العلمانية ليست حلاً للطائفية
سؤال: يقال: إنّه كما كانت العلمانيّة هي الحلّ لإنهاء الصراعات الدينيّة والمذهبيّة في أوروبا، ستكون بالضرورة هي الحلّ لإنهاء الصراعات الدينيّة والمذهبيّة والقبليّة في مجتمعاتنا العربيّة، وإلّا سوف نقدّم المزيد من الدماء والأرواح إلى ما لا نهاية.
الجواب:
العلمانيّة والطائفيّة من المسائل الشائكة التي تثير الكثير من الجدل بين المجتمعات حول العالم، حيث يرى البعض وجود علاقة عكسيّة بين العلمانيّة والطائفيّة، فمتى كانت العلمانيّة لم تكن الطائفيّة، وبمعنى آخر تمثّل العلمانيّة - في نظر هذا الاتّجاه - الحلّ الأمثل لمشكلة الطائفيّة.
في حين يرى البعض الآخر: أنّ لكلّ واحد منهما سياقاً مختلفاً عن الآخر، ومن الصعب الوقوف على رابط منطقيّ يجعل العلمانيّة حلّاً أمثلاً للطائفية.
ويبني الاتّجاه الأوّل تصوّره على أنّ العلمانيّة في حدّها الأدنى تهدف إلى تحقيق حياد الدولة تجاه المعتقدات الدينيّة للمواطنين وتحقيق المساواة بينهم، وهذا المفهوم يسعى بالتأكيد إلى تعزيز وحدة المجتمع وتجنيبه التمييز على أساس الدين أو الطائفة أو العرق، بينما تشير الطائفية دائماً إلى التمييز والانقسام بين الأفراد والمجموعات بناءً على انتمائهم الدينيّ أو الطائفيّ.
والتحدّي الأساسي هنا يتمثّل في التساؤل حول مدى فعاليّة العلمانيّة كحلّ لمشكلة الطائفيّة، فمن الممكن تخيّل دولة تقوم على أساس قيمها الدينيّة والثقافيّة والأخلاقيّة، وفي نفس الوقت تكون محايدة اتّجاه الاعتقادات الأخرى لمواطنيها، فالمساواة في الحقوق والمواطنة لا يتوقّف على استبعاد الدين من المشهد السياسيّ والاجتماعيّ، فالمسألة المركزيّة لحفظ الجماعة الوطنيّة هي عدم تكريس أيّ نوع من السياسات التمييزيّة على أساس الانتماء الدينيّ أو الجهويّ، وهذا خلاف مفهوم العلمانيّة التي تقوم على استبعاد الدين كمصدر للتشريع والقيم الأخلاقيّة والثقافيّة الناظمة لعمل الدولة.
ومن هنا يرى الاتّجاه الثاني أنّ شعار (العلمانيّة هي الحلّ) شعار مزيف لسببين:
الأوّل: أنّ العلمانيّة تُطرح كحلّ لمشكلة لا صلة لها بالعلمانية نفسها، فالطائفيّة مشكلة تقوم على دمج الدين بالهويّة المجتمعيّة، في حين تقوم العلمانيّة على عدم الاعتراف بالدين نفسه، وبذلك تصبح الطائفيّة مشكلة تيارات أصوليّة متطرّفة تحتاج إلى معالجات أخرى لا علاقة لها بالعلمانيّة.
الثاني: أنّ العلمانيّة نفسها قد تكون سبباً في هذا التصدّع المجتمعيّ، طالما أنّها تقوم على استقطاب الكلّ ضدّ الانتماء الدينيّ للغالبيّة، وبذلك تصبح العلمانيّة نفسها تبريراً لسياسة تمييزيّة.
ولتأكيد النقطة الأولى: يمكننا إيجاد حالات تجمع بين العلمانيّة والطائفيّة في نفس الزمان والمكان، ومثال على ذلك (إيرلندا الشماليّة)، وهي بلد أوربيّ يتبنّى مبدأ العلمانيّة في العلاقة بين الدولة والكنيسة، ومع ذلك نجد الصراع بين البروتستانت والكاثوليك قائم على أشدّه، الأمر الذي يؤكّد أنّ العلمانيّة شيء والطائفيّة شيء آخر، وايرلندا مثال صارخ على تزاوج الهويّة القوميّة للجماعة مع الهويّة الدينيّة.
وكذلك الحال فيما يتعلق بـ(الحركة الصهيونيّة)، فمع أنّها تعتبر نفسها حركة علمانيّة من حيث العلاقة بين الدولة والدين، لكنّها تؤكّد على الانتماء إلى الدين اليهوديّ كجزء من هويّتها القوميّة، الأمر الذي يدلّل على أنّ الحركات السياسيّة قد تكون علمانيّة في طابعها العامّ، ولكنّها في الوقت ذاته تعتمد على الهويّة الدينيّة كمكوّن قوميّ، والحال في (لبنان) خير مثال على ذلك، فالأحزاب المسيحيّة عموماً تعتمد مبدأ العلمانيّة في العلاقة بين الدولة والكنيسة، وفي نفس الوقت تعتمد على هويتها الطائفيّة كجزء من تشكيل هويّتها الوطنيّة.
وعليه، فإنّ الربط المباشر بين العلمانيّة والطائفيّة، واعتبار الأولى حلّاً مباشراً للثانية، لا يكتفي بخلط مسائل متباينة بعضها ببعض فحسب، بل قد يخدم كعباءة أيديولوجيّة في تزييف وتغذية النزاع الطائفيّ والمقوِّض للجماعة الوطنيّة ذاتها.
وفي الختام، يجب أن نقول: إنّ مجرّد تحوّل الأنظمة السياسيّة في عالمنا الإسلاميّ إلى أنظمة علمانيّة لا يعدّ حلّاً حقيقيّاً لمشكلاتنا الحضاريّة، فقبل التفكير في الحلول المستوردة التي لا تراعي خصوصيّاتنا، يجب أن نفكّر في الارتقاء بالإنسان المسلم علميّاً وثقافيّاً وتربويّاً وإعادة الثقة له في نفسه وفي دينه، وما تنادي به العلمانيّة هي مجرد معالجات سطحيّة لا تلامس مشكلة الإنسان الشرقيّ، بل قد تكون سبباً في توهينه وإشعاره بالدونيّة أمام الإنسان الغربيّ، فالإسلام كهويّة ثقافيّة وقيميّة يمثّل ضرورة لأيّ تحوّل حضاريّ في المنطقة، والثغرات الملحوظة في الحضارة الغربيّة تعدّ نتاجاً طبيعيّاً للاستبعاد الممنهج للسلطة الروحيّة والأخلاقيّة، فبدل أن يعمل المثقّف العربيّ والإسلاميّ على ضعضعة الثقة بالإسلام من خلال تضخيم المنجز الغربيّ يجب أن يكرّس جهده في إنتاج حضارة محليّة أساسها القيم الإسلاميّة.
اترك تعليق