هل حادثة عبادة اليهود للعجل حصلت قبل أن تصيبهم الصاعقة ، أم بعدها..؟!.
السؤال: (( هل حادثة عبادة العجل حصلت قبل حادثة الصاعقة أم بعدها؟ فآيات سورة البقرة تحدّثنا بحصول حادثة عبادة العجل قبل الصاعقة {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (*) وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ}[البقرة: 54 – 55] ، وآيات سورة النساء تخبر بالعكس: {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآَتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا}[النساء: 153] )).
الجواب:
بسم الله الرحمن الرحيم
لقد أولى مفسرّو الفريقين اهتماماً بالغاً في بيان أيِّ الحادثتين أسبق، أهي حادثة عبادة العجل أم حادثة نزول الصاعقة، فكان المتحصّل من جميع ما ذكروه ثلاثة وجوه:
الوجه الأوّل: أنّ الآية: (153) من سورة النساء ظاهرة في تقدّم حادثة الصاعقة على حادثة عبادة العجل تقدّماً زمانيّاً كما صرّح به جماعة من مفسري الفريقين. [ينظر: التبيان ج3 ص376، تفسير الميزان ج8 ص270، وكذلك ج16 ص43 ، تفسير القرطبيّ ج6 ص6 ، تفسير الآلوسيّ ج9 ص73 ، جامع البيان للطبريّ العامّي ج6 ص12 ، تفسير الواحديّ ج1 ص300] ، وممّا يؤيّد ذلك هو بعض القرائن:
القرينة الأولى: قوله تعالى: {ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ} فإنّ حرف العطف (ثُمَّ) يَدلُّ في أصل الوضع على أمرين معاً:
أحدهما: الترتيب، أي أنّه يُفيد تقدّم ما قبله على ما بعده زماناً، فلو قلت: (جاء زيد ثُمَّ عمر)، فقد دلّ ذلك على أنّ مجيء زيد أسبق من مجيء عمرو.
والآخر: التراخي؛ أي وجود فاصل زمانيّ بين ما قبله وما بعده ، لا أنّهما وقعا واحداً بعد الآخر مباشرة ومن دون فصل. وحصول مثل هذا التراخي في الحوادث التاريخيّة من الأمور الواضحة، فإنّها تحصل - غالباً - بتوسّط فواصل زمانيّة بينها ، ولاسيّما حوادث الانحرافات المتنوّعة للأمم في عقيدتها وفكرها ، فإنّ من الطبيعيّ عدم حصولها دفعة واحدة وفي آنٍ واحد
القرينة الثانية: وحدة السياق للآيات الواردة في سورة البقرة: (من الآية: 47 إلى الآية: 60) ، فليس من الصواب اقتطاع الآيتين المذكورتين في السؤال دون ملاحظة كامل السياق الذي وقعتا فيه ، فإنّه مشتمل على بيان وتعداد مظاهر المنن الإلهيّة والنعم الربانيّة على بني إسرائيل ، وهم مع ذلك ماضون في تعنّتهم واعوجاجهم وعدم استقامتهم لربّهم ، إذْ بدأ السياق بقوله تعالى:{يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ}[البقرة:47] ، ثمَّ يستعرض القرآن الكريم أنواع تلك النعم تباعاً ، ومن بينها عفو الله عنهم بعد اتّخاذهم العجل معبوداً ، وكذلك إحياء الله تعالى لهم بعد الصاعقة التي تعني إماتتهم عقوبةً لما سألوه من نبيّهم (ع) بأن يريهم الله عزّ وجلّ جهرة أي عياناً وبالرؤية البصريّة ، ولا شكّ في أنّ مراعاة الترتيب وعدمه في تعداد النعم لا يخلّ بالمعنى العامّ للكلام ، فلو كان لديك صديق وأنت متفضّل عليه بصنائع المعروف الكثيرة ومع ذلك يقابلها بالإساءة ، فأردت معاتبته وذكر أفضالك عليه ، فلا يلزم عليك أنّ ترتّبها بحسب وقوعها الزمانيّ ، وإنّما المستحسن هو تقديم الأهمّ على المهمّ منها فيما لو كانت تلك الصنائع متفاوتة في الأهميّة ، وهذا ما حصل في سورة البقرة ، إذْ قدّم القرآنُ العفوَ عن بني إسرائيل في عبادتهم العجل بقوله تعالى:{وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (*) ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}[البقرة: 51 – 52] ؛ وذلك لأجل بيان أعظم نعم الله عليهم ؛ فإنّ عبادة العجل شرك، والشرك لا يغفر كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيماً}[النساء:48]، ومع ذلك فقد عفا الله عنهم فيه ، ثمّ بعد ذلك ذكر الصاعقة لأنّ موجبها - وهو طلب الرؤية - ذنب أهون من الشرك بلا إشكال ؛ إذ من حقّ الإنسان أن يطلب الدليل على إثبات وجود الله أو إثبات النبوّة ، لكنّ لا على وجه التعنّت والعناد ، ومن جهة أخرى فإنّ العودة إلى الحياة الدنيا بعد الموت أدنى قيمة من نَيل عفو الله وتجاوزه عن خطايا الإنسان ؛ بل لا قيمة لتلك الحياة من دون عفوه ورحمته تعالى..!.
وهذا بخلاف سياق الآية (153) من سورة النساء فإنّه يستدعي ترتيب الأحداث بحسب زمان وقوعها لا بحسب أهميّتها ؛ وذلك لأنّ الغرض من هذا السياق هو الكشف عن خبث سريرة اليهود وعدم رغبتهم بالإيمان أصلاً ، وهكذا غرض لا يمكن تحقّقه إلّا من خلال الترتيب الزمانيّ للأحداث الخاصّة بهم ؛ ولهذا فقد ذكر الله تعالى لنبيّه (ص): أنّ اليهود لا يريدون أن يؤمنوا بنبوّته ، وأنّ طلبهم منه أن ينزّل عليهم كتاباً من السماء ليس نابعاً من الشكّ في الرسالة ، وإنّما هو موقف شكليّ ذرائعيّ يستبطن الجحود والطغيان ، فحتّى لو تحقّق لهم نزول الكتاب فإنّهم لن يؤمنوا..![ينظر علوم القرآن للسيّد الحكيم ص383] ، ثُمَّ يُبَيّن القرآن للنبيّ (ص) الدليل على ذلك وهو أنّ اليهود سبق لهم أن طلبوا من موسى (ع) شيئاً أكبر من ذلك لإثبات نبوّته وهو رؤية الله ، فأقام الله لهم بيّنة واضحة وحجّة قاطعة تدلّ على استحالة رؤيته تعالى من جهة ، وعلى صدق نبوّة موسى من جهة أخرى إذْ أخذهم بالصاعقة فخرّوا جميعاً ميّتين تنبيهاً لهم على عظيم ما طلبوه ، ثمّ أحياهم ليتوبوا ، فكان المفترض بهم بمقتضى منطق العقل أن يؤمنوا بتلك النبوّة إيماناً جازماً لا يعتريه الريب والشكّ بعدما رأوا هذه الآيّة الواضحة والبيّنة العظيمة ، لكنْ ما فعلوه عوضاً عن ذلك هو أنّهم نكسوا رؤوسهم فأشركوا به تعالى ، وتركوا الإيمان بموسى واتّباع شريعته ، واتّبعوا ضلال السامريّ فعبدوا العجل.
الوجه الثاني: وهو عكس الوجه الأوّل، أي أنّ اتّخاذ العجل متقدّم زماناً على حادثة الصاعقة ، وقد استعرض ابن الجوزيّ نقلاً عن ابن الأنباريّ أربعة استعمالات في اللّغة العربيّة لحرف العطف (ثُمَّ) من دون إفادته للترتيب والتراخي فيها، إلّا أنّ الحقّ يقال ، فإنّ الناقل والمنقول عنه لم يقدّما دليلاً واحداً يدعم انطباق أيٍّ من تلك الاستعمالات على الآية (153) من سورة النساء. [ينظر: زاد المسير ج2 ص215، وممّن ذهب إليه أيضاً ابن حيّان في تفسيره ج3 ص402]. هذا فضلاً عن مخالفة هذا الوجه أساساً لظاهر الآية كما هو واضح ؛ ولذا فلا قيمة له.
الوجه الثالث: حصول الحادثتين مقترنتين في فترة واحدة وزمان واحد - عرفاً – ؛ وذلك لوقوعهما من قِبَلِ مجموعتين من اليهود تختلف إحداهما عن الأخرى ، فإنّ حادثة الصاعقة وقعت للفريق الذي اختاره موسى في ذهابه للميقات وهم السبعون رجلاً ، وكان موعد الميقات هو عين الوقت الذي استغلّ السامريّ فيه غياب موسى (ع) فصنع العجل لِمَن تبقّى من اليهود فعبدوه. [ينظر: تفسير السمرقنديّ ج1 ص378]. ولا يقدح بهذا الوجه نسبة هذين الفعلين معاً - أعني: طلب الرؤية ، وعبادة العجل - إلى جميع اليهود مع أنّ كلّ فعل منهما قد صدر من مجموعة هي غير الأخرى ؛ وذلك لأنّ النسبة المذكورة إمّا أن تكون مبنيّة على التغليب ، وهذا أمر شائع في اللّغة العربيّة ، أو تكون باعتبار ما ذكره بعض المفسّرين من رضا بعض اليهود بما يفعله البعض الآخر من تلك المعاصي.[ينظر: الميزان ج1 ص189].
وبناءً على هذا الوجه فلا مشاحّة في ذكر أيِّ الحادثتين قبل الأخرى، ويكون مجموع ما في السورتين - البقرة والنساء - صحيحاً ، كما أنّ العطف بواسطة (ثُمَّ) في قوله تعالى: {ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ} ، يكون لمجرّد ترتيب الأحداث لا للترتيب الزمانيّ، أي هو لتقديم الأهمّ على المهمّ. والحمد لله ربّ العالمين.
اترك تعليق