استكشافات علم الأركيلوجيا حول شخصيّة هامان الفرعونيّة..!.

السؤال: ((‏يَعترضُ بعضُ النصارى العرب على القرآن الكريم لأنّه قد نَسب هامان إلى زمن موسى(ع)، وهذا القول لا يصحُّ فهامان شخصيّة فارسيّة..!، وقد عاشت بعد قرون من عصر موسى(ع)،كما يذكر سِفرُ إِسْتِير في الكتاب المقدس، فما جوابكم عن ذلك..؟))

: الشيخ فاروق الجبوري

الجواب:

بسم الله الرحمن الرحيم، الأخ السائل الكريم، ليس هذا إشكال النصارى وحدهم، بل هو أحد مُتبنّيات الملحدين في العصور المتأخّرة عن عصر الدعوة الإسلاميّة، وقد استعملوه اليوم كواحد من الأدلّة على بشريّة القرآن الكريم وأنّه ليس من وحي السماء، وعلى أيّة حال فإنّ الإجابة عنه تستدعي البحث في جهتين:

إحداهما: في مناقشة أدلّة النافين لوجود شخصيّة هامان الفرعونيّ، وجُلّ ما لديهم هنا دليلان:

الدليل الأوّل: عدم وجودِ نقشٍ فرعونيّ واحدٍ على وجه الأرض يذكر اسم هامان..!، وفيه:

1- من الواضح أنّ هذه الدعوى مبالغ فيها جدّاً، فالإنسان رغم كلّ ما يملكه من إمكانيات إلّا أنّه لم يكتشف الكثير من الحقائق الماثلة بين يديه كغابات الأمازون وبئر برهوت وقيعان المحيطات وغيرها، فمن أين أمكن له القطع بخلوّ وجه الكرة الأرضيّة من أثر لذكر هامان وهو الغائب عن عينه منذ آلاف السنين..؟!. علماً أنّ المقدار الذي استكشفه علماء الأركيلوجيا والآثار من مخلّفات الأمم السابقة لا تتعدّى نسبته 5% من مجموع حضاراتها..!. وللوقوف على تفاصيل أكثر عن ذلك يلاحظ بحث مقتضب بعنوان: (هل يتوقّف إثبات أنبياء القرآن على الكشف الأثري؟") للباحث الشيخ مقداد الربيعيّ.

والحاصل أنّ عدم الوجدان لا يدلّ على الوجود، فمن الخطأ أن ننكر وجود الأشياء لمجرّد أنّنا لم نعثر عليها، فمثلاً لا يمكن نفي الحياة على كواكب أخرى بدعوى أنّها لو كانت لبانت؛ بل علينا أن نعترف بقصورنا العلميّ، قال تعالى:{وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا}[الإسراء/85]، وفي ذلك يقول نيوتن: (أنا لا أعرف كيف أبدو للعالَم، غير أنّي أرى نفسي كصبيٍّ يلعب على شاطئ البحر، أتسلّى من حين لآخر بإيجاد حصاة ناعمة أو قوقعة جميلة للغاية، لكن في الواقع هناك محيط كبير من الحقائق غير المكتشفة ما زال خلفي..!)[انظر ترجمته على ويكبيديا نقلاً عن مذكّراته].

2- لو سلّمنا أنّ علماء الآثار تفحّصوا الأرض جميعاً فلم يعثروا على وثيقة ما تؤيّد وجود شخصيّة باسم هامان الفرعوني فإنّ ذلك أيضاً لا يعني أسطوريّة قصّته؛ لأنّه ليس لأحد أن يدّعي ضرورة بقاء آثار جميع الأمم السالفة، بعد ملاحظة اتّفاق الكتب السماويّة وكتب التاريخ على وقوع تدمير شامل لكثير من تلك الأمم وآثارها، قال تعالى:{وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا}[الإسراء/16]، مضافاً إلى ما أعملته اليد البشريّة من عبث بالكثير من تلك الآثار، فمنها ما تمّت سرقته، أو نقله إلى أماكن أخرى كما في انتقال (12000) قطعة أثريّة مصريّة إلى متحف الفنّ في فيينّا عاصمة النمسا [ينظر: مقالاً بعنوان: "كيف انتقلت 12 ألف قطعة آثار مصرية إلى متحف الفن في فيينا؟" لحسام حسن]، ومنها ما تمّ تخريبه كما فعل تنظيم داعش الإرهابي بآثار العراق..!، وبالتالي ليس من البعيد أن تكون ثمّةَ وثائق ولكنّ الزمن عفا عليها وتلفت أو أُتلفت، أو حتّى أُخفيت علينا لسبب ما، ولاسيّما أنّ من العصوبة بمكان أن يتجرّد علماء الآثار الغربيّون فيبرزوا وثيقة رسميّة تدعم الإسلام وتنقض اليهوديّة والنصرانيّة..!.

الدليل الثاني: قالوا: لو كان لشخصيّة هامان الفرعونيّ واقعيّة لَذُكر اسمه في التوراة أو الإنجيل؛ خصوصاً إنّه بحسب الرواية القرآنيّة وزير لفرعون وليس شخصاً عاديّاً حتّى يهمل الكتاب المقدّس ذكره. نعم ورد اسم هامان في التوراة: سفر إستير، لكنّه لشخص فارسيّ بابليّ مُعادٍ للساميّة جاء بعد موسى بحوالي (1100) عام، وكان وزيراً لملك بابل وله علاقة ببناء بُرجها، فلابدّ أنّ يكون محمّد قد استنسخ قصّته من سفر إستير ثمّ أخطأّ في نسبتها إلى شخصيّة وهميّة هي هامان الفرعوني..!. انتهى..

وجوابه كالتالي:

1- لقد جاء ذكر هامان في القرآن ستّ مرات، ولم يرد في أيّ واحدة منها أنّه كان وزيراً، بل كلّ ما صرّح به القرآن هو طلب فرعون منه أن يبني له صرحاً - البناء الشاهق -، وذلك في آيتين: قوله تعالى:{فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى}[القصص/38]، وأيضاً قوله تعالى:{وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ}[غافر/36] وهو ممّا يعني أنّ لهامان علاقة بالعمران والبناء، وهذا ما أكّدته بعض المخطوطات الأثريّة المستكشفة حديثاً كما سيأتي.

2- ثُمَّ هل صاحب هذا الدليل من أتباع مدرسة الحدّ الأدنى التي ترفض اعتماد النصوص الدينيّة في إثبات القضايا التاريخيّة؟ أو أنّه من أتباع مدرسة الحدّ الأعلى التي تعتمد بشكل أساس على تلك النصوص؟ وعلى كلا التقديرين فليس له الاستدلال بما في سفر إستير؛ لأنّه:

أ- إنْ كان على المدرسة الأولى، فالمفترض أنّ النصّ دينيٌّ لا قيمة له عنده ولا حجّيّة فيه.

ب-وإن كان من أتباع المدرسة الأخرى، فليس له طرح القرآن عن الدليليّة بعد ثبوت سلامته من التحريف، والتحاكم إلى ما يسمّى بالكتاب المقدّس بعد قيام الأدلّة القطعيّة على تحريفه وعدم مصداقيّته، وبعد اعتراف علماء الديانتين اليهوديّة والنصرانيّة بذلك؛ وهو ممّا أفقده صلاحيّته كمرجع في إثبات شيء أو نفيه. وللوقوف على تلك التحريفات والاعترافات ومصادرها أيضاً يمكنكم الرجوع إلى جواب سابق لمركزنا تحت عنوان: (ذِكرُ بيتِ اللهِ الحرام ومكّة المكرّمة في الكتاب المقدّس).

بل لو تحدثنا عن سفر إستير تحديداً فقد قال عنه القسُّ الأمريكيّ الدكتور سمعان كلهون:(كاتب هذا السفر مجهول عندنا..!) [ينظر كتابه: مرشد الطالبين إلى الكتاب المقدّس الثمين ج2 ص114]، كما أنّ النقّاد من الديانتين يجهلون تماماً تاريخ كتابته؛ ولذا لا يوجد من هذا السفر ولو اقتباس واحد في أسفار العهد الجديد، بل لا حتّى إشارة إليه..![ينظر: قاموس الكتاب المقدّس - شرح كلمة (سفر إستير) ]. والحاصل أنّ المحقّقين من أهل الكتاب شَكَّكوا في مصدر هذا السفر، فتوقّفوا في قداسته وأصالته بل تاريخيّته، وكان مارتن لوثر في القرن السادس عشر قد سبق إلى القول: «ليت هذا السفر لم يوجد»، متابعاً في قوله هذا من سبقه من الآباء الأوائل المنكرين لقدسيّة هذا السفر التوراتيّ الذي خلت من اسمه قائمة الأسقف مليتو أسقف سارديس عام (١٧٠م )، وهو صاحب أقدم قوائم الأسفار المقدّسة، ولتخلو منه أيضاً بعد ذلك قائمة البابا أثناسيوس نجم مجمع نيقية وواضع قانونه الشهير. [ينظر: تنزيه القرآن الكريم عن دعاوى المبطلين للدكتور منقذ السقّار] وإذن: فهل يليق عند العقلاء محاكمة القرآن إلى مرجِعٍ لا سند له، ولا تاريخ؟!

ثمّ لا يخفى على مَن تتبّع أساليب الملحدين أنّه حتّى لو جاء ذكر هامان الفرعونيّ في الكتاب المقدّس فإنّ ذلك لن يُغيّر شيئاً من موقفهم الطاعن بالقرآن الكريم، فقد سبق لهم إنكار وجود شخصيّة النبيّ موسى (ع)، مع أنّه نبيّ الكتاب المقدّس، حتّى زعموا أنّ قصة ولادته وإلقائه في اليَمّ هي أكذوبة توراتيّة أو نسخة قرآنيّة معدّلة لقصّة سرجون الأكديّ!

3- لو سلّمنا جدلاً بوجود شخصيّة أخرى بالاسم والوصف المذكورين وأنّها بابليّة، فإنّ مجرّد التطابق في ذلك لا يستلزم بالضرورة وحدة الشخصيّتين، أو استنساخ إحداهما من الأخرى، كما لا يخفى.

4- يُضاف إلى ذلك أنّ اليهود المعاصرين للنبيّ(ص) كانوا أعدى البشريّة للإسلام وأهله، قال تعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا...}[المائدة: 82]، كما أنّهم أعرف من الملاحدة والنصارى بظروف نبيّهم وتاريخ أُمّتهم وما لاقته من فرعون ورجال سلطته، فلو كانت شخصيّة هامان وهميّةً لما سكتوا عن ذلك، ولا تركوا مثل هذا السبق الكبير للطعن في القرآن ومصداقيّته ليظفر به غيرهم كما هو واضح لمن تفكّر بعقلانيّة وحياديّة. بل يمكننا الترقّي والقول: إنّ عدم ذكر هامان الفرعونيّ في التوراة والإنجيل من أهمّ أدلّة الإعجاز القرآنيّ، ومن أهمّ الشواهد على عدم استنساخ النبيّ (ص) - وحاشاه من ذلك - للقصّة عن الكتاب المقدّس وإنّما هي من وحي السماء إليه، فتبطل بذلك دعواهم بأنّ النبيّ (ص) أخطأ في نسبتها إلى هامان فرعون، هذا فضلاً عن كون مدّعيها لا يملك أيّ دليل لإثباتها.

والجهة الثانية: في ذكر بعض الوثائق والألواح التي أثبتت وجود هامان الفرعونيّ:

1- مع أنّ عالم المصريّات البروفسور البريطانيّ كينيث كيتشن هو يهوديّ متطرّف، إلّا أنّه ذكر في كتابه (رمسيس الثاني ،فرعون المجد والانتصار، ترجمة د. أحمد زهير أمين) جملة من المعلومات المستخرجة من بعض الألواح المصرية القديمة وهي تتعلّق بفرعون وصديق عمره هامان(Amen em inet = هامِن إم إينت) الذي هو ابن (ون نفر )كبير كهنة معبد آمون، ففي (ص55) ذكر كيتشن: (أنّه رفيق صباه وصديقه في شبابه، وفي (ص73) وبعد أن أصبح رمسيس - أي فرعون – ملكاً لمصر جعله قائداً للمركبات العسكريّة، وفي (ص97) رفع منصبه إلى رسول الملك لكلّ البلاد الأجنبيّة، وفي (ص99) ذكر أنّ وظيفة رسول الملك خاصّة فقط بكبار ضبّاط سلاح العربات الحربيّة، وفي (ص179) ذكر أنّه تمّ نقله من وظيفته العسكريّة إلى الرمسيوم ليصبح رئيساً لعمال محاجر البناء ومديراً لمشاريع الملك الأثريّة).

وهنا لا يفوتنا تذكير القارئ الكريم بأنّ طبيعة الترجمة والنطق تجعل لفظ الكلمة يختلف من لغة لأخرى، فكلمة (Abraham = إبراهام) في العبريّة تصبح (إبراهيم) في العربيّة ، وكلمة(Noah = نُواه) في الانجليزية تصبح (نوح) في العربيّة، وهكذا، وبالتالي فمن الطبيعيّ جدّاً أن يصبح اسم(Amen) هو (هامان) خصوصاً أنّ العرب يستبدلون الهمزة هاءً في مواضع كثيرة من كلامهم[ينظر موسوعة اللّغة العربيّة، المطلب العاشر: إبدال الهاء].

2- عالم الطب الفرنسيّ موريس بوكاي الذي درس اللّغات الشرقيّة - ومنها العربيّة - في جامعة السوربون واهتمّ كثيراً بالدراسة المقارنة للتوراة والإنجيل والقرآن والبحث في وثائق الآثار المصريّة وزار مصر لذلك، ذكر أنّه بحث كثيراً عن معنى مفردة (هامان) المذكورة في القرآن حتّى ناقش عيها عالم آثار فرنسيّ مختصّ بالآثار المصريّة ولغاتها فأرشده إلى (قاموس أسماء الأشخاص في الإمبراطوريّة الجديدة - لمؤلّفه المؤرّخ الألمانيّ ليوبولد فون رانكه)، وهناك عثر على المفردة باللّغة الهيروغلوفيّة (لغة مصر القديمة) وكانت بالترجمة الألمانيّة كما وجد أنّ وظيفته هي (مدير المحاجر الفرعونيّة ورئيس البنّائين بالأحجار).[وللوقوف على هذه المعلومة نحيلكم إلى الفيديو النادر لموريس بوكاي لترى كيف يتحدّث بنفسه عن هذه الوثيقة على الرابط التالي: https://2u.pw/asFsHKGA ، ولمزيد من الوثائق الأخرى. ينظر بحثاً بعنوان: (اسم هامان بالمراجع) على موقع (حرّاس العقيدة)، وكذلك قناة AlfarouqChannel الوثائقيّة على الرابط التالي https://2u.pw/SwA6nAtO]

ختاماً نقول: لو كان للشبهة المذكورة في السؤال حظٌّ من الواقع لما سكت عنها اليهود والنصارى المعاصرين لنزول القرآن، ولكنّها إعجاز قرآنيّ أخرسهم آنذاك وسيخرس الملاحدة المعاصرين، على أنّ ذكرنا لهذه الوثائق لا يعني اعتمادنا عليها في إثبات أو نفي شخصية هامان الفرعونيّ، فإنّ في إخبار القرآن الكريم غنى عن ذلك فإنّه الكتاب الذي{لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ}[فصّلت/42]، ومتى أخبرنا بشيء في التاريخ أو غيره فذلك هو الحقّ المبين الذي لا يعتريه الريب ولا يتطرّق إليه الشكّ، قال تعالى:{إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ}[آل عمران/62]، وبالتالي فسواء أمكن لعلم الأركيلوجيا والأثار إثباتُ وجود هامان الفرعونيّ، أم لم يمكنه فإنّ جميع ما يقدّمه لنا لا يتعدّى كونه مؤيّداً لما جاء في لقرآن لا أكثر، والإنسان المسلم لا يتوقّف عنده ثبوت الحقائق القرآنيّة أو نفيها على شيء من هذه العلوم الوضعيّة. والحمد لله ربّ العالمين.