هل القصص القرآنيّة حقائق واقعيّة؟

السوال: ‏ كلّ القصص الموجودة في الكتب المقدّسة لا يوجد عليها دليل تاريخيّ، لأنّ الكتب المقدّسة لا تهدف إلى تقديم تاريخ، بل لها وظيفة دينيّة واعتقاديّة وأخلاقيّة، فليس من مهمّتها تقديم التاريخ، وإذا أخذنا ما تقدّمه على أنّه تاريخ فإنّ هذه الكتب تسقط.

: الشيخ معتصم السيد احمد

الجواب:

أوّلاً: أشرنا في إجابة سابقة بأنّه من وجهة نظر إسلاميّة يجب الاعتقاد والتصديق بكلّ القصص القرآنيّة على النحو الذي تمّ تفصيله في القرآن، ويعدُّ ذلك جزءاً أصيلاً من عقيدة المسلم، إذْ لا يصير الإنسان مسلماً من دون هذا الاعتقاد، وعليه فإنّ القرآن في نظر المسلم هو المصدر الموثوق الذي لا يمكن التشكيك فيه، كما لا يمكن مقارنته أو معارضته بأيّ مصدر آخر، وفي أيّ علم من العلوم، قال تعالى: ﴿لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾. فالذي يشكّك في القرآن يجب مناقشته كبرويّاً وليس صغرويّاً، فإثبات كون القرآن وحي من الله تعالى مقدّمٌ على إثبات كون القصص القرآنيّة أُموراً واقعيّة.

ومن ناحية أخرى يحترم المسلم ويقدّر البحوث التي تبحث في التاريخ القديم عبر الآثار والحفريّات، ويعدُّ ذلك جهداً مطلوباً وعملاً مقدّراً وله الكثير من المكاسب العلميّة والمعرفيّة، إلّا أّنّ تلك البحوث والدراسات، وإن كانت تعتمد على الآثار والنقوش القديمة إلّا أنّها أيضاً تعتمد بشكل كبير على الرؤية التحليليّة التي يقدّمها الباحث لتلك الآثار، وبالتالي الرؤية الخاصّة بالباحث هي التي تتحكّم في كيفيّة جمع القرائن وكيفيّة توظيفها لخدمة نتائجه النهائيّة، ومن هنا كانت الاختلافات بين العلماء المختصّين بالتاريخ القديم والحضارات الغابرة حالة طبيعيّة ومتوقّعة؛ وذلك لوجود مساحة اجتهاديّة لكلّ باحث تاريخيّ، فالآثار والنقوش القديمة تمثّل مواد أوليّة وموضوعات بحثيّة، والمؤرّخ هو الذي يبني من هذه المواد الأوّليّة رؤيته التاريخيّة، ومن هنا فإنّ نتائج تلك البحوث تظلّ احتماليّة لا يمكن القطع بنتائجها، ولذا من الخطأ معارضة ما جاء في القرآن الكريم ببحوث تعتمد في ترجيحاتها على الاحتماليّة الاجتهاديّة.

كما أنّ الاعتماد على الآثار والحفريّات قد يكون صالحاً في دراسة الآثار الماديّة من مدن وحصون وحضارات قديمة، ومن الصعب الاستعانة بتلك المنهجيّة التاريخيّة للوقوف على الفعل الاجتماعيّ والإنسانيّ لحضارات موغلة في القدم، والقصص القرآنيّة لا تحكي عن آثار ماديّة حتّى نستعين بالحفريّات للتأكّد منها، وإنّما هي قصص لها علاقة بالفعل الإنسانيّ والأحداث الاجتماعيّة.

ثانياً: تناول القرآن في قصصه أموراً يستحيل على الإنسان معرفتها من دون إخبار الوحي بها، ولا يمكن الادّعاء بوجود منهجيّة علميّة تمكّننا من الإحاطة بما وقع بالفعل في تلك الحضارات القديمة، فالطرف الذي يُشكّك في واقعيّة هذه القصص إنّما يشكّك من باب الإنكار والمجادلة؛ وذلك لأنّه لا يوجد أيّ سبيل لإثبات خلاف ما جاء ذكره في القرآن، وقد أشار القرآن إلى هذا الأمر عندما أكّد بأنّ هذه القصص من أنباء الغيب، قال تعالى: ﴿تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا﴾.

وبذلك ننفي وجود أيّ طريق علميّ يمكن الاستعانة به غير التصديق بما جاء في القرآن، ومَنْ لم يُرِدْ أن يُصدّق فهذا شأنه، قال تعالى: ﴿وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ ۖ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾. وقال تعالى: ﴿قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ﴾.

ثالثاً: يبدو أنّ تشكيكات البعض في قصص القرآن ناتج عن تقليد أعمى لبعض الباحثين الغربيّين الذين شكّكوا في قصص التوراة والإنجيل، وهذا قياس لا يمكن قبوله والتسليم به، وقد سبق القرآن هؤلاء الباحثين عندما أكّد على التحريفات التي وقعت في تلك الكتب السماويّة، وهذا ما لم يحدث في القرآن الكريم، والأدلّة على أنّ القرآنَ محفوظٌ كثيرة وقد ذُكِرتْ في محلّها، ومن المعلوم أنّ كتب أهل الكتاب مليئة بالخرافات والأساطير إلى درجة أنّ بعضها مخالفٌ لأدنى القيم الأخلاقيّة والضرورات العقليّة، وهذا بخلاف ما جاء في القرآن، فكلّ من يقرأ القرآن وهو متجرّد للحقيقة سوف يكتشف الفرق الكبير بينه وبين ما هو موجود في أيدي اليهود والنصارى، فالقرآن ليس فقط ينقل بعض القصص بكلّ واقعيّة وموضوعيّة وإنّما ينقل لنا عبر تلك القصص مجموعة من العبر والحِكم والقيم والسنن التاريخيّة التي نحتاج معرفتها من أجل حياتنا الراهنة، فمع أنّها قصص وقعت في الماضي إلّا أنّها لا تزال حاضرة ومتجليّة في حياتنا اليوميّة.

رابعاً: ليس من وظيفة القرآن تقديم تواريخ للقصص التي يذكرها، والسبب في ذلك أنّ القرآن لا يستهدف سرد المراحل التاريخيّة للبشر، وإنّما يستهدف نقل ما يمثّل عبرة من مجمل تلك المراحل التاريخيّة، وعندما يتعرّض لذكر بعض الحوادث الماضية لا يتعرّض لها بقصد توثيقها كحدثٍ تاريخيٍّ قد وقع، وإنّما بهدف توظيف بعض جوانبها من أجل هدفه العامّ وهو الهداية، ولا يمكن أن يتحقّق ذلك الهدف إلّا إذا كانت القصّة نابعة من الواقع الإنسانيّ وليست من محض الخيال، إذْ لا يمكن الاعتبار من القصّة ولا يمكن أن تكشف عن سنّة اجتماعيّة إذا كانت مجرّد أسطورة، فواقعيّة القصّة واتّصالها المباشر بالفعل الإنسانيّ هو الذي يحقّق للقرآن الهدف الذي يرجوه، ومن هنا فإنّ كلّ ما في القرآن من وقائع وأحداث ماضية هي حقائق حدثت بالفعل، وقد فرّق القرآن بشكل واضح بين الأمثال التي تضرب لتقريب فكرة ما، وبين القصص الواقعيّة التي تكشف عن سنن تاريخيّة واجتماعيّة، فعندما يريد القرآن أن يضرب مثلاً يُصرّح بذلك كقوله تعالى: ﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً..﴾.

وهذا بخلاف تناول القرآن للقصص، إذْ يتناولها بوصفها حقائق واقعيّة متحقّقة في الخارج، وقد صرّح القرآن بذلك في كثير من الآيات كقوله تعالى: ﴿لَقَدْ كاَنَ في قَصَصِهِمْ عِبرْةٌ لّأِوْلىِ الألباب مَا كاَنَ حَدِيثًا يُفْترَى‏ وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِى بَينْ‏ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلّ‏ شيءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُون﴾، وكذلك قوله: ﴿وَكلاُّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ في هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى‏ لِلْمُؤْمِنِين﴾.