الفروق بين المودّة والمحبّة في استعمالات القرآن الكريم، وما يترتّب على ذلك.
السؤال: يقول الله سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة:222]، ولكنّه تعالى حين يأتي على ذكر العلاقة بين الزوجين يقول: {وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم:21]، فلماذا؟، وما الفرق بين المحبّة والمود…
الجواب:
بسم الله الرحمن الرحيم.
تمام الإجابة عن السؤال المذكور تستدعي عقد الكلام في ثلاث مسائل:
المسألة الأولى: في استفهام السائل عن الفرق بين مادتي (وَدَّ) و (حَبَّ)، وللكلام في ذلك محوران:
المحور الأوّل: في الفرق بين المادّتين في أصل الوضع واللغة، فإنّ المستفاد من كلمات العلماء وجود عدّة فروقٍ بينهما، منها:
1- أنّ المودّة هي عين إظهار الحبّ على مستوى العمل، أو فقل: هي المحبّة العمليّة أو الحركيّة؛ فما لم يكن هنالك عملٌ وحركةٌ نحو ما تودّه لم تكن هنالك مودّة.
قال الفيض الكاشانيّ: (... والمودّة: هي من الودّ بمعنى الحبّ، وكان الفرق بينها وبين الحبّ أنّ الحبّ ما كان كامِناً في النفس وربّما لم يظهر أثره، بخلاف المودّة فإنّها عبارة عن إظهار المحبّة وإبراز آثارها من التألُّف والتعطُّف ونحو ذلك فالحبّ أعمّ وكذا مقابلاهما)[الوافي ج1ص68]
ونظيره ما يستفاد من كلمات السيد الطباطبائيّ من أنّ: (المودّة كأنّها هي الحبّ الظاهر أثره في مقام العمل، بخلافه في الحبّ فقد يكون له أثر وقد لا يكون؛ لذا فنسبة المودّة إلى الحبّ كنسبة الخضوع الظاهر أثره في مقام العمل إلى الخشوع الذي هو نوع تأثّرٍ نفسانيٍّ عن العظمة والكبرياء)،[ينظر: تفسير الميزان ج16ص166].
2- ما نقله ابن سيدَه عن أبي زيد من أنّ: (الودُّ: الحبُّ يكون في جَمِيعِ مَدَاخِل الخَيْرِ) [المحكم والمحيط الأعظم ج9ص368]، وعلى هذا يصحّ أن تقول: فلان يحبّ الشرّ، ولا يصحّ أنّ تقول يودُّه.
3- وأخيراً ذكر الراغب فقال: (والودّ: الوتد، وأصله يصحّ أن يكون "وتد" فأدغم، وأن يكون لتعلَّق ما يشدّ به، أو لثبوته في مكانه فتصُوّر منه معنى المودّة والملازمة ) [مفردات ألفاظ القرآن: ص861]. هذا أبرز ما في كلمات أهل العلم وأرباب اللغة.
المحور الثاني: في استعمالات القرآن الكريم للمادّتين (وَدَّ ، وحَبَّ) حيث تتّضح لنا جملةٌ من الفروق الاستعماليَّة بينهما، منها:
1- يمتاز متعلّق مادة (ودَّ) بأن يكون أحدَ شيئين فقط:
أحدهما: هو الإنسان دون سائر الكائنات والأعيان الخارجيّة الأخرى، تقول: أودُّ فلاناً، ولا تقول: أودّ المال أو غيره من الأعيان غير العاقلة، وعلى ذلك جاءت استعمالات القرآن الكريم، كقوله تعالى: {وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم:21].
والآخر: أن يكون متعلّقها هو الحدث، بشرط أن يكون مؤوّلاً لا صريحاً، وهذا ما يُعرف في النحو بالمصدر المؤوّل؛ ولذا كان لابدّ من مجيء حرفٍ مصدريٍّ بعدها. والغالب استعمال (لو) المصدريّة، كقوله تعالى: {وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ} [آل عمران: 69]، أي: ودّوا ضلالكم.
ولا فرق بين كون المصدر المؤوّل مأخوذاً من فعلٍ مذكورٍ كما في المثال المتقدّم، أو من فعلٍ محذوفٍ مقدّرٍ كالذي في قوله تعالى: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا} فإنّ تقديره: (لو ثبت أنّ بينها وبينه أمداً بعيداً؛ لأنّ (لو) المصدريّة لا تدخل إلّا على الفعل) [ينظر: مجمع البيان ج2 ص275].
هذا كلّه بخلاف مادة (حبَّ) فإنّها أعمّ استعمالاً، فتجري في كلّ شيءٍ محسوسٍ أو غيره، حدثاً كان أم عيناً، عاقلاً أم غير عاقل، قال تعالى: { زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ}[آل عمران:14]، وقال أيضاً:{ وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ}[الصَّفّ:13].
2- الذي يظهر من استعمالات القرآن الكريم أنّ الحبّ قد يكون في ما وافق الحكمة والطبع معاً، أو بانفراد أحدهما، أو قد يتحقّق بدونهما معاً، قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}[البقرة:216]، فإنّ محبّة الشرّ خلاف الطبع والحكمة معاً، ومع ذلك فقد تصدر عن الإنسان!، وهذا أمرٌ وجدانيٌّ غنيٌّ عن البرهان. أمّا المودّة فهي أخصّ منها؛ إذ لا تكون إلّا فيما وافق الطبع والحكمة معاً.
3- يستفاد من كلمات بعض المفسّرين أنّ جميع الموارد القرآنيّة التي استُعملت فيها مادّة (ودَّ) خاصّةً كان قد روعي فيها ملاحظة الأثر، قال في الميزان: (والودود من أسماء الله تعالى، وهو فعول من الودّ بمعنى الحبّ إلّا أنّ المستفاد من موارد استعماله أنّه نوعٌ خاصٌّ من المحبّة وهو الحبّ الذي له آثار وتبعات ظاهرة، كالألفة والمراودة والاحسان) [الميزان ج10ص274]، فالضمير المتّصل في قوله: (المستفاد من موارد استعماله) يرجع إلى الودّ، وليس إلى اسم الودود كما هو واضح.
4- يستفاد من استعمالات القرآن الكريم للمودّة خاصّةً أنّها لا تكون لأحدٍ على أحدٍ إلّا بجعل من الله تعالى، بل لا تُجعل لأحد إلّا إذا كان من أهل الإيمان والصلاح، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا}[مريم:96].
المسألة الثانية: في ما يتعلّق بسؤالكم عن علّة استعمال القرآن للحبّ في آية وللمودّة في أخرى، وفي ذلك نقول: من المعلوم أنّ ملاك الاستعمال يكون دائماً بيد المستعمِل (بالكسر) فهو الذي يعلم لماذا استعمل هذا اللفظ دون غيره؛ أمّا المخاطب فله ظواهر الكلام ليأخذ بها، وفي مقامنا هذا نحن لا نعلم على نحو الجزم واليقين علّة استعمال القرآن للمحبّة في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة:222]، أو للمودّة في قوله: {وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم:21].
لكن، - وبمعونة ظواهر الكلام أو وجود بعض القرائن- يمكننا أن نفهم مراد القرآن الكريم في بعض استعمالاته. ونحن بالعود إلى ما تقدّم من الفروق بين المادّتين، سواء في أصل الوضع واللغة، أم في استعمالات القرآن الكريم لهما يمكننا أن نستظهر بعض النكات في المقام، منها على سبيل المثال لا الحصر:
1- بما أنّ المودّة تعني المحبّة العمليّة كما تقدّم، فإنّ المستفاد من استعمالها في قوله تعالى: {وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} هو ضرورة استشعار الزوجين مسؤوليّة كلّ منهما تجاه الآخر عمليّاً؛ فإنّ رباط الحياة الزوجية المقدّس لا يمكنه الصمود بوجه الظروف ما لم يلتزم الزوجان بمنظومة الحقوق والواجبات العمليّة التي وضعها الشارع المقدّس؛ إدامةً منه للحياة المشتركة الهانئة بينهما.
في حين لم يحتج القرآن الكريم إلى استعمال لفظ المودّة في محبّة الله للتوّابين والمتطهّرين لأنّ كليهما لا يصدران عن الله تعالى إلّا على هيئة أفعالٍ خارجيّةٍ، - ومن هنا - فقد ذكروا أنّ محبّته تعالى للعبد كناية عن عنايته به وإحسانه له وتقريبه منه عزّ وجلّ، قال الغزّاليُّ: (وما ورد من الألفاظ في حبّه لعباده فهو مؤوّل، ويرجع معناه إلى كشف الحجاب عن قلبه حتّى يراه بقلبه، وإلى تمكينه إيّاه من القرب منه) [إحياء العلوم ج14ص97].
2- قد عرفت ما للمودّة من معنى الثبات؛ ولذا يُشعر استعمالها في الآية المذكورة بأنّ علائق التواصل القائمة بين الجنسين مهما تعدّدت أوجهها وطال أمدها فإنّه لا شيء منها أثبت وأدوم للمحبّة من العلاقة الزوجيَّة الشرعيّة التي ارتضاها الله تعالى للذكر والأنثى.
وإلّا فإن لم يكن اليوم فغدا عند الله تعالى يكفّر أرباب تلك العلاقات غير المشروعة بعضهم ببعض ويتبرأ أحدهم من الآخر، قال تعالى: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف:76]، وهذا بخلافه في الحياة الزوجيَّة فإنّها متى كانت مبنيّة على مرضاته تعالى أثمرت العاقبة الحسنى، قال تعالى: {إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ (*) هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ} [يس:55 – 56].
3- بناءً على ما سبق ذكره أعلاه من أنّ الحبّ قد يخلو من الموافقة للطبع والحكمة معاً، وأنّ الموّدة لا يمكن أن تخلو منهما يكون المستفاد من آية الزوجية هو أنّه: لو كان أحد الزوجين يستحقّ المودّة فقابله الزوج الآخر بحجبها عنه أو بإبداء الضدّ منها، أي بالعداوة والبغضاء لكان ذلك خروجاً عن مقتضى الطبع والفطرة السليمة التي فُطر الإنسان عليها، كما أنّه خلاف الحكمة ومنطق العقل؛ ولذا يُعَدُّ مخالفة شرعيَّة توجب العقاب، فتدبّر جيّداً فإنّ لذلك مدخلاً فيما سيأتي من ثمرات البحث.
المسألة الثالثة والأخيرة: في ثمرات البحث في هذا الموضوع، فبقليل من التأمّل والتدبّر يظهر لنا أنّ للبحث ثمرتين عظيمتين
ترتبطان بشكل مباشر بالعقيدة الإسلاميّة:
الثمرة الأولى: ارتباط الموضوع بمستوى علاقة المسلم بأهل البيت (ع) في ضوء قوله تعالى: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى:23]، وما يترتّب على ذلك من إظهار وإبراز عمليّ للمودّة وبشكلٍ دائمٍ وثابت، فلا يكفي مجرّد المحبّة القلبيّة، ما لم تكن مقرونة بالطاعة لهم والأخذ عنهم والردّ إليهم، وموالاتهم ونصرتهم!.
الثمرة الثانية: وهي طبيعة علاقة المسلم بأعداء الله التزاماً بمثل قوله تعالى:{لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آَبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[المجادلة:22]، فلابدّ - والحال هذه- من وضوح موقف المسلم تجاه أعداء الله وأعداء رسوله واهل بيته (صلّى الله عليه وعليهم أجمعين).
والحاصل: أنّنا متى وقفنا على جميع ما تقدّم في الجواب أسهم ذلك في معرفة ما يجب علينا فعله إزاء هذين الموضوعين وأدركنا أهميّة الولاية والبراءة كفرعين من فروع الدين، هذا ما وفّقنا الله تعالى لبيانه، فله الحمد أوّلاً وآخراً..
اترك تعليق