هل هناك تفاوت بين السورة من حيث البلاغة والفصاحة؟
سؤال: يطرح بعض العلمانيين موضوع التفاوت البلاغي بين سور القرآن، فهناك سور بليغة وسور دون ذلك، وذلك يدركه العالم بأسرار البلاغة، وبناء على ذلك ظهرت فرضيات تعدد مؤلفي القرآن عند المستشرقين..
الجواب:
أولاً: مما لا شك فيه أن كل سور القرآن وآياته نموذج للإعجاز اللغوي الذي تجلت فيه البلاغة في أروع صورها، وقد شهد بذلك أهل الفن والاختصاص عبر العصور المتطاولة، فلا وجود لقول فصيح جادت به قريحة الشعراء والأدباء إلا وتواضع وتصاغر أمام فصاحة القرآن وبلاغته، فالقرآن لم يأتِ بلغة جديدة غير معهودة عند العرب، وإنما استخدم نفس ما كان عندهم من تراكيب وجمل إلا أنه قام بتوظيفها في كتاب واحد يعجز الجميع بأن يأتوا بمثله، وهذا التحدي ما زال ماضياً أمام كل العلماء والأدباء والفصحاء، والذي ينكر ذلك ليس أمامه إلا الإتيان بمثله.
فوصف القرآن بالفصاحة والبلاغة هو وصف لكتاب امتاز من أوله إلى اخره برصانة الأسلوب وعمق المعنى، وبذلك أصبح القرآن الكريم هو الكتاب الوحيد الذي لا يدانيه كتاب في كل ما يمكن أن تتصف به اللغة من أدب وفن، ومن هنا حكم الله باستحالة الاتيان بمثله حتى لو اجتمع على ذلك الإنس والجن، يقول تعالى: (قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَىٰ أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَٰذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا).
ثانياً: التباين في مستويات الفصاحة والبلاغة لا يتوقف على تعدد الفصحاء والبلغاء فحسب، وإنما يحدث ذلك التباين حتى عند الشاعر الواحد، فمثلاً ديوان الشعر المنسوب للمتنبي يحتوي على مجموعة من القصائد المختلفة في مستويات البلاغة والفصاحة، ومع ذلك لا يمكننا القول إن ديوان المتنبي قد اشترك أكثر من شاعر في كتابته، وعليه حتى لو سلمنا باختلاف درجات البلاغة بين سور القرآن فإن ذلك لا يكون دليلاً على تعدد مصدر القرآن.
ثالثاً: إذا كانت البلاغة هي توظيف أدبي للغة لإيصال معان معينة، فإن ذلك يؤكد على أن البلاغة هي اختيار التركيب اللغوي المناسب لكل موقف، فجمال الصورة اللفظية وبلاغتها لا يمكن إدراكه خارج إطار الفكرة المراد إيصالها، فمن الخطأ مقارنة المستوى البلاغي بين السور والآيات خارج إطار الموضوعات التي تحتويها تلك السور والآيات، ومن هنا لا تقتصر البلاغة على البحث في كل جملة مفردة على حدة، وإنما يجب أن يمتد نطاق البحث إلى علاقة كل جملة بمعناها، وعلاقتها مع النص كله بوصفه تعبيراً متصلاً عن موقفٍ واحد، وعليه فإن علم البلاغة والمعاني يقودنا إلى معرفة الكيفية التي نوظف بها اللغة ونركب بها الجمل بالشكل الذي يخدم المعاني التي نقصد إيصالها، وهذا يختلف بالضرورة باختلاف الظروفِ والأحوال، فلا يمكننا القول أن هذه السورة أقل فصاحة من السورة الأخرى؛ وذلك لأن كل سورة استهدفت معنى مختلفاً عن السورة الأخرى، وتباين المعاني بين السور يقتضي تبايناً على مستوى الأسلوب والبلاغة، فمثلاً عندما تقارن بين سورة المسد: (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ * وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ * فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ) وبين سورة الرحمن التي جاء فيها: (وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ) (ذَوَاتَا أَفْنَانٍ) (فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ) (فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ) (فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ) (مُتَّكِئِينَ عَلَىٰ رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ) (بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ)، فإنك ستلاحظ اختلاف المقام بين السورتين، ففي سورة الرحمن يرغب الله الناس في الجنة والطاعة، ولذا نجده يستغرق في وصف الجنان ونعيمها ومحاسنها، كي يزيد الإنسان رغبة في الطاعة، وفي المقابل عندما يتحدث القرآن عن قضية أبي لهب يتحدث وهو في مقام التقريع والتوبيخ، الأمر الذي يستدعي تغيير في الأسلوب والخطاب، فاختلاف الأسلوب تابع لاختلاف المقام والحال، فلا يقال إن سورة المسد أقل فصاحة من سورة الرحمن، إذ لكل واحدة أسلوبها الذي يناسب مقامها، فلو استخدم في سورة المسد نفس أسلوب سورة الرحمن لاختلت فصاحة القرآن وبلاغته.
اترك تعليق