آية التبليغ ووقوعها في سياق غريب عن مضمونها..!.

السؤال: كيف تفسّرون وجود الآية الكريمة في سورة المائدة: ٦٧ {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ...} بين ما سبقَها وما تبعَها؛ إذْ تعـدُّ غريبةً عن السياق؛ لأنَّ ما قبلَها وما بعدَها من الآيات تتحدّثُ عن أهلِ الكتاب اليهود والنصارى؟!

: الشيخ فاروق الجبوري

الجواب:

بسم الله الرحمن الرحيم ، في بادئ الأمر لا بُدّ أنْ يُعْلَمَ (أنّه لا خلاف بين الأمّة في أنّ الآية من القرآن قد يأتي أوّلها في شيء، وآخرها في غيره، ووسطها في معنى، وأوّلها في سواه). [الفصول المختارة للمفيد ص53].

ومثال على ذلك ما جاء في قوله تعالى: {حُرِّمَت عَلَيكُمُ المَيتَةُ وَالدَّمُ وَلَحمُ الخِنزيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيرِ اللَّهِ بِهِ وَالمُنخَنِقَةُ وَالمَوقوذَةُ وَالمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلّا ما ذَكَّيتُم وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَستَقسِموا بِالأَزلامِ ذلِكُم فِسقٌ اليَومَ يَئِسَ الَّذينَ كَفَروا مِن دينِكُم فَلا تَخشَوهُم وَاخشَونِ اليَومَ أَكمَلتُ لَكُم دينَكُم وَأَتمَمتُ عَلَيكُم نِعمَتي وَرَضيتُ لَكُمُ الإِسلامَ دينًا فَمَنِ اضطُرَّ في مَخمَصَةٍ غَيرَ مُتَجانِفٍ لِإِثمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفورٌ رَحيمٌ } [المائدة: ٣].

حيث نجد أنّ هذه الآية تحدّثت في الموضع الأوّل منها عن تحريم جملة من الأمور، كالميتة والدم ولحم الخنزير وغير ذلك، وتحدّثت في الموضع الثاني بعبارة: {اليَومَ يَئِسَ الَّذينَ كَفَروا...}، عن اليأس الذي أصاب الكفّار، والنهي عن خشيتهم، وتحدّثت في الموضع الثالث بعبارة: {اليَومَ أَكمَلتُ لَكُم دينَكُم...}، عن قضيّة إكمال الدين، وإتمام النعمة، وفي الموضع الرابع تحدّثت عن موضوع الاضطرار في الطعام. فلو دقّقنا النظر في المواضع الأربعة، لَـبَانَ لنا أنّ الموضع الرابع من هذه الآية مرتبطٌ بالموضع الأوّل منها ﭐرتباطاً وثيقاً، في حين أنّ الموضعين الثاني والثالث - ظاهراً - لا علاقة لهما بهما.

وبعبارة أخرى: إنّ موضوع الاضطرار مرتبطٌ بموضوع تحريم الميتة والدم ولحم الخنزير، وليس مرتبطاً بموضوع إكمال الدين وإتمام النعمة، ولا موضوع اليأس الذي أصاب الكفّار، والنهي عن خشيتهم، فتدبّر؟ وهذا يُؤيّدُ أنّ الآية من القرآن الكريم قد يأتي أوّلها في شيء، وآخرها في غيره، ووسطها في معنى. [ عن جميع ذلك انظر تفسير الميزان ج5 ص167]

يضاف إلى ذلك ما أجاب به بعض علمائنا الأعلام حيث ذكر وجهين آخرين جواباً عن سؤالكم، وخلاصتهما كالتالي:

الوجه الأوّل: نحن نعلم أنّ الآيات القرآنية - وكذلك سور القرآن الكريم - لم تجمع كلها مرتّبة بحسب نزولها الزمنيّ، بل نشاهد كثيراً من السور التي نزلت في المدينة فيها آيات مكّيّة أي نزلت في مكّة، كما نلاحظ آيات مَدنيّة بين السور المكّيّة أيضاً. وبناءً على هذه الحقيقة، فلا عجب - إذنْ - من وجود هذا الفاصل الأجنبيّ في القرآن، ويجب الاعتراف بأنّ ترتيب الآيات القرآنيّة بالصورة التي هي عليها الآن قد حصل بأمر من النبيّ (ص) نفسه، ولو كانت الآيات مرتّبة بحسب زمن نزولها لأصبح الاعتراض وارداً في هذا المجال. [ينظر: تفسير الأمثل ج3 ص601]

وبعبارة أخرى: إنّ القرآن ليس كتاباً أكاديميّاً يُلتزَم في مواضيعه أسلوبُ التبويب والتقسيم إلى فصولٍ وفقراتٍ معيّنة، بل إنّ آياته نزلت بحسب الحاجات والحوادث والوقائع المختلفة الطارئة، فترتّبت كذلك. [ينظر: تفسير الأمثل ج4 ص96].

والوجه الثاني: هناك احتمال بأن يكون سبب حشر موضوع واقعة (غدير خم) بين مجموعة آيات تشمل على موضوع لا صلة لها به مطلقاً، مثل موضوع أحكام الحلال والحرام من اللّحوم، إنّما هو لصيانة الموضوع الأوّل [أي واقعة الغدير] مِن أن تصل إليه يد التحريف أو الحذف أو التغيير.

وبمعنى أوضح: فإنّ الأحداث التي وقعت في اللحظات الأخيرة من عمر النبيّ (ص) والاعتراض الصريح على طلبه أنْ يكتب لهم وصيّته، إلى حدِّ وَصْفِهِ (ص) بأنّه يهجر - والعياذ بالله -، تدلُّ بوضوح على الحسّاسية المفرطة التي كانت لدى نفرٍ من الناس اتّجاه قضيّة الخلافة بعد النبيّ (ص) إذْ لم يتركوا وسيلة إلّا استخدموها لإنكارها ؛ فلا يستبعد - والحال هذه - أن تُتَّخذ إجراءات وقائيّة لحماية الأدلّة والوثائق الخاصّة بالخلافة من أجل إيصالها إلى الأجيال المتعاقبة دون أن تمسَّها يدُ التحريف أو الحذف، ومن هذه الإجراءات حشر موضوع الخلافة - المهمّ جدّاً - في القرآن بين آيات الأحكام الشرعيّة الفرعيّة لإبعاد عيون المعارضين وأيدي العابثين عنها. [ينظر: تفسير الأمثل ج3 ص601].

والذي دعا علماءنا إلى الذهاب لمثل هذا الوجه، أنّهم لـمّا درسوا القرآن الكريم لاحظوا أنّ الله تعالى لم يخاطب نبيّه (ص) بلفظ {يا أيّها الرسول} إلّا في موردين: أحدهما: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آَمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ ...الآية}[المائدة: 41]. والمورد الآخر: هو الآية محلّ البحث. والملاحظ في الموردين معاً هو ارتباط موضوعيهما بالرسالة ومصيرها؛ إذْ تعرّضت الآية الأولى إلى قلقِهِ وحزنه (ص) على الدعوة وعدم تمكّنها من قلوب الناس لإعراضهم عنها حال حياته؛ لأنّ هنالك شريحة كبيرة في أوساط المسلمين تقدّم أهواءها وآراءها على الوحي وأحكام السماء، فهم يظهرون الإيمان بألسنتهم أمام النبيّ (ص) ويبطنون الكفر في قلوبهم، أيْ أنّهم منافقون، فنزلت الآية لتطمئنه على حال الرسالة وأنّ ذلك ليس بضائر، فإنّهم ليسوا بمعجزين الله في ملكه ولا غالبين عليه، بل الله غالب على أمره.[ ينظر: تفسير ابن كثير ج2 ص60، وتفسير الميزان ج5 ص254].

في حين تتعرّض الآية محلّ البحث إلى خوفه (ص) من التكذيب وعدم الإيمان بما سيبلّغه، وهو ممّا يشكّل خطراً على مستقبل الدعوة واستمراريّة إيمان الناس بها، فطمأنه الله تعالى بأنّ يبلّغ وله على الله العصمة، وقد أظهرها تعالى له في حادثة النعمان بن الحرث الفهريّ. [ينظر: شواهد التنزيل ج2 ص381، ونظم درر السمطين ص93].

وبناءً على ذلك ذهبوا إلى أنّ قوله تعالى: {وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} يحتمل وجهين لا ثالث لهما:

أحدهما: أنّ ظاهره التهديد للنبيّ (ص) بأنّه لو يُبَلِّغ ما أُمِرَ به فلن يكون حينئذٍ مبلّغاً لتمام الرسالة، وإلى هذا المعنى ذهب بعض المفسّرين. [ينظر: تفسير التبيان ج3 ص588، وتفسير الميزان ج6 ص50]

والآخر: ما يفهم من كلمات بعض المفسرين بأنّ ذلك أشبه بالإخبار عن مستقبل الدعوة من حيث عدم نجاح تبليغها وتأثير أثرها فيما لو لم يبلّغ ما أُنزل إليه، وأنّ الرسالة كلّها رهن هذا التبليغ، فعدم الاستخلاف معناه ذهاب جميع الأتعاب سدى [ينظر تقريب القرآن إلى الأذهان ج1 ص668]؛ وذلك لأنّ هنالك من يتربّص بهذا الدين لتفريغه من محتواه وتجريده من جوهره وروحه وحقيقته حتّى يُصبح في معرض الزوال [ينظر: تفسير الميزان ج6 ص46-47]، ويكون ما بُذِلَ في سبيله طيلة 23 عاماً بحكم العدم مستقبلاً، وفي هذا المعنى إشارة إلى أهميّة الإمام وكونه حافظاً للشرع وأميناً على الوحي، كما هو لسان كثير من الأخبار.

على ضوء ما تقدّم يتّضح: أنّ متعلَّق آية التبليغ ينحصر في أمر يوازي إعلانه أمام المسلمين مستوى إعلان الدعوة والنبوّة في وجه قريش، بل هو أعظم من ذلك..! فقد واجه النبيّ (صلّى الله عليه وآله) صناديد قريش ولم يخشَ أحداً ولا تخوّف شيئاً، [ينظر: تفسير الكاشف ج3 ص96] كما أنّ الله تعالى لم يتعهد له بالعصمة منهم حينها [ينظر: تفسير الميزان ج4 ص42]؛ وذلك لأنّ تكذيبهم للنبوّة حصل حينما كانت الرسالة في بواكير عهدها، وصدر عن قوم مشركين، فكان أمراً متوقّعاً وطبيعيّاً؛ لسبق حصوله مع جميع الأنبياء (ع). مضافاً إلى عدم وقوع جهادٌ حين إعلان الدعوة، فلا دماء سالت لنشرها، ولا هجرة وقعت لحفظ أتباعها، ولا جهود بُذلت بَعدُ إزاءها، بخلافه في متعلّق آية التبليغ فإنّ تخوّف النبيّ (ص) يُنبئ عن أمر خطير يكون رفضه والتكذيب به صادراً من المسلمين، وليس من المشركين، فيشكّل بطبيعته خطراً على الرسالة وما بُذِلَ لأجلها طيلة 23 عاماً من الجهاد المرير.

ومن هنا فقد أجمع علماء المذهب قاطبة على أنّ متعلّق التبليغ لا يرتبط بأهل الكتاب من اليهود والنصارى ؛ وذلك لإجماع المسلمين على أنّ الآية نزلت في آخر شهرين من حياة النبيّ (صلّى الله عليه وآله) [انظر تفسير القرطبي ج6 ص244 ، تفسير البغوي ج2،ص5 ، تفسير ابن كثير ج2 ص81] ممّا يعني أنّ خطر أهل الكتاب على المسلمين قد زال وانتهى، فهم بين مَن قاتلهم المسلمون فهزموهم كما في خيبر ، وبين مَن أُجليَ إلى الشام، أو اعتنق الإسلام، أو دخل في الصلح ودفع الجزية. وكذلك ليس متعلّقها هو مشركو مكّة؛ لأنّ الشرك هو الآخر قد انتهى قبل نزول الآية، وذلك بهزيمة المشركين في الأحزاب، وتحطيم أصنامهم بفتح مكّة. كما لا يصحّ أن يكون المتعلّق هو بعض الفرائض كالصلاة والصيام ونحوهما؛ لأنّ تبليغ جميع فروع الدين هو الآخر قد تمّ وانتهى قبل نزولها أيضاً. [تفسير الأمثل:ج4،ص84]

وإنّما متعلّق الآية هو الصدع بولاية أمير المؤمنين (عليه السلام) وأخذ البيعة له في غدير خم، فعلى هذا انعقد إجماع الطائفة وبه تواترت الأخبار عندنا[ يلاحظ الغدير للعلّامة الأميني ج1 ص214] وكذا عند العامّة حيث صرّح بذلك غير واحد من علمائهم، كالذهبيّ فقد ساق حديث الغدير ثمّ علّق قائلاً: (هذا حديث حسن عالٍ جداً ، ومتنه فمتواتر)[انظر سير أعلام النبلاء ج8 ص335 - ترجمة المطلب بن زياد ، وللوقوف على تلك الروايات ومَن رواها انظر تفسير الأمثل:ج4،ص85 ، وكذلك شواهد التنزيل للحاكم الحسكاني:ج1،ص249]

غير أنّ الطامّة الكبرى هي رفض علماء العامّة الأخذ بمضمون تلك الروايات وما يترتّب عليها، وإنِ اعترفوا بكثرتها..!، قال الرازيّ بعدما ساق رواية منها: (...واعلم أنّ هذه الروايات وإن كَثُرَتْ إلّا أنّ الأَولى حمله [أي حمل النصّ القرآني] على أنّه تعالى آمنه من مكر اليهود والنصارى، وأَمَرَه بإظهار التبليغ من غير مبالاة منه بهم!). [ينظر: تفسير الرازيّ ج12 ص50].

وكما ترى فإنّ كلامه يبعث على العجب؛ إذْ في الوقت الذي يكتفي فيه القوم في أسباب النزول بروايةٍ واحدةٍ أو روايتين ضعيفتين، نراهم هنا يضربون صفحاً عن سيل الأخبار الصحيحة والمشهورة بل المتواترة التي أكّدت نزول هذه الآية في بيعة الغدير وولاية عليّ (ع).

فتأمّل معي أخي القارئ الكريم ودقّق في هذه القضيّة، لأنّه حينها ستعرف أنّه إذا كان هكذا هو حال مَنْ يُحسبون على العلماء في إصرارهم على مجانبة الحقّ والحقيقة، فما بالك بالفاسدين والعابثين والطامحين بكرسيّ السلطة ممّن سوّلت لهم أنفسهم أنّهم الأولى بإدارة الأمّة الإسلاميّة من بعد الرسول الأكرم (ص)؟ وإذنْ: فكلّ هذا يبرّر لنا خوف النبيّ (ص) على مستقبل الدعوة، لـمّا وضع الآية في وسط آيات لا علاقة بها. ومن هنا تكون العبرة في سبب النزول ، فما دام سبب النزول باقياً فسيعرف به أهل البصر والبصيرة. والحمد لله ربّ العالمين.