الاعجاز البلاغي حقيقة ام وهم ؟

#سؤال : التحدّي الأدبيّ زئبقيٌّ ولا معيارَ له لا سيّما أنّنا نتحدّثُ عن نوعٍ أدبيٍّ جديدٍ مُستحدثٍ لا هوَ بشعرٍ ولا بنثرٍ ولا يخضعُ لأيّ قواعدَ معروفةٍ نقيّمُه بها. أمّا إن كانَ المقصودُ أنه أعجزَ الناس 14 قرناً، فالمُخالفُ لم يحصُل على فرصةٍ عادلةٍ للمُنافسةِ طيلةَ هذهِ الفترةِ لأنَّ الثقافةَ إسلاميّةٌ والسلطةَ إسلاميّة، وباختصارٍ ما يُسمّى بالإعجازِ البلاغيّ إنّما ولدَ ميتاً، ولا أظنُّ أنَّ كثيراً منَ المُسلمينَ المُعاصرين مُقتنعونَ به فعلاً.

: الشيخ معتصم السيد احمد

الجوابُ:

أوّلاً: يجبُ أن نفهمَ أنَّ الإعجازَ القرآنيّ لا يتمثّلُ فقط في الكلماتِ والألفاظِ وإنّما يتعلّقُ أيضاً بالمعاني والمفاهيمِ التي يحملُها القرآنُ الكريم، فالقرآنُ يتحدّثُ عن علومٍ ومعارفَ لم تكُن معروفةً في زمانِه، كما أنّه يتضمّنُ أسراراً وغيبيّاتٍ لم تُكشَف إلّا في وقتٍ لاحق. وعليهِ فإنَّ القرآنَ ليسَ مُعجزاً بكلماتِه لأنَّ هذهِ الكلماتِ موجودةٌ ومستخدمةٌ قبلَ نزولِ القرآنِ وإنّما إعجازُه في أنّه استخدمَ نفسَ الكلماتِ ونفسَ التراكيبِ والجملِ في كتابٍ لا يمكنُ الإتيانُ بمثلِه، وهذا التحدّي ما زالَ ماضياً أمامَ كلِّ العلماءِ والأدباءِ والفُصحاء، والذي ينكرُ إعجازَ القرآنِ ليسَ أمامَه إلّا الإتيان بمثلِه.

ثانياً: يجبُ أن نلاحظَ أنَّ الإعجازَ القرآنيّ يتعلّقُ بالنحوِ والبلاغةِ والإعراب، وهذا ليسَ مُجرّدَ مهارةٍ وتقنيةٍ لغويّةٍ كما يدّعي البعضُ؛ لأنَّ الإعجازَ القرآنيّ ليسَ مُجرّدَ خبرةٍ باللغةِ العربيّة، وإنّما هوَ توظيفٌ إعجازيّ للغةِ مِن أجلِ توصيلِ مفاهيمَ وعلومٍ كثيرةٍ لا يمكنُ لأيّ شخصٍ أن يخترعَها أو يكتشفَها إلّا بالتواصلِ معَ الله، فالإعجازُ القرآنيّ هوَ تعبيرٌ عن قوّةِ الرّسالةِ وعظمةِ الرّسولِ صلّى اللهُ عليهِ وآله وسلّم.

ثالثاً: يجبُ أن نلاحظَ أنَّ الإعجازَ القرآنيّ هوَ جزءٌ مِن مجموعةٍ منَ الأدلّةِ التي تثبتُ صدقَ القرآنِ الكريم كنصٍّ مُقدّسٍ، وهناكَ أدلّةٌ متعدّدةٌ أخرى تدلُّ على صحّةِ نبوّةِ الرّسولِ صلّى اللهُ عليهِ وآله وسلّم وصدقِ رسالتِه، فالقرآنُ الكريمُ يحتوي على عددٍ كبيرٍ منَ الأحداِث التي وقعَت في الماضي والتي تمَّ تأكيدُها بالأدلّةِ التاريخيّةِ والعلميّة، ويحتوي أيضاً على نبوءاتٍ عن الأحداثِ المُستقبليّةِ التي تحدّثَت بدقّةٍ وتأكيدٍ، كما أنّه يحتوي على أخلاقيّاتٍ وتوجيهاتٍ تشريعيّةٍ تتوافقُ معَ ما هوَ أفضلُ للإنسانِ وتضمنُ له السعادةَ والنجاحَ في الدّنيا والآخرة.

وبالإضافةُ إلى ذلكَ، فإنَّ القرآنَ الكريم يحتوي على بعضِ الإعجازاتِ العلميّةِ التي لا تقتصرُ على اللغةِ والأدبِ فحسب، وإنّما تتعلّقُ بمجالاتٍ علميّةٍ متنوّعةٍ مثلَ الفيزياءِ والكيمياءِ والطبِّ والجيولوجيا وغيرِها، وهذهِ الإعجازاتُ يمكنُ إثباتُها بالأدلّةِ العلميّةِ الحديثةِ.

فالإعجازُ القرآنيّ لا ينحصرُ في مجالِ اللّغةِ والأدبِ والعلومِ الطبيعيّةِ فحسب، بل يمتدُّ إلى مجالاتٍ أخرى مثل التشريعِ والأخلاقِ والقيمِ الإنسانيّة، وهذا يؤكّدُ على أنَّ القرآنَ الكريم هوَ كتابٌ شاملٌ يشملُ جميعَ جوانبِ الحياةِ الإنسانيّة، ويقدّمُ للإنسانِ الحكمةَ والتوجيهَ في كلِّ ما يحتاجُه لتحقيقِ السعادةِ والنجاحِ في الدّنيا والآخرة.

وبعدَ توضيحِ بعضِ النقاطِ الأساسيّة المُتعلّقةِ بالإعجازِ القرآني، يجبُ أن ننتقلَ إلى بعضِ النقاطِ التي أثارَها صاحبُ الإشكالِ والتي قصدَ مِنها التشكيكَ في الإعجازِ البلاغيّ في القرآنِ الكريم.

يقولُ: (التحدّي الأدبيّ زئبقيٌّ ولا معيارَ له لا سيّما أنّنا نتحدّثُ عن نوعٍ أدبيٍّ جديدٍ مُستحدثٍ لا هوَ بشعرٍ ولا بنثرٍ ولا يخضعُ لأيّ قواعدَ معروفةٍ نقيّمُه بها)

وهذا ادّعاءٌ يتعارضُ معَ تاريخِ العربِ قبلَ الإسلام، حيثُ كانَت المسابقاتُ الشعريّةُ تعدُّ منَ الأنشطةِ الثقافيّةِ الأساسيّةِ في المُجتمعاتِ الجاهليّة، وكانَ العربُ يتنافسونَ في إبداعِ الشعرِ بطريقةٍ فريدةٍ ومُتقنةٍ، وعليهِ فإنَّ تحدّي القرآنِ الأدبيّ والبلاغيّ ليسَ زئبقيّاً وإنّما يستندُ على معاييرَ واضحةٍ عندَ فصحاءِ العرب.

كما أنَّ المسابقاتِ الأدبيّةَ عندَ العربِ لم تقِف عندَ حدودِ الشعرِ المنظومِ فقط إنّما اشتملَت أنواعاً مختلفةً منَ الأدبِ مثلَ النثرِ والخطابةِ، ممّا يدلُّ على أنَّ العربَ كانوا يولونَ اهتماماً كبيراً باللغةِ والأدبِ والبلاغةِ ويعرفونَ جيّداً التمييزَ بينَ الكلامِ البليغِ وغيرِ البليغ، وعليهِ فإنَّ التحدّيَ الأدبيّ ليسَ زئبقيّاً كما يدّعي وإنّما يمكنُ الاعتمادُ عليه كمعيارٍ للتقييمِ والتحليل.

يقولُ: (أمّا إن كانَ المقصودُ أنّه أعجزَ الناسَ 14 قرناً، فالمُخالفُ لم يحصُل على فرصةٍ عادلةٍ للمُنافسةِ طيلةَ هذه الفترة لأنَّ الثقافةَ إسلاميّةٌ والسلطةَ إسلاميّة).

أوّلاً: مفهومُ الإعجازِ الأدبيّ في القرآنِ الكريم لا يعني أنّه منصّةٌ للمنافساتِ الأدبيّة، وإنّما يعني أنّه كتابٌ يتّصفُ بمستوىً عالٍ منَ الجمالِ والتميّزِ الأدبي، وأنّه لا يمكنُ لأيّ إنسانٍ أو جماعةٍ أن يُنتجوا مثلَه.

ثانياً: يجبُ أن نفهمَ أنَّ القرآنَ الكريمَ قد كانَ مُتاحاً للجميعِ طوالَ تاريخِ الإسلام، وقد قرأهُ ودرَسَه الكثيرون، بما في ذلكَ الغربيّونَ واليهودُ والنّصارى وغيرُهم، وقد حاولَ الكثيرونَ مِنهم المنافسةَ والتحدّي له، ولكنّهم لم يتمكّنوا مِن إنتاجِ شيءٍ مُشابهٍ للقرآنِ الكريم.

ثالثاً: يجبُ أن نعترفَ بأنَّ السّلطةَ الإسلاميّةَ كانَت تنتشرُ في العديدِ منَ الأماكنِ حولَ العالمِ خلالَ تلكَ الفترة، ولكنَّ الإعجازَ الأدبيَّ للقرآنِ الكريم لم يقتصِر على هذهِ المناطقِ فقط، بل كانَ له تأثيرٌ على العديدِ منَ الثقافاتِ واللغاتِ حولَ العالم.

وفي المُحصّلةِ لا يمكنُ إلزامُ مَن يتعمّدُ إنكارَ الحقيقةِ، كما لا يمكنُ ملاحقةُ التبريراتِ الباردةِ التي يتستّرُ بها مَن يتّخذُ موقفاً مُناهِضاً للدّين، قالَ تعالى: (وَقُلِ الحَقُّ مِن رَّبِّكُم ۖ فَمَن شَاءَ فَليُؤمِن وَمَن شَاءَ فَليَكفُر).