هل كان انتقاد المسلمين للماركسيّة بسبب تضليل الإعلام الرأسماليّ؟

السؤال: يهاجم المسلمون كارل ماركس لا لأنّهم قرأوا كتبه واطّلعوا على فكره بل بسبب تضليل الإعلام الرأسماليّ وبعض وعاظ السلاطين لهم ... ماركس لم ينشغل بالدين من جهة الإلحاد أو الإيمان، ولم تكن مسألة وجود الإله أو عدمه تدخل في خطّته الفكريّة أو السياسيّة مباشرة. ذلك أنّ مشكلة التصوّر الشيوعيّ للعالم هي تحديداً القضاء على التفاوت الطبقيّ وتحقيق المساواة بين الناس عن طريق إعادة توزيع الخيرات بينهم توزيعا عادلاً. أمّا عن مسألة التديّن والإلحاد فيعـدّها ماركس مسألة شخصية لا علاقة لها مباشرة بالسياسة الكبرى للبنى الاقتصاديّة في المجتمع.

: الشيخ معتصم السيد احمد

الجواب:

بسم الله الرحمن الرحيم

أوّلاً: الادّعاء بأنّ المسلمين يهاجمون ماركس بسبب تأثير الإعلام الرأسماليّ ووعاظ السلاطين يتجاهل النقد العميق الذي قدّمه علماء المسلمين وفلاسفتهم للماركسيّة. لم يكن نقدهم ناتجاً عن جهل أو تأثير التضليل الإعلاميّ، بل كان مبنيّاً على دراسة وتقييم معمّق لفكر ماركس وتأثيره على القيم الإسلاميّة والمجتمعات. ومن بين هؤلاء السيّد محمّد باقر الصدر في كتابه (فلسفتنا)، إذْ تناول بشكل شامل الصراع الفكريّ بين الفلسفة الإسلاميّة والمادّية الماركسيّة، كما تطرّق إلى الأنظمة الاجتماعيّة المختلفة مثل النظام الرأسماليّ، الديمقراطيّ، الاشتراكيّ، وناقش بعض المذاهب الفلسفيّة مثل المذهب العقليّ والمذهب التجريبيّ، مشيراً إلى أنّ الماركسيّة استندت إلى المذهب التجريبيّ. وقد وجّه المؤلّف انتقادات علميّة مستندة إلى آراء العديد من الفلاسفة العالميّين، موضّحاً تناقض النظريّة الماركسيّة مع الفكر الفلسفيّ العالميّ والإسلاميّ.

وفي كتابه الآخر (اقتصادنا)، يقدّم الشهيد الصدر دراسة حول المادّية التاريخيّة وقوانين الديالكتيك، بالإضافة إلى مراحل تطوّر المجتمع في الفكر الماركسيّ. كما قدّم نقداً شاملاً للفكر الاقتصاديّ الماركسيّ، وانتهى الكتاب بعرض الهيكل العامّ للاقتصاد الإسلاميّ، والكتاب يتكوّن من ثلاثة فصول:

الفصل الأوّل: يتناول المذهب الماركسيّ، إذْ يشرح المادّية التاريخيّة وأسسها الفكريّة، ثمّ يقدّم نقداً مفصّلاً لهذا المذهب.

الفصل الثاني: يتناول المذهب الرأسماليّ ويعرض مبادئه الأساسيّة.

الفصل الثالث: يقدّم دراسة مفصّلة لمبادئ الاقتصاد الإسلاميّ، مع شرح لأنظمة التوزيع والإنتاج في الإسلام.

ثانياً: صحيح أنّ ماركس لم يعـدّ الدين نقطة مركزيّة في خطّته السياسيّة، إلّا أنّ تحليله للدين كان جزءاً مهمّاً من مشروعه الفكريّ. فماركس هو صاحب المقولة الشهيرة: (الدين أفيون الشعوب)، والتي حمّل فيها الدين مسؤوليّة التخلّف والمعاناة والطبقيّة، وهذا النوع من الفهم يعكس نظرة سلبيّة للدين باعتباره عائقاً أمام التحرّر السياسيّ والاقتصاديّ، في حين أنّ الدين في الفكر الإسلاميّ هو محور الحياة الفرديّة والجماعيّة، ووسيلة للتحرّر الروحيّ والاجتماعيّ، وعنصراً أساسيّاً في نظام العدالة الاجتماعيّة. لذا فإنّ اختلاف الفهم حول مفهوم الدين يُعدُّ بحدّ ذاته سبباً كافياً لانتقاد ماركس من قبل علماء المسلمين.

ثالثاً: حتّى لو سلّمنا بأنّ ماركس كان يركّز فقط على القضاء على التفاوت الطبقيّ وتوزيع الثروات بعدالة، إلّا أنّ ذلك لا يمنع من تعارض الماركسيّة مع الأطر الروحيّة والأخلاقيّة التي يقوم عليها الإسلام، فالعدالة الاجتماعيّة من أهمّ الغايات التي يسعى الإسلام لتحقيقها، ولكن تلك العدالة يجب أن ترتكز على أسس أخلاقيّة وروحيّة، ولا يجوز اختزالها في البنية الاقتصاديّة فقط، والماركسيّة تقوم على أنّ العلاقات المادّية هي الأساس لكلّ شيء، وهو ما يتعارض مع التصوّر الإسلاميّ للعالم، الذي يعـدُّ البعد الروحيّ والأخلاقيّ عنصراً محوريّاً في تحقيق التوازن والعدالة.

رابعاً: الادّعاء بأنّ ماركس يعـدُّ الدين مسألة شخصيّة لا علاقة لها بالسياسة الكبرى للبنى الاقتصاديّة يتناقض مع الواقع التاريخيّ للتطبيقات السياسيّة للفكر الماركسيّ في العديد من الدول التي تبنّت الماركسيّة، مثل الاتّحاد السوفيتيّ والصين، إذْ تمَّ اتّخاذ مواقف عدائيّة اتّجاه الأديان، وقُمعت الممارسات الدينيّة باعتبارها تتعارض مع النظام الاشتراكيّ. هذا الواقع أثار قلق العديد من المسلمين الذين يرون في الدين جزءاً أساسيّاً من حياتهم العامّة والخاصّة.

خامساً: الإسلام لا يختلف في هدفه لتحقيق العدالة الاجتماعيّة، ولكنّه يختلف في الوسائل والتصوّرات الأساسيّة. فالإسلام يعترف بالملكيّة الخاصّة ويضع ضوابط صارمة على توزيع الثروات من خلال الزكاة والخمس والصدقات، وهو ممّا يضمن توزيعاً عادلاً للثروة مع احترام الحقوق الفرديّة. في حين أنّ الفكر الماركسيّ يفرض إلغاء الملكيّة الخاصّة لصالح الدولة. فهذه الاختلافات الفلسفيّة العميقة تجعل من الطبيعيّ أن ينتقد المسلمون الشيوعيّة، ليس بناءً على تحريض إعلاميّ، بل استناداً إلى تناقضات جذريّة مع أسس العقيدة الإسلاميّة. وعلى ذلك، فإنّ انتقاد المسلمين لماركس لا ينبع من تأثيرات خارجيّة أو تضليل، بل من اختلافات فكريّة عميقة تتعلّق بفهمهم للدين والمجتمع والعدالة. والحمد لله ربّ العالمين.