لماذا لا توجد روايات للحسن العسكريّ في كتب الحديث السنّيّة؟

قال العلّامة الحلّيّ: وكان الحسن العسكريّ عالماً زاهداً أفضل أهل زمانه، وروت عنه العامّة-يقصد أهل السنة- كثيراً. لكنّ ابن تيميّة ردّ على الحلّي بأنّه لا توجد رواية واحدة للحسن العسكريّ (ع) في كتب الحديث المشهورة ولم يروِ عنه أحد من أصحاب الكتب الستّة: كالبخاريّ، ومسلم، وأبي داوود، والترمذيّ، والنسائيّ، وابن ماجه، مع أنّهم كانوا موجودين في زمانه أو قريباً منه. فكل أئمّة الحديث تجاهلوا الحسن العسكريّ ولم يأخذ أحد منهم حديثاً واحداً منه مع روايتهم عن ألوف مؤلّفة من أهل الحديث!! نسأل سؤال؛ أين هذه الروايات الكثيرة التي رواها أهل السنّة عن الحسن العسكريّ في كتب الحديث المشهورة؟

: الشيخ أحمد الكعبي

الجواب:

بسم الله الرحمن الرحيم

في بادئ الأمر لا بُدّ أن يعرف القارئ بعض الأمور التي لها مدخل في معرفة الجواب عن السؤال، وأهمّ هذه الأمور ما يلي:

أوّلاً: أنّ علماء السنّة اختلفوا في تحديد عدد وأسماء ومراتب أُمّهات الكتب عندهم، فقسم يجعل «موطّأ» مالك في مقدّمة الصحاح والسنن، كما صنع أبو الحسن رزين بن معاوية العبدريّ الأندلسيّ (المتوفّى 535هـ) في كتابه «تجريد الصحاح»، وابن الأثير الجزريّ أبو السعادات (المتوفّى 606هـ) في كتابه «جامع الأُصول في أحاديث الرسول».[مقدّمة سنن ابن ماجه، ص3]. وقسم يجعل الكتب المعتمدة عند السنّة، خمسة، وهي: صحيحا البخاريّ ومسلم، وسنن أبي داود، وسنن النَّسائي، وجامع الترمذيّ. وهذا هو الرأي المشهور بين الحفّاظ والعلماء، والمحدّثين، وإليه ذهب ابن الصلاح، ومحيي الدين النوويّ، وابن حجر العسقلانيّ. [أضواء على السنّة المحمديّة:244، 265، 269].

وقسم ثالث كان يقدّم سنن الدارميّ على سنن ابن ماجه. [مقدمة سنن ابن ماجه، ص5].

نستنتج من ذلك أنّ القول بأنّ الكتب الحديثيّة المعتمدة عند أهل السنّة، هي الكتب الستّة، قد جاء في وقت متأخّر، وأنّ الاختلاف بين علمائهم، في تحديد ذلك ظلّ قائماً لقرون عديدة، قبل أن يشيع القول بذلك أخيراً.

وثانياً: أنّ التراث الحديثيّ السُّنّيّ ليس منحصراً في هذه الكتب الستّة، بل هو أوسع من ذلك، وقد نقلته جُملة من كتبهم المصنّفة في هذا المجال، ومن هنا لا يمكن اعتبار الكتب الستّة مقياساً لروايات الرواة، كثرة وقلّة، أو وجوداً وعدماً.

وثالثاً: ما يتعلّق بعدم رواية أحد من أصحاب الكتب الستة على حسب ادّعاء ابن تيميّة فهو مبنيٌّ على التمويه الذي سلكه به ابن تيميّة في كتابه المنهاج وغيره، وذلك لأنّ هؤلاء الشيوخ الستّة، وإن كانوا موجودين في ذلك الزمان، إلّا أنّهم كانوا جميعاً أكبر سنّاً من الإمام (ع)، وقد سمعوا الحديث وارتحلوا في طلبه قبل أن يتصدّى الإمام لنشر العلم، بل قد فرغ بعضهم من طلبه للحديث قبل أن يُخلق الإمام (ع)، إذْ ولد الإمام الحسن العسكريّ (ع) بالمدينة المنوّرة سنة (232هـ)، وانتقل به والده الإمام عليّ الهادي إلى سامراء بعد أن أشخصه إليها المتوكّل العباسيّ سنة (233هـ) ليكون تحت الرقابة، فأقام بها إلى أن استشهد في سنة (260هـ). وكان الحسن العسكرىّ (ع) قد نهض بمسؤوليّة الإمامة ونشر العلم بعد استشهاد والده في سنة (254هـ). [أعيان الشيعة:ج2 ص40].

في حين أنّ الشيوخ الستّة، وهم:

1- البخاريّ، فقد ولد في بخارى سنة (194هـ)، ورحل في طلب الحديث سنة (210هـ)، فزار خراسان والعراق والحجاز وغيرها وأقام في بخارى، وقدم نيسابور سنة (250هـ) وحدّث بها، ... فمات فيها سنة (256هـ).[وفيات الأعيان:ج4 ص188].

فالبخاريّ - إذنْ - كان أكبر من الإمام العسكريّ بنحو (38سنة)، وكان يقيم ببخارى، وتوفّي بإحدى قرى سمرقند بعد سنتين من بدء الإمام العسكريّ (ع) بالتحديث ونشر العلم في سامراء في العراق، فكيف يريد ابن تيمية من البخاريّ أن يروي عن الإمام؟

2- مسلم بن الحجّاج، ولد بنيسابور سنة (204هـ) أو نحو ذلك، ورحل في طلب الحديث إلى الحجاز ومصر والشام والعراق، ثمّ عاد إلى نيسابور، إلى أن توفّي بها سنة (261هـ).[سير أعلام النبلاء:ج12 ص557].

وأنت ترى الفارق الكبير بين عُمر الإمام وعُمر مسلم، الذي يبلغ نحو (30) عاماً، والمسافة الشاسعة التي تفصل بين بلديهما، فكيف يروي عن الإمام (ع) مع هذين الأمرين؟!

3- الترمذيّ، ولد في حدود سنة (210هـ)، ورحل في طلب الحديث إلى خراسان والعراق والحجاز، وعاد إلى ترمذ، وتوفّي بها سنة (279هـ). [سير أعلام النبلاء: ج13 ص270].

والجواب عن عدم رواية الترمذيّ عن الإمام هو نفسه ما قلناه في مسلم بن الحجّاج.

4- أبو داود. ولد سنة (202هـ). ورحل إلى الشام والعراق ومصر، وزار بغداد مراراً، وروى بها كتابه المصنّف في السنن، ثمّ سكن البصرة، وتوفّي بها سنة (275هـ).

ويقال: إنّه صنّف كتابه في السنن قديماً، وعرضه على أحمد بن حنبل (المتوفّى 241هـ)، فاستجاده واستحسنه. [سير أعلام النبلاء: ج13 ص203].

فكيف -إذنْ -لأبي داود الذي هو أكبر من الإمام العسكري بأكثر من (30) عاماً، أنْ يروي عنه في كتابه (السنن) مع أنّه صنّفه قبل أن يتصدّى الإمام (ع) لنشر الحديث بنحو (14) عاماً أو أكثر؟!

5- ابن ماجه، ولد سنة (209هـ)، ورحل إلى البصرة وبغداد والشام ومصر والحجار والريّ، في طلب الحديث. وعاد إلى بلده (قزوين). توفّي سنة (273هـ)، وقيل: سنة (275هـ). [سير أعلام النبلاء:ج13 ص277].

6- النَّسائيّ، ولد في نَسا بخراسان سنة (215هـ)، وطلب العلم منذ صغره، فسمع بخراسان والعراق والحجاز وغيرها. وأقام بمصر مدّة طويلة، ثمّ استقرّ في دمشق. سُئل عن فضائل معاوية، فقال: ما أعرف له فضيلة إلّا «لا أشبع الله بطنه»، فضربوه في الجامع وداسوه، وأُخرج عليلاً، ثم حُمل إلى الرملة (بفلسطين) فمات بها، وذلك في سنة (303هـ)، وقيل: حُمل إلى مكّة، فدفن بين الصفا والمروة. وكان قد رحل إلى قتيبة بن سعيد في سنة (230هـ) لسماع الحديث. [سير أعلام النبلاء:14ج ص125].

فهل ينتظر ابن تيمية منه أن يسمع من الإمام العسكريّ (ع) الذي تصدّى ـ كما قلنا ـ لنشر العلم والحديث في سنة (254هـ)؟!

وممّا سبق يتضح أنّ خلوّ الكتب الستّة من روايات الإمام العسكري (ع)، يعود بالدرجة الأساس إلى فارق السنّ الذي بين مؤلّفيها وبين الإمام (ع)، إذْ إنّ أصغرهم سنّاً، وهو النسائيّ كان أكبر من الإمام بنحو (17) عاماً، بل كانوا جميعاً، باستثناء النسائيّ، أكبر سنّاً من والده الإمام عليّ الهادي (المولود سنة 212هـ). ولكنّ ابن تيمية لم يُشر إلى كلّ ذلك، ولم يُشر، أيضاً إلى تاريخ بدء الإمام (ع) بنشر العلم والحديث، ولا إلى تاريخ استشهاده في سنة (260هـ)، وهو ابن ثمان وعشرين سنة، إيغالاً منه في التمويه على القارئ.

ورابعاً: مع قصر المدّة التي تصدّى فيها الإمام العسكريّ (ع) لنشر العلم والحديث، وقسوة الأوضاع التي أحاطت به في ظلّ الرقابة الشديدة التي فرضها عليه حكّام بني العبّاس في عاصمة مُلكهم (سامراء)، فإنّ الذين أخذوا عنه العلم والحديث، قد جاوز عددهم مئة وأربعين راوياً، كما أحصاهم المتتبّع الشيخ خليل الله العطارديّ. [مسند الإمام العسكريّ:292ـ398].

ونحن وإن لم نظفر للإمام (ع) بروايات كثيرة في كتب أهل السنّة التي وصلت إلينا، إلّا أنّه روى له بعضهم كالحافظ أبي نُعيم الأصبهانيّ (المتوفّى 430هـ)، والحافظ أبي الفرج ابن الجوزيّ الحنبليّ (المتوفّى 597هـ)، والحافظ عبد العزيز بن محمود ابن الأخضر الجنابذيّ الحنبليّ (المتوفّى 611هـ). وروى بعض الأخبار الواردة عنه سبط ابن الجوزيّ الحنفيّ [مرآة الزمان:ج6 الورقة 192، نقلاً عن كتاب الأئمّة الاثنا عشر للسيّد عليّ الميلانيّ:168]، وابن الصبّاغ المالكيّ[الفصول المهمّة:285ـ 288]، وابن حجر الهيتميّ [الصواعق المحرقة:207ـ208]، وغيرهم.

وإليك بعضاً من أحاديثه التي رواها بعض علماء السنّة:

قال أبو نُعيم الأصبهانيّ: أشهد بالله وأشهد لله، لقد حدّثني القاضي أبو الحسن عليّ بن محمّد بن عليّ بن محمّد القزوينيّ ببغداد، قال: أشهد بالله وأشهد لله، لقد حدّثني القاسم بن العلاء الهمدانيّ، قال: أشهد بالله وأشهد لله، لقد حدّثني الحسن بن عليّ بن محمّد بن الرضا، قال: أشهد بالله وأشهد لله، لقد حدّثني أبي عليّ بن محمّد، قال: أشهد بالله وأشهد لله، لقد حدّثني أبي محمّد بن عليّ قال: أشهد بالله وأشهد لله، لقد حدّثني أبي عليّ بن موسى قال: أشهد بالله وأشهد لله، لقد حدّثني أبي موسى بن جعفر قال: أشهد بالله وأشهد لله، لقد حدّثني أبي جعفر بن محمّد قال: أشهد بالله وأشهد لله، لقد حدّثني أبي محمّد بن عليّ قال: أشهد بالله وأشهد لله، لقد حدّثني أبي عليّ بن الحسين قال: أشهد بالله وأشهد لله، لقد حدّثني أبي الحسين بن عليّ قال: أشهد بالله وأشهد لله، لقد حدّثني أبي عليّ بن أبي طالب، قال: أشهد بالله وأشهد لله، لقد حدّثني رسول الله (ص) قال: أشهد بالله وأشهد لله، لقد قال لي جبريل (ع): يا محمّد، إنّ مدمن الخمر كعابد الأوثان.

قال أبو نُعيم الأصبهانيّ: (هذا حديث صحيح ثابت، روته العترة الطيّبة، ولم نكتبه على هذا الشرط بالشهادة بالله ولله إلّا عن هذا الشيخ). [حلية الأولياء:3ج ص203].

وقد روى هذا الحديث من طريق آخر، أبو الفرج ابن الجوزيّ في كتاب (تحريم الخمر). [ينظر: تذكرة الخواص:ج2 ص503].

ونقل العلاّمة أبو الفتح الإربليّ عن الحافظ عبد العزيز الجنابذيّ عن رجاله عن الحافظ البلاذريّ، قال: حدّثنا الحسن بن عليّ بن محمّد بن عليّ بن موسى، إمام عصره عند الإماميّة بمكّة، قال: حدّثني أبي عليّ بن محمّد المفتيّ، قال: حدّثني أبي محمّد بن عليّ السيد المحجوب، قال: حدّثني أبي عليّ بن موسى الرضا، قال: حدّثني أبي موسى بن جعفر المرتضى قال: حدّثني أبي جعفر بن محمّد الصادق، قال: حدّثني أبي محمّد بن عليّ الباقر، قال: حدّثني أبي عليّ بن الحسين السجّاد زين العابدين، قال: حدّثني أبي الحسين بن عليّ سيّد شباب أهل الجنّة، قال: حدثني أبي عليّ بن أبي طالب سيّد الأوصياء، قال: حدّثني محمّد بن عبد الله سيّد الأنبياء، قال: حدّثني جبرئيل سيّد الملائكة، قال: قال الله عزّ و جلّ سيّد السادات، إنّي أنا الله لا إله إلّا أنا، فمن أقرّ لي بالتوحيد دخل حصني، ومن دخل حصني أمن من عذابي، وقال الحاكم: (ولم نكتبه إلّا عن هذا الشيخ). [كشف الغمّة: ج3 ص198ـ199، نقلاً عن كتاب معالم العترة النبويّة للجنابذيّ].

والحمد لله ربّ العالمين.