الإعجازُ العلميّ في القرآن، الحدودُ والضوابط
أودُّ طرحَ السؤالِ التالي: في ظلِّ التطوّراتِ العلميّةِ العصريّة، هل أنَّ إثباتَ ما أخبرَ عَنه القرآنُ بحُججٍ علميّةٍ دامغة لا تقبلُ الدّحضَ فرضٌ منَ الفروضِ الواجبةِ أم لا؟ كإثباتِ وجودِ آدم مكاناً وزماناً وكيفيّةً.
الجوابُ:
ما نفهمُه منَ السؤالِ أنَّ السائلَ يبحثُ عن الإعجازِ العلميّ في القرآنِ الكريم؛ حيثُ ربطَ السائلُ بينَ إثباتِ ما جاءَ في القرآنِ وبينَ التطوّراتِ العلميّةِ المُعاصرة، إلّا أنَّ مثالَهُ حولَ زمانِ ومكانِ آدم عليهِ السلام فيه تقييدٌ للبحثِ العلميّ بما له علاقةٌ بالبحوثِ التاريخيّةِ والأثريّة.
وهذه البحوثُ بطبيعتِها المنهجيّةِ لا توصلُ الإنسانَ إلى درجةِ اليقينِ الذي لا يقبلُ الدّحضَ كما طلبَ السائل؛ وذلكَ لأنَّ العلومَ التي تعتمدُ على جمعِ الشواهدِ والقرائنِ لا تصيبُ الواقعَ بتمامِه ويبقى احتمالُ المُخالفةِ قائماً مهما تضافرَت القرائن.
ومعَ ذلكَ لا يجوزُ التشكيكُ فيها اعتباطاً لكونِها منَ العلومِ المُعترفِ بها عندَ جميعِ العُقلاء.
ومِن هُنا يجبُ على السائلِ الالتفاتُ إلى الفرقِ بينَ اليقينِ في العلومِ الطبيعيّةِ وبينَ اليقينِ في العلومِ الإنسانيّة.
ففي العلومِ الطبيعيّةِ لا يتحقّقُ اليقينُ إلّا بالمُطابقةِ الكاملةِ والنفيّ الحتميّ لأيّ احتمالٍ مُخالف، ويتمُّ ذلكَ مِن خلالِ التأكّدِّ الحسّيّ سواءٌ كانَ حسّاً بسيطاً أو كانَ قائماً على التجربةِ العلميّةِ المُعقّدة.
أمّا اليقينُ في العلومِ الإنسانيّة فيكفي فيهِ وجودُ القرائنِ المُرجّحةِ معَ ضعفِ أو غيابِ القرائنِ المُخالفة.
ومعَ ذلكَ يجبُ التمسّكُ بنتائجِ هذه العلومِ إلى حينِ قيامِ قرائنَ عقلائيّةٍ مخالفة.
فمثلاً في قضيّةِ آدم عليهِ السلام ولكونِها قضيّةً غائبةً عن الحسِّ وغيرَ خاضعةٍ للتجاربِ المُختبريّةِ فإنَّ العقلَ يكتفي باليقينِ الحاصلِ مِن وجودِ الشواهدِ والقرائنِ الدالّةِ على وجودِه في الجُملة.
فمِن خواصِّ العقلِ تصديقُ ما تتوفّرُ فيه دواعي التصديق، وما جاءَ في القرآنِ الكريم عن آدمَ عليهِ السلام يورثُ اليقينَ بوصفِه كتاباً موثّقاً في نظرِ العقل، ولا يطالبُ العقلُ لتحقّقِ هذا اليقين بأكثر ممّا جاءَ في وصفِ آدم عليهِ السلام في القرآن.
ولو أرادَت العلومُ الحديثةُ الوصولَ الحسّيّ إلى آدمَ عليهِ السلام لاستحالَ عليها ذلك.
وعليهِ فإنَّ القرآنَ لوحدِه كافٍ فيما يتعلّقُ بقصّةِ آدم عليهِ السلام.
أمّا مَن يُشكّكُ في القرآنِ فلا يتمُّ مُناقشتُه حولَ إثباتِ آدم وإنّما يتمُّ النقاشُ معهُ في إثباتِ كونِ القرآنِ منَ الله، والذي يُشكّكُ في وجودِ الله لا يتمُّ مناقشتُه حولَ القرآن وإنّما يتمُّ مناقشتُه حولَ إثباتِ وجودِ الله.
هذا هو التسلسلُ المنطقيُّ لإثباتِ ما جاءَ في القرآنِ فيما يتعلّقُ بقصّةِ آدمَ عليهِ السلام.
ومنَ المُفيدِ أن نؤكّدَ على ملاحظةٍ مُهمّةٍ فيما يتعلّقُ بالإعجازِ العلميّ في القرآنِ الكريم، وهيَ أنَّ القرآنَ ليسَ كتاباً في العلومِ الطبيعيّة حتّى نجعلَهُ مصدراً في ذلك، بل الإنسانُ بالأساسِ لا يحتاجُ إلى كتابٍ منَ السماء يتعلّمُ منهُ تلكَ العلوم، فالإنسانُ بنفسِه وبما منحَهُ ربُّه مِن قدراتٍ علميّةٍ قادرٌ على كشفِ أسرار الطبيعة، وما تشهدُه البشريّةُ مِن تطوّرٍ علميّ في كافّةِ المجالاتِ لخيرُ دليلٍ على ذلك.
وعليهِ فإنَّ الاعتقادَ بأنَّ القرآنَ لابدَّ أن يكونَ مرجعاً في علومِ الكونِ والطبيعة اعتقادٌ خاطئ ولا يوجدُ ما يُبرّرُه.
فالإنسانُ في أمسِّ الحاجةِ إلى كتابٍ منَ السماء يعملُ على تكاملِه الروحيّ والمعنويّ، ومِن هُنا كانَ القرآنُ كتابَ بصائرَ وهُدى للناس، قالَ تعالى: (هَٰذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحمَةٌ لِّقَومٍ يُوقِنُونَ)، فالقرآنُ رسالةُ اللهِ للإنسان لكي يهديَهُ سبيلَ الرشاد ويبصّرَه حقائقَ الأشياءِ ويبشّرَه بالجنّةِ ويحذّرُه منَ النار.
ومنَ الواضحِ أنَّ الهدايةَ ليسَت موقوفةً فقط على تذكيرِ الإنسانِ بحِكمةِ الحياة وغاياتِ الخلقةِ وإنّما تتوقّفُ أحياناً على ذكرِ بعضِ الحقائقِ الطبيعيّةِ التي تقوّي صلةَ الإنسانِ باللهِ تعالى، أو تنبّهُ الإنسانَ إلى نعمِ الله وكيفَ سخّرَ له الطبيعةَ وهيّأ له ظروفَ الحياةِ فيها.
ومِن هُنا نفهمُ الآياتِ التي تحدّثَت عن النجومِ والكواكبِ والبحارِ والجبالِ والرّياحِ والأمطارِ وغيرِ ذلك منَ الحقائقِ بوصفِها حقائقَ طبيعيّةً تقعُ في طريقِ هدايةِ الإنسان.
فمِن خلالِ عدمِ التسليمِ بكونِ القرآنِ مرجعاً للعلومِ الطبيعيّة، وفي نفسِ الوقتِ الإيمانُ بما جاءَ فيه مِن حقائقَ كونيّةٍ على سبيلِ الهدايةِ والتذكير، يمكنُنا فهمُ المقصودِ منَ الإعجازِ العلميّ على نحوِ الدقّة.
وبالتالي كونُ القرآنِ مُعجِزاً علميّاً لا يعني أنّه بديلٌ عن وسائلِ البحثِ العِلمي، أو أنَّ ما فيه مِن حقائقَ علميّةٍ تصلحُ للمُقارنةِ والمُعارضة معَ ما أثبتَتهُ العلومُ الحديثة، وذلكَ لكونِ القرآنِ يتحرّكُ في اتّجاهٍ يختلفُ تماماً عن الاتّجاهِ الذي يتحرّكُ فيه البحثِ العِلمي.
فبينما يستثمرُ القرآنُ تلكَ الحقائقَ لهدايةِ الإنسان مِن دونِ الحاجةِ للكشفِ عن كيفيّةِ عملِها مادّيّاً، نجدُ أنَّ العلمَ يهتمُّ بالرّوابطِ الكيميائيّةِ أو الفيزيائيّةِ أو البيولوجيّةِ التي تفسّرُ وجودَ الظاهرةِ الطبيعيّة.
ومنَ الواضحِ أنَّ العلومَ في تفسيراتِها قد تكونُ مُختلفةً ومتباينةً ولا يمكنُ الوصولُ فيها إلى حقائقَ لا يصيبُها التطوّرُ والتبدُّل، فما يثبتُه العلمُ اليوم قد يثبتُ نقيضهُ غداً، وهذا ما لا يمكنُ حدوثُه معَ القرآن، ليسَ لكونِه مصدراً إلهيّاً معصوماً منَ الخطأ فحسَب وإنّما لكونِ القرآنِ تناولَ تلكَ الظواهرِ الطبيعيّةِ على مُستوى الحِكمةِ والغايةِ دونَ التحدّثِ عن آليّاتِ عملِها مادّيّاً.
فمثلاً تحدّثَ القرآنُ عن كونِ الجبالِ أوتاداً للأرض دونَ تقديمِ تفسيرٍ مادّيٍّ لذلك، بينَما علماءُ الجيولوجيا يقدّمونَ تفسيراً مادّيّاً لتلكَ الظاهرةِ وهذا التفسيرُ بالطبع قابلٌ للتطوّرِ أو التعديلِ أو التبديل، فالأمرُ المُتّفقُ عليه كونُ الجبالِ تُشكّلُ حمايةً للأرضِ أمّا تفسيرُ ذلك فمُهمّةُ العلمِ وليسَ القرآن.
وإذا كانَت وظيفةُ القرآنِ فيما يتعلّقُ بالحقائقِ الطبيعيّةِ تختلفُ عن وظيفةِ العلم حينَها نفهمُ الإعجازَ العلميّ على أنّه إشارةٌ مبكرةٌ لبعضِ الحقائقِ التي لا يمكنُ للإنسانيّةِ التعرّفُ عليها في تلكَ الفترةِ التاريخيّة، ولكن ليسَ على نحوِ الكشفِ العلميّ وإنّما على نحوِ الهدايةِ وربطِ الإنسانِ بفلسفةِ الخلقةِ وغاياتِ الوجود.
فعندَما تحدّثَ القرآنُ مثلاً عن مراحلِ تطوّرِ الجنين في بطنِ أمّه إنّما أرادَ أن يذكّرَ الإنسانَ بمدى ضعفِه وحاجتِه إلى الله، فالغايةُ هيَ الهدايةُ وتبصرةُ الإنسانِ بحقيقتِه وأصلِه.
ومراحلُ تطوّرِ الجنين ليسَت افتراضاً خياليّاً وإنّما هيَ حقيقةٌ سوفَ يؤكّدُها البحثُ العلميّ في ما بعد، ممّا يعني أنَّ الهدايةَ إذا توقّفَت على بعضِ المُقدّماتِ الطبيعيّة لابدَّ أن تكونَ تلكَ المُقدّماتُ على نحوِ الحقيقةِ والواقع، ومِن معاجزِ القرآن أنّه يذكرُ تلكَ الحقائقَ بالشكلِ الذي يصدّقُها أهلُ ذلكَ الزمان معَ عدمِ قُدرتِهم على التأكّدِ مِنها، وفي نفسِ الوقت يُصدّقُها العلمُ والمُختبر في الأزمانِ اللّاحقة.
فمثلاً عندَما يتحدّثُ القرآنُ عن اللبنِ الذي يخرجُ صافياً ما بينَ فرثٍ ودم، قالَ تعالى: (وَإِنَّ لَكُم فِي الأَنعامِ لَعِبرَةً نُسقيكُم مِمّا في بُطونِهِ مِن بَينِ فَرثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خالِصًا سائِغًا لِلشّارِبينَ) فإنَّ إنسانَ التاريخِ يقفُ على الغايةِ وهيَ تذكيرُ الإنسانِ بنعمِ الله وفضلِه ويكتفي بالنتيجةِ المعلومةِ لديه بالضرورة وهيَ كونُ اللبنِ يأتيه صافياً سائغاً للشّاربين.
وإذا أرادَ الإنسانُ المُعاصر اختبارَ هذهِ المعلومة لا يمكنُه إثباتُ ما يخالفُها فيُسمّى ذلكَ إعجازاً علميّاً.
وهكذا في بقيّةِ الأمثلةِ التي تُذكَرُ على سبيلِ الإعجازِ العِلمي.
وعليهِ يجبُ الوقوفُ في الوسطِ بينَ مَن يندفعُ في الإعجازِ العِلمي إلى درجةٍ يتحوّلُ معَها القرآنُ إلى كتابٍ في العلوم، وبينَ مَن يرفضُ ذلكَ تخوّفاً مِن اختلافِ البحوثِ العلميّةِ فيما بينَها أو اختلافِها معَ القرآن، فما يشيرُ إليهِ القرآن مِن أمورٍ طبيعيّة تشكّلُ مُقدّماتٍ لهدايةِ الإنسان وفي نفسِ الوقتِ ليسَت مُجرّدَ افتراضاتٍ لا يؤكّدُها الواقع.
وفي المُحصّلةِ إثباتُ ما أخبرَ القرآنُ عنه علميّاً ليسَ منَ الفروضِ الواجبةِ فإذا تحقّقَ ذلك فهوَ تأكيدُ المؤكّدِ وإذا لم يحدُث فاليقينُ مُتحقّقٌ لدى المؤمنِ بالقرآنِ الكريم.
اترك تعليق