أجيبُوا يامَنْ تَدّعونَ أنّ قَصَصَ الأنبياءِ في القُرآنِ قَد أخذَتْ مِنَ الكُتُبِ السّابقةِ له.
الشّبهة/: زَعمَ بعضُ المستشرقينَ، مِثل: (جولد تسيهر) وغيرُه أنّ اليَهوديّةَ مَصدرٌ مِنْ مَصادرِ الإسلام واستدَلّوا على ذلك: 1- تَشابهُ القرآنِ واليَهوديّة في القَصَص مِثل قِصّةِ إبنَي آدمَ وقِصّةِ إبراهيم. 2- التّشابهُ في بَعضِ القَضايا العَقديّةِ والتّشريعيّةِ والحَثّ على مَكارمِ الأخلاق.
قُلنا مِراراً وتِكراراً وقد ذَكرَ ذٰلكَ جُملةٌ مِنَ العُلماءِ الباحثينَ في عِلمِ الأديانِ أنّ الهَدفَ الحَقيقيَّ للمُستشرقينَ مِنْ وراءِ دِراسَتِهم للشّرق وللإسلام وَعُلومهِ ليسَ هوَ دِراسةُ كافّة البُنىٰ الثّقافيّة للشّرقِ مِنْ وِجهَةِ نَظرٍ غَربيّةٍ بَل هَدفُهم الأساسيُّ هوَ الوقوفُ دونَ وصولِ الإسلامِ الحقيقيّ إلى الشّعوبِ النّصرانيّة مُعتمدينَ في ذلكَ على تَشويهِ مَعالمهِ. وإضعافِ الرّوحِ الإسلاميّةِ عندَ المسلمينَ، وبَثِّ التّفرِقةِ والعَملِ على تَنصيرِهم، ومُحاولةِ إثباتِ تَفوّقِ المبادِئ والمُثُلِ الغَريبةِ وإظهارِ الإسلامِ بمظهرِ الرّجعيّةِ والتّأخّر.
ولِتحقيقِ هذهِ الأهدافِ لَجأَ المُستشرقونَ لوَسائلَ عَديدةٍ لا حَصرَ لها وَظّفوها على كُلِّ الجَبَهات دونَ إستثناء، بِدءًا مِنَ التّأليفِ في مَوضوعاتِ الإسلامِ وعُلومهِ وفي سيرَةِ الرّسولِ صَلّى الله عليهِ واله والقرآنِ الكَريمِ دونَ أنْ يَنسَوا وَضعَ سَيفِ التّزويرِ والتّحريفِ والبَترِ فالمُستشرقونَ قَد تَمَّ إعدادُهم لِيُهيّئوا الأرضيّةَ المُناسِبةَ ويُمَهِّدوا لِغاراتٍ تَنصيريّةٍ على القُرآنِ والإسلامِ ولكِنّهم لم يَستطيعوا أنْ يَنفُوا الإعجازَ الغيبِيَّ للقُرانِ الكَريمِ ولا أنْ يُثبِتوا مُدَّعاهُم بِدَليلٍ قاطع.
أمّا ما ذَكروا مِنْ تَشابُهِ القُرآنِ واليَهوديّةِ في القَصَصِ مثلَ قِصّةِ إبنَي آدمَ وقِصّةِ إبراهيمَ فنقولُ:
قالَ اللهُ تعالى في سورَةِ غافر (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ " (78).
فإنّ اللهَ تَعالى يَقُصُّ لِنَبيّهِ مُحمّد (صَلّى اللهُ عليهِ والهِ) ما يشاءُ مِنْ أَنباءِ بَعضِ الرّسّلِ ومُعجِزاتِهم تَسلِيةً لهُ، ومِنهُم مَنْ لَم يَقصصْهم عَليه. فإنَّ ما وردَ مِنْ ذِكرِهم في التّوراةِ فَفيهِ بَعضُ الحَقّ الّذي لَم يَلحَقهُ تَحريفٌ وهوَ ما اتّفقَ معَ القُرآنِ العظيمِ نُؤمنُ بهِ بلْ هُنالِك كثيرٌ مِنَ التّفاصيلِ الّتي وَردَتْ في قَصَصِ الأنبياءِ في القُرانِ لَم تَرِدْ في التّوراةِ فَقِصّةُ ابنَي آدمَ نَجِدها في التّوراةِ بِدايةً مِنَ الحِوارِ بَينهُما حَتّى مَقتَلِ هابيل، أمّا باقي التّفاصيلِ الّتي ذَكرَها القُرانُ فغَيرُ مَوجودةٍ في التّوراةِ فكيفَ أخذَها القُرانُ!
وكذلكَ قِصّةُ نَبيّ الله إبراهيم فَفيها كثيرٌ مِنَ التّفاصيلِ الّتي ذَكرَها القُرانُ الكَريمُ ولَم تَرِدْ في التّوراة، وكيفَ يُمكِنُ إعتبارُ التّوراةِ والإنجيلِ مِنْ مَصادرِ القُرآن مَعَ أنّ القُرآنَ خالَفها في كَثيرٍ مِنَ الأشياءِ؛ فَبَعضُ الأحداثِ التّأريخيّةِ نَجدُ القرآنَ يَذكرُها بِدقّةٍ مُتناهيةٍ، فَفي قِصّةِ موسى يُشيرُ القرآنُ إلى أنّ الّتي كَفلَتْ موسى هِيَ امرأةُ فِرعون، معَ أنّ سفرَ الخروج في الإصحاحِ الثّاني يُؤكّدُ أنّها كانتْ إبنتَه:
5 فَنَزَلَتِ ابْنَةُ فِرْعَوْنَ إِلَى النَّهْرِ لِتَغْتَسِلَ، وَكَانَتْ جَوَارِيهَا مَاشِيَاتٍ عَلَى جَانِبِ النَّهْرِ. فَرَأَتِ السَّفَطَ بَيْنَ الْحَلْفَاءِ، فَأَرْسَلَتْ أَمَتَهَا وَأَخَذَتْهُ.
6 وَلَمَّا فَتَحَتْهُ رَأَتِ الْوَلَدَ، وَإِذَا هُوَ صَبِيٌّ يَبْكِي. فَرَقَّتْ لَهُ وَقَالَتْ: «هذَا مِنْ أَوْلاَدِ الْعِبْرَانِيِّينَ».
كما أنّ القُرآنَ يَذكرُ غَرقَ فِرعون بِشكلَ دَقيقٍ لا يَتجاهلُ حَتّى مَسألةَ نَجاةِ بَدَنِه مِنَ الغَرَقِ بعدَ مَوتهِ وهَلاكهِ، في الوَقتِ الّذي نَجِدُ التّوراةَ تُشيرُ إلى غَرَقِهِ بِشَكلٍ مُبهَمٍ، ويَتكرّرُ نفسُ المَوقفِ في قَضِيّةِ العِجلِ ؛حيثُ تَذكرُ التّوراةُ أنّ الّذي صَنَعهُ هوَ هارون وهذا مَذكورٌ صَريحاً في سِفر الخروج الاصحاح 32 .
21 وَقَالَ مُوسَى لِهَارُونَ: «مَاذَا صَنَعَ بِكَ هذَا الشَّعْبُ حَتَّى جَلَبْتَ عَلَيْهِ خَطِيَّةً عَظِيمَةً؟»
22 فَقَالَ هَارُونُ: «لاَ يَحْمَ غَضَبُ سَيِّدِي. أَنْتَ تَعْرِفُ الشَّعْبَ أَنَّهُ فِي شَرّ.
23 فَقَالُوا لِيَ: اصْنَعْ لَنَا آلِهَةً تَسِيرُ أَمَامَنَا، لأَنَّ هذَا مُوسَى الرَّجُلَ الَّذِي أَصْعَدَنَا مِنْ أَرْضِ مِصْرَ، لاَ نَعْلَمُ مَاذَا أَصَابَهُ.
24 فَقُلْتُ لَهُمْ: مَنْ لَهُ ذَهَبٌ فَلْيَنْزِعْهُ وَيُعْطِنِي.
فَطَرَحْتُهُ فِي النَّارِ فَخَرَجَ هذَا الْعِجْلُ».
25 وَلَمَّا رَأَى مُوسَى الشَّعْبَ أَنَّهُ مُعَرًّى لأَنَّ هَارُونَ كَانَ قَدْ عَرَّاهُ لِلْهُزْءِ بَيْنَ مُقَاوِمِيهِ،
35 فَضَرَبَ الرَّبُّ الشَّعْبَ، لأَنَّهُمْ صَنَعُوا الْعِجْلَ الَّذِي صَنَعَهُ هَارُونُ.
وكَيفَ يَأخذُ القُرانُ قَصصَ الأنبياءِ مِنْ كِتابٍ يَنسِبُ للأنبياءِ أموراً أجَلّهمُ اللهُ عنها! وإليكُم ما وَردَ في سِفرِ التّكوين الإصحاح 19 مِنَ التّوراة في قِصّةِ نَبيّ الله لوط (عليه السلام).
31 وَقَالَتِ الْبِكْرُ لِلصَّغِيرَةِ: «أَبُونَا قَدْ شَاخَ، وَلَيْسَ فِي الأَرْضِ رَجُلٌ لِيَدْخُلَ عَلَيْنَا كَعَادَةِ كُلِّ الأَرْضِ.
32 هَلُمَّ نَسْقِي أَبَانَا خَمْرًا وَنَضْطَجعُ مَعَهُ، فَنُحْيِي مِنْ أَبِينَا نَسْلاً».
33 فَسَقَتَا أَبَاهُمَا خَمْرًا فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ، وَدَخَلَتِ الْبِكْرُ وَاضْطَجَعَتْ مَعَ أَبِيهَا، وَلَمْ يَعْلَمْ بِاضْطِجَاعِهَا وَلاَ بِقِيَامِهَا.
34 وَحَدَثَ فِي الْغَدِ أَنَّ الْبِكْرَ قَالَتْ لِلصَّغِيرَةِ: «إِنِّي قَدِ اضْطَجَعْتُ الْبَارِحَةَ مَعَ أَبِي. نَسْقِيهِ خَمْرًا اللَّيْلَةَ أَيْضًا فَادْخُلِي اضْطَجِعِي مَعَهُ، فَنُحْيِيَ مِنْ أَبِينَا نَسْلاً».
35 فَسَقَتَا أَبَاهُمَا خَمْرًا فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ أَيْضًا، وَقَامَتِ الصَّغِيرَةُ وَاضْطَجَعَتْ مَعَهُ، وَلَمْ يَعْلَمْ بِاضْطِجَاعِهَا وَلاَ بِقِيَامِهَا.
36 فَحَبِلَتِ ابْنَتَا لُوطٍ مِنْ أَبِيهِمَا.
وكذلكَ نَجدُ في القُرانِ قَصَصاً لأنبياءَ لمْ يَرِدْ لَهمْ ذِكرٌ في كُتُبِ اليَهود والنّصارى، مِثلَ قِصّةِ هُود وصالحٍ وشعيب فَمِنْ أينَ أتىٰ بِها القُران؟! أجيبُوا يامَنْ تَدّعونَ أنّ قَصَصَ الأنبياءِ المَذكورةِ في القُرآنِ قَد أخذَها مِنَ الكُتُبِ السّابقةِ له.
وكذلكَ وجودُ بَعضِ الشّرائعِ في القُرآنِ، والّتي تَتّفقُ معَ ما في التّوراةِ والإنجيلِ ، ليسَ في هذا دَليلٌ على أنّهُ مَأخوذٌ مِنها، فالقرآنُ لمْ يَأتِ لِهَدمِ كُلّ شَيءٍ ، بلْ لِتصحيحِ الخَطأ وإقرارِ الحَقِّ، فالصّدقُ والشّجاعةُ والكَرمُ والحِلمُ والرّحمةُ والعِزّةُ ، كُلُّ هذهِ المَعاني مَوجودةٌ قَبلَ الإسلامِ ولَمْ يُغيّرْ مِنها شَيئاً بلْ بارَكها وحَثَّ عليها، لذلكَ قالَ النّبيُّ :« إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ صَالِحَ الْأَخْلَاقِ » فمِنَ الطّبيعيّ أنْ يُقِرَّ القُرآنُ بعضَ الشّرائعِ، الّتي في الكُتُبِ السّماويةِ السّابقةِ وقَد نَصَّ القرآنُ على هذا المَعنى في مِثلِ قَولهِ تَعالى في سُورَةِ يونُس (وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ" [37])
ودُمتُم سالمين.
اترك تعليق