسبِ ترتيبِ المصحفِ إلّا أنّها متأخّرةٌ عنها في التنزيلِ، ولذلكَ يقولُ القاضي أبو بكرٍ بنُ عربي في كتابِ الناسخِ والمنسوخ: (وقد استغربَ الناسُ كونَ الناسخِ قبلَ المنسوخِ في (الخطاب)، وليسَ ذلكَ بغريبٍ، فإنَّ إثباتَ (الآيةِ والسّور) في الكتابِ لم يكُن على الترتيبِ في النزول).
ولا يتعارضُ ذلكَ مع القولِ بأنَّ ترتيبَ الآياتِ في السورِ كانَ منذُ عهدِ رسولِ الله (صلّى اللهُ عليهِ وآله)، كما يقولُ السيّدُ الخوئي في البيان: والرأيُ المتّبعُ عندَ الشيعة - هو كما ذكرَ - وعليهِ المعوّلُ وصرّحَ به علماءُ الطائفةِ بأنّ ترتيبَ الآياتِ كانَ مِن زمنِ النبيّ (صلّى اللهُ عليهِ وآله وسلّم).
والتعارضُ يمكنُ أن يتصوّرَ إذا افترضنا أنَّ ترتيبَ رسولِ اللهِ للآياتِ كانَ بحسبِ التسلسلِ الزمنيّ لنزولِها، وهذا ما لَم يقُل بهِ قائلٌ، فقد أجمعوا على أنَّ رسولَ اللهِ لم يُرتّب الآياتِ في السّورِ بحسبِ وقتِ النزول، وإنّما كانَت توضعُ الآيةُ كذا في موضعِ كذا مِن سورةِ كذا، ولذا نجدُ آياتٍ مكيّةً في سورٍ مدنيّة، وعليهِ فالنزولُ كانَ على حسبِ الأحداثِ والمُناسبات، أمّا وضعُها في السّور فقد كانَ لحِكمةٍ أخرى يعلمُها اللهُ تعالى.
ومِن جانبٍ آخرَ هناكَ بحوثٌ مطوّلةٌ حولَ موضوعِ الناسخِ والمنسوخِ في القرآن، وهناكَ أنواعٌ منَ النسخِ قالَ بها أهلُ السنّةِ ورفضَها الشيعة، مثل نسخِ الحُكمِ والتلاوة، أو نسخِ التلاوةِ وبقاءُ الحُكم، ولم يقبَل الشيعةُ إلّا نسخَ الحُكمِ معَ بقاءِ التلاوة، وقد عقدَ السيّدُ الخوئي بحثاً خاصّاً بذلكَ في تفسيرِ البيان، ولم يقبَل النسخَ إلّا في آيةٍ واحدة، فقَد أشارَ في بدايةِ بحثِه بقولِه: (وقد عقَدنا هذا البحثَ لنستعرضَ جُملةً مِن تلكَ الآياتِ المُدّعى نسخُها ولنتبيّنَ فيها أنّه ليسَت - في واقعِ الأمر - واحدةً منها منسوخةً، فضلاً عن جميعِها) والآيةُ التي قبلَ بنسخِها هيَ قوله تعالى: (يا أيّها الذينَ آمنوا إذا ناجيتُم الرسولَ فقدّموا بينَ يدي نجواكُم صدقةً ذلكَ خيرٌ لكم وأطهر فإن لم تجدوا فإنَّ اللهَ غفورٌ رحيم) حيثُ نُسخَت بقولِه تعالى: (ءأشفقتُم أن تقدّموا بينَ يدي نجواكُم صدقاتٍ فإذ لم تفعلوا وتابَ اللهُ عليكم فأقيموا الصلوةَ وآتوا الزكوةَ وأطيعوا اللهَ ورسولهُ واللهُ خبيرٌ بما تعملون) إلّا أنّه لم يناقِش الآيةَ موردَ السؤالِ فلا يمكنُنا القطعُ بعدمِ قبولِه النسخَ فيها، معَ أنَّ ذلكَ يحتملُ طالما لم يُقرَّ إلّا بآيةٍ واحدةٍ وقعَ عليها النسخُ وهيَ آيةُ النجوى، وبخاصّةٍ أنَّ هناكَ قولاً يعتبرُ الآيةَ مُحكمةً ولا مُنافاةَ بينَها وبينَ الآيةِ الثانية، فالآيةُ الأولى خاصّةً فيما إذا كانَ هناكَ وصيّةٌ للزوجةِ بذلكَ ولم تخرُج ولم تتزوّج، أمّا الثانيةُ ففي بيانِ العدّةِ والمدّةِ التي يجبُ عليها أن تمكثَها، وهُما مقامانِ مُختلفان، ففي المقامِ الأوّل: بيانُ وظيفةِ الأزواجِ بالنسبةِ لزوجاتِهم بأن يوصوا لهنَّ. والثاني: بيانُ وظيفةِ الزوجاتِ أنفسهنَّ بالنسبةِ إلى العدّة، وأنّهُ يجبُ عليهنَّ التربّصُ أربعةَ أشهرٍ وعشراً، ولا تنافيَ بينَ هذينِ الحُكمين.
إلّا أنَّ هذا الرأيَ مخالفٌ لكثيرٍ منَ الرواياتِ التي تؤكّدُ وقوعَ النسخِ بينَ الآيتينِ كما يخالفُ ما عليهِ جمهورُ العلماءِ منِ الشيعةِ والسنّة، فمنَ الرواياتِ ما رواهُ السيّدُ هاشمٌ البحراني عن العيّاشي عن معاويةَ بنِ عمّار قالَ: سألتُه عن قولِ اللهِ (والذينَ يُتوفّونَ منكم ويذرونَ أزواجاً وصيّةً لأزواجِهم متاعاً إلى الحول) قالَ: منسوخةٌ، نسخَتها آيةُ (يَتَرَبَّصنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَربَعَةَ أَشهُرٍ وَعَشرًا) ونسخَتها آيةُ الميراث.
اترك تعليق