عصمةُ النّبيّ الأعظم (ص)
قال تعالى : { فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ } [يونس 94] يبدو من ظاهر الآية أنّ النبي (ص) كان شاكاً بما أنزل عليه – وحاشاه من ذلك – وأنه أُمِرَ أن يسألَ أهل الكتاب حتى يتأكد أنه على حق ، وظاهر الآية لا يتفق مع عقيدتنا ، فما هو توجيه الآية ، وشكراً .
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته:
أوّلاً : إنّ قسماً منَ الخطاباتِ القُرآنيّةِ المُوجّهةِ إلى النّبيّ (ص) نزلَت مِن بابِ إيّاك أعني وإسمعي يا جارة ، إذ يكونُ المُخاطَبُ فيها النّبيُّ (ص) والمُرادُ غيرُه .
ولا يمكنُ أن يكونَ النّبيُّ (ص) وهوَ صاحبُ الدّعوةِ شاكّاً بمضمونِ دعوتِه ، وما أنزلَهُ اللهُ إليه ، فهوَ مُخالِفٌ للعِصمةِ عندَ جميعِ المُسلمينَ ، ولِذا تُحمَلُ الآيةُ على خلافِ ظاهرها عندَ جميعِ المُسلمين .
قالَ الشّريفُ المُرتضى : إنّ قولَه تعالى ( فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنزَلنَا إِلَيكَ) ظاهرُ الخِطابِ لهُ والمعنى لغيره ، كما قالَ تعالى ( يا أيّها النّبيُّ إذا طلّقتُم النّساءَ ) فكأنّهُ تعالى قالَ : فإن كُنتَ أيها السّامعُ للقُرآنِ في شكٍّ مِمّا أنزلنا على نبيّنا فاسأل الذينَ يقرؤونَ الكتابَ . (رسائلُ الشّريفِ المُرتضى : 3 / 106) .
وقالَ الشّريفُ الرّضيّ : والمُرادُ بذلكَ مَن يشكُّ مِن أمّةِ النّبيّ صلّى اللهُ عليه وآله ، وأوضحَ ما وردَ في القرآن مِن هذا الضّربِ : ممّا يدلّ على أنَّ المُخاطبَ بهِ الأمّةُ دونَ النّبيّ صلّى اللهُ عليهِ وآله ، قولُه تعالى : ( يا أيّها النّبيّ إذا طلّقتُم النّساءَ فطلّقوهنَّ لعدّتهنَّ . . . الآيةُ ) فوحّدَ ثمَّ جمعَ ، ليعلمَ أنَّ الخطابَ للأمّةِ ، وإنّما يبتدئ تعالى بخطابِ النّبيّ قبلَها ، إذ كانَ المُؤدّي عنهُ إليها ، والسّفيرَ بينَه وبينَها ، والشّهيدَ لهُ عليها ، واللّسانَ النّاطقَ عنها ، ولأنَّ مثلَ هذا القولِ لا يلتبسُ على العُقلاءِ ، لأنّهم إذا رجعُوا إلى أدلّةِ العقولِ علموا أنَّ الأنبياءَ لا يجوزُ عليهم الإمتراءُ في الدّين ، والشّكُّ بعدَ اليقين ، فيصرفونَ الخطابَ إلى مُنصرفِه ، ويحملونَه على الوجهِ الأليقِ به ... (حقائقُ التّأويل ص104)
روى الصّدوقُ بسندِه عَن موسى المُبرقعِ عَن أخيهِ الإمامِ الهادي عليه السّلام قالَ : أمّا قوله : { فإن كُنتَ في شكٍّ ممّا أنزلنا إليكَ فاسأل الذينَ يقرؤونَ الكتابَ مِن قبلِك } فإنَّ المُخاطبَ بذلكَ رسولُ اللهِ (صلّى اللهُ عليه وآله) ولم يكُن في شكٍّ ممّا أنزلَ اللهُ عزّ وجلَّ ، ولكِن قالَت الجهلةُ : كيفَ لا يبعثُ إلينا نبيّاً منَ الملائكةِ أنّه لم يُفرّق بينَه وبينَ غيرِه في الإستغناءِ عنِ المأكلِ والمشربِ والمشي في الأسواق! فأوحى اللهُ عزّ وجلَّ إلى نبيّهِ (صلّى اللهُ عليهِ وآله) : { فاسألِ الذينَ يقرؤنَ الكتابَ مِن قبلِك } بمحضرٍ منَ الجهلةِ هَل يبعثُ اللهُ رسولاً قبلَك إلّا وهوَ يأكلُ الطّعامَ ويمشي في الأسواقِ ولك بهِم أسوةٌ وإنّما قالَ : { وإن كُنتَ في شكٍّ } ولم يكُن ولكن ليتفّهمَ كما قالَ له (صلّى اللهُ عليهِ وآله) فقُل : { تعالوا ندعُ أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسَنا وأنفسَكم ثمَّ نبتهِل فنجعلَ لعنةَ اللهِ على الكاذبينَ } ولو قالَ تعالوا نبتهِل فنجعَل لعنةَ اللهِ عليكم لم يكونوا يُجيبونَ للمُباهلةِ وقَد عرفَ أنَّ نبيَّه صلّى اللهُ عليهِ وآله مؤدٍّ عنهُ رسالتَه وما هوَ منَ الكاذبينَ وكذلكَ عرفَ النّبيُّ صلّى اللهُ عليهِ وآله أنّهُ صادقٌ فيما يقولُ ولكن أحبَّ أن يُنصفَ مِن نفسِه . (عللُ الشّرائع : 1 / 129) .
ثانياً : لو كانَ المُرادُ النّبيُّ (ص) فالآيةُ لا دلالةَ فيها أنّه قد وقعَ الشّكُّ والتّرديدُ منَ النّبيّ (ص) ، فهيَ مسوقةٌ على سبيلِ الفرضِ والتّقديرِ ، قال الشّريفُ المُرتضى : وليسَ يمتنعُ عندَ مَن أمعنَ النّظرَ أن يكونَ الخطابُ مُتوجّهاً إلى النّبيّ صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ على الحقيقةِ ، وليسَ إذا كانَ الشّكُّ لا يجوزُ عليهِ لم يحسُن أن يُقالَ له : إن شككتَ فافعَل كذا ، كما قالَ اللهُ تعالى ( لئِن أشركتَ ليحبطنَّ عملك ) ومعلومٌ أنَّ الشّركَ لا يجوزُ عليه ، ولا خلافَ بينَ العلماءِ أنَّ النّبيَّ صلّى اللهُ عليه وآله داخلٌ في ظاهرِ آياتِ الوعيدِ والوعدِ وإن كانَ ممّا لا يشكُّ . (رسائلُ الشّريفِ المُرتضى : 3 / 106) .
وقالَ الفخرُ الرّازي : القضيّةُ الشّرطيّةُ لا تفيدُ إلّا ترتيبَ الجوابِ على الشّرطِ ، فأمّا أنّ الشّرطَ حاصلٌ أو لا ، فهوَ غيرُ مُستفادٍ . (عصمةُ الأنبياءِ للفخر الرّازي ص108) .
ولذا روى الصّدوقُ بسندٍ مُعتبرٍ عَن إبراهيمَ بنِ عُمر رفعَه إلى أحدِهما في قولِ اللهِ عزَّ وجلَّ لنبيّهِ صلّى اللهُ عليهِ وآله ( فإن كُنتَ في شكٍّ ممّا أنزلنا إليكَ فاسأل الذينَ يقرؤنَ الكتابَ مِن قبلِك ) قالَ : قالَ رسولُ اللهِ (صلّى اللهُ عليهِ وآله) : لا أشكُّ ولا أسأل . (عللُ الشّرائع : 1 / 130)
قالَ العلّامةُ الطّباطبائيُّ : وهذا لا يستلزمُ وجودَ ريبٍ في قلبِ النّبيّ صلّى اللهُ عليهِ وآله وسلّم ولا تحقّقَ شكٍّ منهُ فإنَّ هذا النّوعَ منَ الخطابِ كما يصحُّ أن يُخاطبَ مَن يجوزُ عليهِ الرّيبُ والشّكُّ كذلكَ يصحُّ أن يُخاطبَ بهِ مَن هوَ على يقينٍ منَ القولِ وبيّنةٍ منَ الأمرِ على نحوِ التّكنيةِ عَن كونِ المعنى الذي أخبرَ بهِ المُخبرُ ممّا تعاضدَت عليهِ الحُججُ وتجمّعَت عليه الآياتُ فإن فرضَ منَ المُخاطبِ أو السّامع شكٌّ في واحدةٍ منها كانَ لهُ أن يُأخذَ بالأخرى .
وهذه طريقةٌ شائعةٌ في عُرفِ التّخاطبِ والتّفاهمِ يأخذُ بها العُقلاءُ فيما بينَهم جرياً على ما تدعوهم إليهِ قرائحُهم ترى الواحدَ منهُم يقيمُ الحُجّةَ على أمرٍ منَ الأمور ثمَّ يقولُ : فإن شككتَ في ذلكَ أو سلّمنا أنّها لا توجبُ المطلوبَ فهناكَ حُجّةٌ أخرى على ذلكَ وهيَ أنَّ كذا كذا ، وذلكَ كنايةً عَن أنَّ الحُججَ متوفّرةٌ مُتعاضدةٌ كالدّعائمِ المضروبةِ على ما لا يحتاجُ إلى أزيدَ مِن واحدٍ منها لكنَّ الغرضَ مِن تكثيرِها هوَ أن تكونَ العريشةُ قائمةً عليها على تقديرِ قيامِ الكُلِّ والبعض . (تفسيرُ الميزان : 10 / 122)
وقالَ الطّبريّ : فإن قالَ قائلٌ : أو كانَ رسولُ اللهِ (ص) في شكٍّ مِن خبرِ اللهِ أنّهُ حقٌّ يقينٌ حتّى قيلَ لهُ : فإن كنتَ في شكٍّ ممّا أنزلنا إليكَ فاسأل الذينَ يقرؤونَ الكتابَ مِن قبلِك ؟
قيلَ : لا ، وكذلكَ قالَ جماعةٌ مِن أهلِ العلمِ .. – ثمَّ نقلَ عَن سعيدٍ بنِ جبيرٍ والحسنِ البصريّ وقتادةَ ، قولهم : ما شكَّ وما سأل ، ثمَّ قالَ : - لم يكُن (ص) شاكّاً في حقيقةِ خبرِ اللهِ وصِحّتِه ، واللهُ تعالى بذلكَ مَن أمرَه كاَن عالماً، ولكنّهُ جلَّ ثناؤه خاطبَه خطابَ قومِه بعضُهم بعضاً ، إذ كانَ القرآنُ بلسانِهم نزلَ . (تفسيرُ الطّبري : 11 / 218) .
والحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ .
اترك تعليق