سبب تقديم تعليم القرآن على خلق الإنسان في سورة الرحمن

السؤال: لماذا ذُكِرَ في سورة الرحمن: {عَلَّمَ الْقُرْآنَ} قبل {خَلَقَ الْإِنسَانَ}؟ ومن كان المقصود بهذا التعليم؟

: السيد أبو اَلحسن علي الموسوي

الجواب:

بسم الله الرحمن الرحيم

أعلم - أيّدك الله - أنّ الحكمة من تقديم تعليم القرآن على خلق الإنسان في سورة الرحمن لها عدّة تفسيرات، نذكر منها اثنين:

التفسير الأوّل: أنّ التقديم المذكور يشير إلى عظمة القرآن الكريم والهدف من نزوله؛ حيث إنّ القرآن يُعـدُّ من أعظم النعم الإلهيّة لما يحتويه من هداية ونور. وقد بدأ الله عزّ وجلّ به وفضلّه على سائر المخلوقات، حتّى على خلق الإنسان نفسه. ثمّ جاء قوله تبارك وتعالى: {خَلَقَ الْإِنسَانَ} ليؤكّد أنّ الهدف الأساسيّ من هذا التعليم هو تحقيق كمال الإنسان من خلال توعيته بالغاية التي خُلق من أجلها، وهي معرفة المنعم ونعمه. فلا يمكن للإنسان أن يشكر الله تعالى أو يرتبط به دون معرفته ومعرفة نعمه وآلائه، ولا سبيل له للارتباط بالله إلّا من خلال القرآن الكريم. لذا، فإنّ تقديم القرآن على سائر النعم يُعـدُّ تقديماً للأهمّ والأشرف والأفضل، إذْ لا شكّ أنّ أفضل نعمة هي العلم والمعرفة بالله تعالى، ولهذا كان « أوّل الدين معرفته » [نهج البلاغة ج۱ ص۳۹].

قال السيّد الطباطبائيّ: (وقولُه: {عَلَّمَ الْقُرْآنَ} شروعٌ في عدّ النعم الإلهيّة، ولمّا كان القرآن أعظم النعم قدراً وشأناً وأرفعها مكاناً - لأنّه كلام الله الذي يخطّ صراطه المستقيم، ويتضمّن بيان نهج السعادة التي هي غاية ما يأمله آمل ونهاية ما يسأله سائل - قدّم ذكر تعليمه على سائر النعم حتّى على خلق الإنس والجنّ اللّذين نزل القرآن لأجل تعليمهما) [تفسير الميزان ج١٩ ص٥١].

التفسير الثاني: أنّ التقديم من حيث الترتيب هو أحد دلائل الحكمة الإلهيّة، ولا ريب في وجوب تقدّم الحكمة على الفعل المحكم، فالمعرفة والتوجيه الإلهيّ للإنسان نحو كماله يسبقان الحديث عن خلق الإنسان، وهذا يعكس دور القرآن كمرجع أساسيّ في حياة البشر، فالغرض من خلق الإنسان والجنّ هو العبادة، كما جاء في قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [سورة: الذاريات: 56]. لذا، يجب أن يكون هذا الهدف واضحاً ومحدّداً لدى الإنسان حتّى لا يتوهّم العبثيّة في الخلق.

أمّا بالنسبة للمصداق المعنيّ بهذا التعليم، فقد تمّ حذف المفعول الأوّل لفعل (علّم)، وله تفسيران:

أحدهما: أن يكون المراد إمّا الإنسان أو الإنس والجنّ، وبالتالي يمكن تقدير المعنى على أنّه (علّم الإنسان القرآن)، أو (علّم الإنس والجنّ القرآن). قال السيّد الطباطبائيّ: (وحذف مفعول {عَلَّمَ} الأوّل وهو الإنسان أو الإنس والجن، والتقدير: علّم الإنسانَ القرآنَ، أو علّم الإنس والجنّ القرآن. وهذا الاحتمال الثاني وإنْ لم يتعرّضوا له لكنّه أقرب الاحتمالين؛ لأنّ السورة تخاطب في تضاعيف آياتها الجنّ كالإنسـ ولولا شمول التعليم في قوله: {عَلَّمَ الْقُرْآنَ }، لهم لم يتمّ ذلك. [تفسير الميزان ج 19 ص 51].

والآخر: أن يكون المفعول المحذوف هو النبيّ محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلم)، فقد روى عليّ بن إبراهيم القمّيّ في تفسيره قائلاً: (حدّثني أبي عن الحسين بن خالد، عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) - في قوله: {الرَّحْمَٰنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ} -، فقال عليه السلام: « إنّ الله علّم محمّداً القرآن »، فسألتُ: أليس قد خلق الإنسان؟ فأجاب: « نعم، ذلك هو أمير المؤمنين (عليه السلام) »، ثمّ سألت: ألم يعلّمه البيان؟ فقال: « بل علّمه تبيان كلّ ما يحتاجه الناس » [تفسير القمّيّ ج٢ ص٣٤٣].

فإذا عرفت ذلك، فاعلم أنّه إذا كان تقديم التعليم على الخلق يُعـدُّ تعظيماً للقرآن الكريم، فلا يوجد في ذلك أيّ إشكال. أمّا إذا كان التقديم يُفهم على أنّه نحو الترتيب، فيُطرح هنا السؤال: كيف يمكن أن يسبق التعليم الخلق؟

والجواب عن ذلك: هو أنّ المقصود بـ {عَلَّمَ} هو علّم الملائكة، حيث تمّ تعليمهم قبل خلق الإنسان، أو قد يكون المقصود هو النبيّ الأعظم (صلّى الله عليه وآله)، كما ورد في رواية تفسير القمّي، حيث كان (صلّى الله عليه وآله) موجوداً في عالم الخلق النوريّ قبل خلق الأجساد، وبالتالي علّمه الله تعالى القرآن قبل خلق آدم.

نكتفي بهذا القدر، والحمد لله أوّلاً وآخراً.