لماذا استخدم القرآن الكريم صيغة الجمع (الذين) في آية الولاية للمفرد؟
السؤال: لماذا اختار القرآن الكريم استخدام صيغة الجمع (الذين) في قوله تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} [المائدة ٥ : ٥٥]، بدلاً من صيغة المفرد بناءً على نزولها في عليّ بن أبي طالب؟
الجواب:
بسم الله الرحمن الرحيم
وردت أحاديث عند الفريقين تدلّ على أنّ الآية الكريمة: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} [المائدة: ٥٥] قد نزلت في حقّ أمير المؤمنين (عليه السلام)، وذلك عندما سأله سائل وهو في حالة الركوع من صلاته، فطرح له خاتمه، قال الشريف الجرجانيّ: (وقد أجمع أئمّة التفسير على أنّ المراد بـ {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ} إلى قوله تعالى {وَهُمْ رَاكِعُونَ} عليٌّ، فإنّه كان في الصلاة راكعاً فسأله سائل فأعطاه خاتمه، فنزلت الآية) [شرح المواقف ج3 ص641]، وقال العلّامة التفتازانيّ: (نزلت باتّفاق المفسّرين في عليّ بن أبي طالب (رضي الله عنه) حين أعطى خاتمه وهو راكع في صلاته) [شرح المقاصد ج2 ص288]، ويمكن مراجعة بعض أجوبتنا السابقة حول نزول الآية الكريمة في أمير المؤمنين (عليه السلام).
وينقدح هاهنا سؤال في وجه استعمال لفظ الجمع (الذين) في المفرد وهو أمير المؤمنين (عليه السلام)؟
فنقول: يمكن الجواب في المقام من وجهين:
الوجه الأول: أن الاستعمال حقيقيّ: فكلمة (الذين) استعملت في معناها الحقيقي وهو الجمع، فالمراد بـ(الذين) في الآية الكريمة هم أئمّة الهدى (عليهم السلام)، لا خصوص أمير المؤمنين (عليه السلام)، وإنّما أمير المؤمنين هو شأن النزول كما أشار الإمام جعفر بن محمّد (عليهما السلام) في قوله: « يعني عليّاً وأولاده الأئمة (عليهم السلام) فكل من بلغ من أولاده مبلغ الإمامة، يكون بهذه النعمة مثله فيتصدقون وهم راكعون » [الكافي ج1ص427].
وعلى هذا الوجه يخرّج ما رواه أهل العامّة عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام): « أنّه سُئل أنّ الآية نزلت في عليّ بن أبي طالب؟ فقال: عليّ (عليه السلام) من الذين آمنوا » [تفسير ابن ابي حاتم ج4 ص1162].
الوجه الثاني: أن الاستعمال مجازي: فكلمة (الذين) وإن كانت موضوعة للجمع إلا أنّها استعملت في المفرد مجازاً، والمبرّر لهذا الاستعمال المجازيّ:
1ـ التفخيم والتعظيم:
فإنّ كلمة (الذين) وإنْ كانت موضوعة للجمع إلّا أنه لا مانع من استخدامها للدلالة على المفرد بغرض التعظيم والتفخيم، وقد جرت عادة العرب مخاطبة الفرد بصيغة الجمع، فيقال للرجل العظيم: (انظروا في أمري)، وكما قال الشاعر أبو ذؤيب الهذلي: (لو كان مدحة حيّ منشراً أحداً ** أحيا أباكنّ يا ليلى الأماديح) [انظر: الصاحبي في فقه اللغة ج1ص54، شرح أشعار الهذليّين ج ص127]؛ حيث خوطب الواحد وهو (ليلى) بلفظ الجمع وهو (أباكن يا ليلى).
وقد ذكر أبو المظفّر السّمعانيّ [ت489 هـ]: (أنّ وقوع الواحد بلفظ الجمع على طريق التفخيم والتعظيم كثير في القرآن) [تفسير السمعاني ج3 ص489]، ومن أمثلته الآيات التالية: قول الله تعالى: {ومنهم الّذين يؤذون النّبيّ ويقولون هو أذن} حيث نزلت في عتّاب بن قشير [الجامع لأحكام القران ج8ص192]. وقوله تعالى: {لا ينهاكم اللّه عن الّذين لم يقاتلوكم في الدّين} حيث نزلت في أسماء بنت أبي بكر [الجامع لأحكام القران ج18ص59]. وقوله تعالى: {يا أيّها الّذين آمنوا أطيعوا اللّه وأطيعوا الرّسول} حيث نزلت في عبد اللّه بن حذافة بن قيس بن عديّ [أسباب النزول ج1ص163]. وقوله تعالى: {الّذين قال لهم النّاس إنّ النّاس قد جمعوا لكم} نزلت في نعيم بن مسعود الأشجعيّ. واللّفظ عامّ ومعناه خاصّ [الجامع لأحكام القران ج4ص279].
قال العلّامة الطبرسيّ: (ليس لأحد أن يقول أن لفظ: (الذين آمنوا) لفظ جمع فلا يجوز أن يتوجّه إليه على الانفراد؛ وذلك أنّ أهل اللغة قد يعبّرون بلفظ الجمع عن الواحد على سبيل التفخيم والتعظيم، وذلك أشهر في كلامهم من أن يحتاج إلى الاستدلال عليه) [مجمع البيان ج3ص325].
وقال العلّامة المجلسيّ: (وأمّا إطلاق لفظ الجمع على الواحد تعظيماً فهو شائع ذائع في اللغة والعرف، وقد ذكر المفسرون هذا الوجه في كثير من الآيات الكريمة، كما قال تعالى : {وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} و {إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً} و {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ}، وقوله: {الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ}، مع أنّ القائل كان واحداً وأمثالها، ومن خطاب الملوك والرؤساء: فعلنا كذا، وأمرنا بكذا، ومن الخطاب الشائع في عرف العرب والعجم إذا خاطبوا واحداً: فعلتم كذا ، وقلتم كذا؛ تعظيماً) [مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول ج2 ص330].
2ـ الترغيب:
فإنّ الآية الكريمة وإنْ أُريد بها أمير المؤمنين (عليه السلام) وهو شخص واحد، إلّا أنّها استعملت لفظ الجمع (الذين) من باب ترغيب الناس في مثل هذا الفعل.
قال الزمخشريّ: (فإنْ قلت: كيف صحّ أن يكون لعليّ (رضى الله عنه) واللفظ لفظ جماعة؟ قلتُ: جيء به على لفظ الجمع وإنْ كان السبب فيه رجلاً واحداً؛ ليرغب الناس في مثل فعله، فينالوا مثل ثوابه، ولينبّه على أنّ سجيّة المؤمنين يجب أن تكون على هذه الغاية من الحرص على البرّ والإحسان وتفقّد الفقراء، حتّى إنْ لزمهم أمر لا يقبل التأخير وهم في الصلاة، لم يؤخّروه إلى الفراغ منها) [الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل ج1 ص648].
2ـ دفع شرور الناصبة:
ما ذكره السيّد عبد الحسين شرف الدين: (أنّه إنّما أتى بعبارة الجمع دون عبارة المفرد؛ بقياً منه تعالى على كثير من الناس، فإنّ شانئي عليّ وأعداء بني هاشم وسائر المنافقين وأهل الحسد والتنافس لا يطيقون أن يسمعوها بصيغة المفرد؛ إذ لا يبقى لهم حينئذٍ مطمعٌ في تمويهٍ، ولا ملتمسٌ في التضليل، فيكون منهم - بسبب يأسهم - حينئذٍ ما تخشى عواقبه على الإسلام، فجاءت الآية بصيغة الجمع مع كونها للمفرد اتّقاءً من معرّتهم، ثمّ كانت النصوص بعدها تترى بعبارات مختلفة ومقامات متعددة، وبثّ فيهم أمر الولاية تدريجاً تدريجاً حتّى أكمل الله الدين وأتم النعمة؛ جرياً منه (صلى الله عليه وآله) على عادة الحكماء في تبليغ الناس ما يشقّ عليهم، ولو كانت الآية بالعبارة المختصّة بالمفرد لجعلوا أصابعهم في آذانهم، واستغشوا ثيابهم، وأصرّوا واستكبروا استكباراً، وهذه الحكمة مطّردة في كلّ ما جاء في القرآن الحكيم من آيات فضل أمير المؤمنين وأهل بيته الطاهرين كما لا يخفى) [المراجعات ص٢٣٥].
نكتفي بهذا القدر، والحمد لله أوّلاً وآخراً.
اترك تعليق