إقامة الحدود في عصر الغيبة

يذمُّ بعضُ المُتنطّعينَ الشيعةَ لقولِهم بتعطيلِ الحدود في عصرِ الغيبة ويسألونَ ما هو الدليلُ على سقوطِ الحدودِ أوّلاً، وثانياً أليسَ إبطالُ الحدودِ فيه مفسدةٌ عظيمةٌ تصلُ إلى درجةِ إطلاقِ يد الفسقةِ مِن دون عقاب؟

: الشيخ معتصم السيد احمد

الجواب:

لابدَّ منَ الإشارةِ هُنا إلى أنَّ المشهورَ بينَ فقهاءِ الشيعة هو جوازُ إقامةِ الحدود في عصرِ الغيبة، وكلُّ ما هنالك أنّهم يربطونَ ذلكَ بالحاكمِ الشرعيّ الجامعِ للشرائط، فالفرقُ كبيرٌ بينَ تعطيلِ الحدودِ بالمرّة في عصرِ الغيبة، وبينَ جعلها مِن صلاحيّات الحاكمِ الشرعيّ الجامعِ للشرائط، فما يتمسّك به الشيعةُ في عصرِ الغيبة هو أنَّ إقامةَ الحدودِ مِن صلاحيّاتِ الحاكمِ الشرعيّ دون غيرِه منَ الحكّام.

يقول السيّدُ الخوئي في ذلك: "هذا هوَ المعروفُ والمشهور بينَ الأصحاب، بل لم ينقُل فيه خلافاً إلّا ما حُكي عن ظاهر ابني زهرة وإدريس مِن اختصاصِ ذلكَ بالإمام أو بمَن نصّبَه لذلك‌. وهوَ لم يثبُت، ويظهرُ من المُحقّق في الشرائعِ والعلّامةِ في بعضِ كتبه التوقّف‌.

ويدلّ على ما ذكرناه أمران: الأوّل: أنّ إقامةَ الحدود إنّما شرّعَت للمصلحةِ العامّة ودفعاً للفسادِ وانتشار الفجورِ والطغيانِ بينَ الناس، وهذا ينافي اختصاصَه بزمانٍ دونَ زمان، وليس لحضورِ الإمام (عليهِ السلام) دخلٌ في ذلكَ قطعاً، فالحكمةُ المُقتضيةُ لتشريع الحدودِ تقضي بإقامتِها في زمانِ الغيبة كما تقضي بها زمانَ الحضور.

الثاني: أنّ أدلّة الحدودِ كتاباً وسنّةً مطلقةٌ وغيرُ مقيّدةٍ بزمانٍ دون زمان، كقولِه سبحانه‌ «اَلزَّانِيَةُ وَاَلزَّانِي فَاجلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنهُمَا مِائَةَ جَلدَةٍ»، وقوله تعالى‌َ: «اَلسَّارِقُ وَاَلسَّارِقَةُ فَاقطَعُوا أَيدِيَهُمَا». وهذه الأدلّةُ تدلّ على أنّه لا بدّ من إقامة الحدود، ولكنّها لا تدلّ على أنّ المُتصدّي لإقامتِها مَن هو، ومنَ الضروريّ أنّ ذلكَ لم يُشرّع لكلّ فردٍ من أفراد المُسلمين، فإنّه يوجبُ اختلالَ النظام، وأن لا يثبتَ حجرٌ على حجر، بل يُستفادُ مِن عدّةِ رواياتٍ أنّه لا يجوزُ إقامةُ الحدّ لكلِّ أحد... ثمّ بعدَ ذكره للرّوايات التي تؤيّدُ مرجعيّةَ الفقهاء في عصرِ الغيبة يقول: فإنّها بضميمةِ ما دلّ على أنّ مَن إليه الحُكمُ في زمانِ الغيبة هُم الفقهاءُ تدلّ على أنّ إقامةَ الحدودِ إليهم ووظيفتهم"

ويقولُ صاحبُ الجواهر في هذا السياق: «... وبأنَّ تعطيل‌َ الحدود‌ يُفـضي‌ إلى ارتـكابِ المحارم، وانتشارِ المفاسد، وذلكَ مطلوبُ الترك في نظرِ الشارع؛ وبأنَّ المُقتضى لإقامة‌ِ الحد‌ِّ قائم‌ٌ في صورتي حـضور الإمـام وغـيبته، وليسَت الحكمةُ عائدةً إلى مقيمِه قطعاً، فتكونُ عائدةً إلى‌ مستحقّه‌ أو إلى نوعٍ منَ المكلَّفين، وعـلى التـقديرين لابـدّ مِن إقامتِه مُطلقاً...»

ومِن ذلك يتّضحُ أنَّ اختلافَ الشيعة معَ المذاهبِ الأخرى فيما يتعلّقُ بإقامةِ الحدود هوَ أنَّ الشيعةَ لا يجيزون لغيرِ الفقهاء إقامةَ الحدود، بينَما غيرُهم من المذاهبِ يرضونَ بكلِّ مَن حكمَ برّاً كانَ أو فاجراً، ومن الرواياتِ التي يستدلُّ بها الشيعةُ في هذا الشأن مقبولة‌ُ عمر‌َ بن‌ِ حنظلة التي قالَ فيها: سألتُ أبا عبد الله (عليهِ السلام) عن رجلينِ مِن أصحابنا‌، بينَهما‌ مُنازعة‌ٌ في دَيْنٍ أو مـيراث، فـتحاكما إلى السلطانِ وإلى القُضاة، أيحلُّ ذلك؟ قـال: مـَن تحاكمَ إليهم في‌ حقٍّ أو باطلٍ فإنّما تحاكمَ إلى طاغوت، وما يحكمُ له فإنّما يأخذُ سُحتاً‌، وإن كانَ حقّاً ثابتاً‌ له‌؛ لأنّه أخذَه بحكمِ الطاغوت، وقد أمرَ الله أن يُكفر به، قالَ الله تعالى: ﴿يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقـَدْ أُمـِرُوا أَن يَكفُرُواْ بِهِ﴾، قلتُ: فكيفَ يصنعان؟ قال: ينظرانِ إلى مَن كانَ منكم، ممَّن قد روى حديثَنا، ونظرَ في حلالِنا وحرامنا، وعرفَ أحكامنا، فليرضوا به حكماً؛ فإنّي قد جعلتُه عليكم حاكماً...»، ويُستفادُ مِن ذلك أنّ الأعمالَ الحكوميّةَ التي يقومُ بها الطاغوتُ يجبُ أن يقومَ بها الفقهاء عند شيعةِ أهل البيت، ولا يجوزُ لهم التحاكمُ اختياراً عند الطاغوتِ بعد أن أمرَهم الله بالكُفر به.

وعليه يمكنُنا القولُ إنّ الحكمَ الأوّليَّ عندَ الشيعةِ هو جواز‌ُ إقامةِ الحدود‌ِ في زمانِ الغيبةِ عـن طـريقِ الفقيهِ الجامعِ للشرائط، إلّا أنّ الوضع الراهنَ السياسيّ والنظامَ العالميّ قائمٌ في مُجملِه على منعِ هذه الحدود، وبالتالي الشيعةُ لا يتحمّلونَ غيابَ هذه الحدود مِن قوانينِ الجنائيّات في الدولِ الإسلاميّة، ويُضافُ إلى ذلك وجودُ موجةٍ ثقافيّةٍ ضخمةٍ تعملُ على التنفيرِ مِن هذه الحدود ممّا جعلَ كثيراً منَ المُسلمين يتنكّرونَ عليها، ومِن هنا فإنَّ الأمرَ يحتاجُ إلى معالجاتٍ سياسيّةٍ وثقافيّة حتّى تصبحَ الحدودُ جُزءاً مِن قانونِ الجنائيّاتِ في الدولِ الإسلاميّة، وفي التصوّرِ الفقهيّ عندَ الشيعة يجوزُ للحاكمِ الشرعيّ تعليقُ العملِ بهذه الحدودِ ريثما‌ تـتهيّأ‌ الأفـكار‌ُ

العامّة لقبولِها ومعرفةِ علّةِ وضعها.

وهناك روايةٌ عن أميرِ المؤمنين (عليهِ السلام) يقولُ فيها: «لا أقيمُ على رجلٍ حدّاً بأرضِ العدو حتّى يخرجَ منها؛ مخافةَ أن تحملَه الحميّة‌ُ فيلحق‌َ بالعدوّ»، ويُفهم مِـن هـذه الروايةِ أنّه إذا تعارضَ إجراء الحدودِ مع المصالح‌ِ العُليا‌ للإسلام‌ يجبُ تقديمُ المصلحةِ العُليا.