هل يقع السهو من النبي؟

قالت الشيعة: إن رسول الله صلى الله عليه وآله معصوم، ومن كمال عصمته أنه لا يجوز عليه النسيان، لكن الله يقول: ﴿سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى * إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ﴾، يعني إلا ما شاء الله أن ينسيك!؟

: الشيخ معتصم السيد احمد

الجواب:

أولاً: المشهور بين علماء الإمامية القول بنفي السهو عن الأنبياء مطلقاً، يقول المحقق الطوسي في التجريد: " ويجب في النبي العصمة ليحصل الوثوق فيحصل الغرض. ثم أضاف: وكمال العقل والذكاء والفطنة وقوة الرأي وعدم السهو، وكلّما ينفّر عنه، من دنائة الآباء، وعهر الامهات، والفظاظة " (كشف المراد في شرح التجريد ص349).

ويقول الفاضل المقداد: " وأصحابنا حكموا بعصمتهم مطلقاً قبل النبوة وبعدها عن الصغائر والكبائر عمداً وسهواً، بل وعن السهو مطلقاً، ولو في القسم الرابع، ونقصد به الافعال المتعلّقة بأحوال معاشهم في الدنيا مما ليس دينياً " (إرشاد الطالبين إلى نهج المسترشدين ص٣٠٤)

وعلى ذلك لم يقبل أكثر علماء الشيعة رواية ذي اليدين التي تثبت حصول السهو من النبي في صلاته، وقد صرح الشيخ المفيد بذلك بقوله: " الحديث الذي روته الناصبة والمقلّدة من الشيعة - أنّ النبي سها في صلاته فسلّم ركعتين ناسياً، فلما نُبِّه على سهوه أضاف إليهما ركعتين، ثم سجد سجدتي السهو - من أخبار الآحاد التي لا تثمر علماً ولا توجب عملاً " (ينظر التنبيه بالمعلوم من البرهان، للشيخ الحرّ العاملي ص ۷)

ويقول عنه الشهيد الأول‏ في الذكرى: " وخبر ذي اليدين متروك بين الإمامية؛ لقيام الدليل العقلي على عصمة النبي صلى الله عليه وآله عن السهو، لم يصر إلى ذلك غير ابن بابويه " (الذكرى ص215).

ويقول العلامة في التذكرة: " وخبر ذي اليدين عندنا باطل؛ لأن النبي المعصوم لا يجوز عليه السهو". ويقول في الرسالة السعدية: " إنّه لو جاز عليه السهو والخطأ، لجاز ذلك في جميع أقواله وأفعاله، فلم يبق وثوق بإخباراته عن الله تعالىٰ، ولا بالشرائع والاديان؛ لجواز أن يزيد فيها وينقص سهواً، فتنتفي فائدة البعثة. ومن المعلوم بالضرورة: أن وصف النبي بالعصمة، أكمل وأحسن من وصفه بضدها، فيجب المصير إليه، لما فيه من دفع الضرر المظنون؛ بل المعلوم" (الرسالة السعدية: ص 76)

وقال الشيخ بهاء الدين العاملي‏ - عندما سأله سائل عن قول ابن بابويه إن النبي قد سها -: " بل ابن بابويه قد سها، فإنّه أولى بالسهو من النبي " (ينظر التنبيه على المعلوم من البرهان للحر العاملي ص۱۳)

وقد ألّف غير واحد من علماء الإمامية كتباً ورسائل في نفي السهو عن النبي، مثل رسالة الشيخ المفيد، ورسالة إسحاق بن الحسن الأقراني‏، ورسالة الحر العاملي‏ المسمّاة "التنبيه بالمعلوم من البرهان علي تنزيه المعصوم عن السهو والنسيان".

كما فصل العلامة المجلسي في البحار القول في هذه المسألة، وانتصر للقول بعدم سهو النبي، وردّ كلّ الأخبار التي استند إليها القائلون بالسهو. وكذلك صنع السيد عبد الله شبّر في كتابيه حقّ اليقين ومصابيح الأنوار، وغير ذلك من كتب الإمامية.

ثانياً: هناك بعض العلماء من متقدمي الإمامية أجازوا السهو على النبي، واعتبروا إنكار ذلك ضرباً من الغلو، يقول محمد بن الحسن بن الوليد: " أوّل درجة في الغلو نفي السهو عن النبي (ص)، فلو جاز أن تردّ الأخبار الواردة في هذا المعنى لجاز أن تردّ جميع الأخبار، وفي ردّها إبطال الدين والشريعة."

ويقول الشيخ الصدوق: " إن الغلاة والمفوضة لعنهم الله ينكرون سهو النبي ويقولون: لو جاز أن يسهو في الصلاة، لجاز أن يسهو في التبليغ لأن الصلاة عليه فريضة، كما أنّ التبليغ عليه فريضة " ثم يرد على ذلك بقوله: " أن سهو النبي ليس كسهونا، لأنّه سهو من اللّه عز وجل، وإنّما أسهاء ليعلم أنّه بشر مخلوق، فلا يتخذ ربّاً معبوداً دونه، وليعلم الناس بسهوه حكم السهو متى سهواً، وليس للشيطان علي النبي (ص) والأئمة عليهم السلام سلطان، (إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ) ".

ويقول الطبرسي في تفسير قوله سبحانه:( وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ..): " نقل عن الجبّائي أنّه قال: في هذه الآية دلالة علي بطلان قول الإمامية في أنّ النسيان لا يجوز علي الأنبياء ".

ثم أجاب عنه بقوله: "وهذا القول غير صحيح، لأنّ الامامية لا يجوّزون السهو عليهم فيما يؤدّونه عن اللّه، فأمّا ما سواه، فقد جوّزوا عليهم أن ينسوه أو يسهوا عنه ما لم يودّ ذلك الي إخلال بالعقل".

وقد ردّ قولَ ابن بابويه بسهو النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) علماءُ عصره ومَن جاء بعده، وعندما سُئل محمّد بن الحسن بهاء الدين العاملي عن قول ابن بابويه أن النبي قد سها فقال: " بل ابن بابويه قد سها، فإنه أولى بالسهو من النبي ".

وقد رد المفيد - وهو تلميذ ابن بابويه - على أستاذه بقوله: " الذي خالف في هذا وقال بجواز وقوع السهو والنسيان عن المعصوم هو الشيخ الصدوق أبو جعفر ابن بابويه القمي (قدس سره)، فإنه نظراً إلى ظاهر بعض روايات واردة في ذلك كالخبر المروي عن طرق العامة... وزعم أنّ من نفى السهو عنهم هم الغلاة والمفوضة... ومحققوا أهل النظر من الامامية ذهبوا إلى نفي وقوع السهو في أمور الدين عنهم؛ لما دلّ على ذلك من الأدلّة القطعية عقلاً ونقلاً والأدلة الدالة على عصمتهم..." (أوائل المقالات الشيخ المفيد ص171).

ثالثاً: الاستدلال بقوله تعالى: ﴿سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى * إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ﴾ على إثبات حصول السهو من النبي غير صحيح؛ وذلك لأن الآية في مقام إثبات كون العصمة عطاء من الله تعالى، أي أنّ النبي معصوم حتى من السهو بمشيئة الله وقدرته، وليس بقدرة ذاتية من النبي.

يقول الشيخ ناصر مكار الشيرازي في تفسير هذه الآية:

" ولا يعني هذا الاستثناء بأن النسيان قد أخذ من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وطراً، وإنما هو لبيان أن قدرة حفظ الآيات هي موهبة منه سبحانه وتعالى، ومشيئته هي الغالبة أبداً، وإلا لتزعزعت الثقة في قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

وبعبارة أخرى: إنما جاء الاستثناء لتبيان الفرق بين علم الله تعالى الذاتي، وعلم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) المعطى له من بارئه.

والآية تشبه إلى حد ما ما جاء في الآية (108) من سورة هود، بخصوص خلود أهل الجنة: (وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ)، ف‍ـ (خَالِدِينَ فِيهَا) دليل على عدم خروج أهل الجنة منها أبدا، فإذن عبارة (إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ) تكون إشارة إلى حاكمية الإرادة والقدرة الإلهية، وارتباط كل شيء بمشيئته جل وعلا، سواء في بداية الوجود أم في البقاء.

ومما يشهد على ذلك أيضاً: أنّ حفظ بعض الأمور ونسيان أخرى تعتبر حالة طبيعية بين بني آدم، ولكن الله تعالى ميز حبيبه المصطفى بأن جعل فيه ملكة حفظ جميع آيات القرآن، والأحكام والمعارف الإسلامية، حينما خاطبه ب‍ـ: (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى )" (تفسير الأمثل ج20 ص 134).