‏القرآن الكريم في نظر توماس كارليل

‏القرآن الكريم في نظر توماس كارليل: لو ألقينا نظرةً صحيحةً و مباشرةً على محتوى القرآن، فلن نجدَ سوى عدمِ الإتّساق، قراءةُ هذا الكتابِ مُتعبةٌ كما لم أعهد مِن قبل، عبارةٌ عن خليطٍ مُربِكٍ ، مُتعبٍ ، فَظٍّ ، غليظٍ ، تكرارٌ لا نهائيّ يقطعُ الأنفاس، غباءٌ لا يُمكن تحمّله . توماس كارليل

: الشيخ معتصم السيد احمد

الجواب:

ما يؤسفُ له أنَّ البعضَ ينشرُ أقوالاً كاذبةً على لسانِ بعضِ المُفكّرينَ والفلاسفةِ الغربيّين بغرض تشويه الإسلام، الأمرُ الذي يؤكّد حجمَ الخداع الذي يمارسُه الإلحادُ في وسطِ الشبابِ العربيّ والإسلامي، فينسبونَ بعضَ الأقوالِ المُنحرفةِ عن الإسلام والقرآن لبعضِ الأسماء الرنّانة لعلمِهم بأنَّ الأكثريّة يصدّقون مِن دون فحصٍ أو تحقيق، ومِن أكبرِ الشواهد على ذلك هذا الكلامُ الذي تمّت نسبتُه إلى الفيلسوفِ والأديبِ الأسكتلندي توماس كارليل (1795 - 1881)‏.

أردنا في البدايةِ الردَّ على هذا الكلامِ بشكلٍ مباشرٍ، إلّا أنّنا رأينا منَ المناسبِ التأكّدُ مِن مصدرِه أوّلاً، الأمرُ الذي اضطرّنا إلى قراءةِ الكثيرِ ممّا كتبَه هذا الأديبُ والفيلسوف، وقد كانَت النتيجةُ مفاجئةً عندما علِمنا بموقفِ هذا الفيلسوف منَ الإسلام، فقد كانَ محبّاً ومدافعاً عن الرسولِ وعن القرآن حتّى تظنَّ أنّه مسلمٌ، فمِن أهمّ الأعمالِ التي كتبها توماس كارليل هو كتابُ (الأبطال)، وقد تمّت ترجمةُ هذا الكتابِ بواسطة محمّد السباعي وتمَّ نشرُه في دارِ الكتابِ العربي.

ويمثّل هذا الكتابُ دراسةً أدبيّةً وتاريخيّةً للبطولة، حيثُ عرضَ فيه أرقى النماذجِ للبطولة، فاختارَ للبطلِ المعبودِ أو الإله (الأسطورةُ أودين الإسكندنافي)، واختارَ للبطلِ النبيّ شخصيّةَ النبيّ محمّد (صلّى اللهُ عليه وآله)، واختارَ للبطلِ الشاعر، دانتي وشكسبير، واختارَ للبطلِ الرّاهب، مارتن لوثر زعيم الإصلاحِ الدينيّ وجون نوكس زعيم المُطهّرين، واختار للبطلِ الكاتب والأديب، صمويل جونسون وروسو وبرنز، واختار للبطلِ الملك والحاكم، كرومويل ونابليون الذي كانَ مُعاصراً له.

وعندَما وقَفنا على الفصلِ الثاني منَ الكتاب الذي كان خاصّاً بالنبيّ محمّد (صلّى اللهُ عليه وآله) وجدنا فيه إعظاماً وتكريماً ومدحاً وتبجيلاً لشخصِ النبيّ محمّد بأروعِ العباراتِ وأفصح الكلمات، فقد كانَ هذا الكتابُ بحقٍّ تحدّياً لثقافةِ عصره، حيثُ كتبهُ في القرنِ الثامن عشر والإلحادُ في قوّةِ سطوته، وقد جاءَ في مقدّمةِ هذا الكتاب إشادةٌ مِن ريتشارد جازييت بقوله: "فلمّا كتبَ كارليل مقالتَه عن الإسلام ينافحُ فيها عن محمّد ويناضلُ دونه، لم يبقَ هجّاءٌ أطلقَ يدَه في محمّد إلّا قبضَها مجذومةً شلّاء، ولا فحّاشٌ يرمي ذلكَ الأديم الأملس وتلك الصحيفةَ البيضاء بسهامِ السّباب إلّا وردّت سهامُه في نحره، حتّى راحَ شرفُ النبيّ في تلكَ الديار بفضلِ الفيلسوفِ الأكبر صحيحِ الأديم موفور الجانب، فحقَّ على عُصبة الإسلام جميعاً أن تشكرَ لذلك البطلِ الجليل هذه اليدَ البيضاء والمنّة الغرّاء، ولعمري لو أنّهم نصبوا له على كلِّ مأذنةٍ تمثالاً وزيّنوا باسمه جدرانَ المساجدِ وخُطب المنابرِ لما كانوا في أداءِ واجبِه إلّا مُقصّرين، وعن القيامِ ببعضِ حقّه عاجزين"

وسوفَ نكتفي بنقل بعضِ عباراتِه في الرّسول وفي القرآنٓ كشاهدٍ على مدى احترامِه وتقديرِه للإسلام كتاباً ورسولاً، فكلُّ ما سطرهُ في هذا الفصل يستحقُّ النشر إلّا أنَّ المقام لا يسمحُ بذلك، ومَن أرادَ الوقوفَ على ذلك بنفسِه فالكتابُ موجودٌ بحمدِ الله pdf على صفحاتِ الانترنت.

مِن أقوالهِ عن النبيّ في هذا الكتاب: "وعلى ذلكَ فلسنا نعدُّ محمّداً هذا قطّ رجلاً كاذباً مُتصنّعاً يتذرّع بالحيلِ والوسائل إلى بُغيةٍ، أو يطمحُ إلى درجةِ ملكٍ أو سلطان، أو غير ذلك من الحقائر والصغائر. وما الرسالةُ التي أدّاها إلّا حقٌّ صُراح، وما كلمتُه إلّا صوتٌ صادقٌ صادرٌ منَ العالمِ المجهول. كلّا، ما محمّدٌ بالكاذبِ ولا المُلفّق، وإنّما هو قطعةٌ منَ الحياة قد تفطّر عنها قلبُ الطبيعة، فإذا هي شهابٌ قد أضاءَ العالمَ أجمع. ذلكَ أمرُ الله، وذلك فضلُ الله يؤتيه مَن يشاء والله ذو الفضلِ العظيم، وهذه حقيقةٌ تدمغُ كلَّ باطلٍ وتدحضُ حجّةَ القومِ الكافرين"

وقد قالَ في صفةِ النبيّ (صلّى اللهُ عليه وآله): "وقد رأيناه طولَ حياتِه رجلاً راسخَ المبدأ، صارمَ العزم، بعيدَ الهمّ، كريماً برّاً رؤوفاً تقيّاً فاضلاً حرّاً، رجلاً شديدَ الجدّ مخلصاً، وهوَ مع ذلك سهلُ الجانب ليّنُ العريكة، جمُّ البشرِ والطلاقة، حميد العشرة حلو الإيناس، بل ربّما مازحَ وداعب. وكانَ على العمومِ تضيءُ وجهَهُ ابتسامةٌ مشرقةٌ من فؤادٍ صادق، لأنَّ منَ الناسِ مَن تكونُ ابتسامتُه كاذبةً ككذبِ أعمالِه وأحواله، هؤلاءِ لا يستطيعونَ أن يبتسموا. وكان محمّدٌ جميلَ الوجه، وضيءَ الطلعة، حسنَ القامة، زاهيَ اللون، مع عينانِ سوداوانِ تتلألآن ...

رجلاً عظيماً بفطرتِه لم تثقّفهُ مدرسةٌ ولا هذّبهُ معلم، وهو غنيٌّ عن ذلكَ كالشوكةِ استغنَت عن التنقيح، فأدّى عملَه في الحياةِ وحدَه في أعماقِ الصحراء"

وقالَ في حقِّ الإمامِ عليّ (عليهِ السلام): "أمّا عليٌّ فلا يسعُنا إلّا أن نحبّه ونتعشّقَه، فإنّه فتىً شريفُ القدرِ كبيرُ النفس، يفيضُ وجدانُه رحمةً وبرّاً، ويتلظّى فؤادُه نجدةً وحماسة، وكانَ أشجعَ مِن ليث، ولكنّها شجاعةٌ ممزوجةٌ برقّةٍ ولطفٍ ورأفةٍ وحنان، جديرٌ بها فرسانُ القرونِ الوسطى، وقد قُتلَ بالكوفةِ غيلةً وإنّما جنى ذلكَ على نفسِه بشدّةِ عدلِه حتّى حسبَ كلّ إنسانٍ عادلاً مثله"

وقد وصفَ لحظةَ نزولِ الوحيّ على النبيّ بقوله: "فلمّا كانَ في الأربعينَ مِن عُمره وقد خلا إلى نفسِه في غارٍ بجبل (حِراء) قربَ مكّة شهرَ رمضان، ليفكّر في تلكَ المسائل الكُبرى، إذا هوَ قد خرج إلى خديجةَ ذاتَ يوم، وكان قد استصحبَها ذلكَ العام وأنزلها قريباً مِن مكانِ خلوته، فقالَ لها أنّه بفضلِ الله قد استجلى غامضَ السرّ واستثارَ كامنَ الأمر، وأنّه قد أنارَت الشبهةُ وانجلى الشكُّ وبرحَ الخفاء، وأنَّ جميعَ هذه الأصنام محالٌ، وليسَت إلّا أخشاباً حقيرة، وأنَّ لا إله إلّا الله وحدَه لا شريكَ له، فهوَ الحقُّ وكلُّ ما خلاه باطلٌ، خلقَنا ويرزقُنا وما نحنُ وسائرُ الخلقِ والكائنات إلّا ظلٌّ له وستارٌ يحجبُ النور الأبديّ والرونقَ السرمديّ، اللهُ أكبر وللهِ الحمد، ثمّ الإسلامُ وهو أن نسلّمَ الأمرَ لله، ونذعنَ له، ونسكنَ إليه، ونتوكّلَ عليه، وأنَّ القوّةَ كلُّ القوّةِ هيَ في الاستنامةِ لحكمه، والخضوعِ لحِكمته، والرّضا بقسمتِه، أيّاً كانَت في هذه الدّنيا وفي الآخرة، ومهما يُصِبنا به اللهُ ولو كانَ الموتُ الزؤام فلنلقَه بوجهٍ مبسوطٍ ونفسٍ مغتبطةٍ راضية، ونعلم أنّه الخيرُ وأنَّ لا خيرَ إلّا هو.. ولقد قالَ شاعرُ الألمان وأعظمُ عظمائهم (غوته): إذا كانَ ذلك هوَ الإسلام فكلّنا إذن مسلمون، نعم كلُّ مَن كان فاضلاً شريفَ الخُلق فهوَ مسلم"

ويقولُ في شأنِ الوحي: "نعم، هوَ نورُ الله قد سطعَ في روحِ ذلك الرّجل فأنارَ ظلماتها، هوَ ضياءٌ باهرٌ كشفَ تلك الظلماتِ التي كانَت تؤذنُ بالخسرانِ والهلاك، وقد سمّاه محمّدٌ وحياً و (جبريل)، وأيّنا يستطيعُ أن يحدثَ له اسماً، ألم يجيء في الانجيلِ أنَّ وحيَ الله يهبُنا الفهمَ والإدراك، ولا شكَّ أنَّ العلمَ والنفاذَ إلى صميمِ الأمورِ وجواهرِ الأشياء لسرٌّ مِن أغمضِ الأسرار لا يكادُ المنطقيّونَ يلمسونَ منه إلّا قشوره... وكونُ الله قد أنعمَ عليه بكشفها له ونجّاه منَ الهلاكِ والظلمة، وكونُه قد أصبحَ مُضطرّاً إلى إظهارِها للعالمِ أجمع، هذا كلّه معنى كلمة (محمّدّ رسولُ الله) وهذا هو الصّدقُ الجليّ والحقُّ المُبين"

ويبدو لي أنَّ المقطعَ الذي تمَّ التلاعبُ فيه هو قوله: "أمّا القرآن فإنَّ فرطَ إعجابِ المسلمينَ به وقولَهم بإعجازِه هو أكبرُ دليلٍ على اختلافِ الأذواق في الأممِ المُختلفة، هذا وإنَّ الترجمةَ تذهبُ بأكثرِ جمالِ الصنعةِ وحُسنِ الصياغة، ولذلكَ لا عجبَ إذا قلتُ أنَّ الأوروبيّ يجدُ قراءةَ القرآن أكبرَ عناء، فهوَ يقرأه كما يقرأ الجرائد، لا يزالُ يقطعُ في صفحاتها قفاراً منَ القولِ المُملّ المُتعب، ويحملُ على ذهنِه هضاباً وجبالاً منَ الكلم، لكي يعثرَ في خلالِ ذلك على كلمةٍ مُفيدة، أمّا العربُ فيرونَه على عكسِ ذلك لِما بينَ آياتِه وبينَ أذواقِهم من المُلاءمة، ولأنّ الترجمةَ ذهبَت بحُسنه ورونقِه، فلذلكَ رآه العربُ منَ المُعجزات، وأعطوهُ منَ التبجيلِ ما لم يُعطِه أتقى النصارى لانجيلِهم، وما برحَ في كلِّ زمانٍ ومكان قاعدةَ التشريعِ والعمل، والقانون المُتّبع في شؤونِ الحياة ومسائلها، والوحي المُنزل من اَلسماء هدىً للناسِ وسراجاً منيراً يضيءُ لهم سبلَ العيش ويهديهم صراطاً مُستقيماً، ومصدرَ أحكامِ القضاء، والدرسَ الواجبَ على كلِّ مسلمٍ حفظهُ والاستنارة به في غياهبِ الحياة. وفي بلادِ المسلمينَ مساجدُ يُتلى فيها القرآنُ جميعُه كلَّ يومٍ يتقاسمُه ثلاثونَ قارئاً على التوالي، وكذلكَ لا يبرحُ هذا الكتابُ يرنُّ صوتهُ في آذان الألوفِ مِن خلق الله وفي قلوبِهم اثنا عشر قرناً في كلِّ آنٍ ولحظة"

وبذلكَ يتّضحُ الموضعُ الذي تمَّ تزويرُه وتحريفه، وإن كانَ صاحبُ السؤال يعرفُ لهذا الكلام مصدراً آخر فليدلّنا عليه.