هل كانَ الإمامُ الحسينُ عليه السّلام سيخرجُ إذا لم تأتِه كتبُ أهلِ الكوفة؟
هل صحيحٌ أنَّ أحدَ أسبابِ خروجِ الإمام معاهدةُ الصّلحِ بينَ الإمامِ الحسنِ ومعاوية وأنَّ الخلافةَ للإمامِ الحسنِ بعدَ معاوية فإن حدثَ بهِ حدثٌ فللإمامِ الحُسين وليسَ ليزيد؟
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته :
المُتتبّعُ للتاريخِ يجدُ أنَّ الإمامَ الحُسين (عليه السّلام) لم يخرُج على معاوية بعدَ وفاةِ أخيهِ الحسن (عليه السّلام) وذلكَ للحفاظِ على عهدِ الصّلحِ الذي كانَ بينَهما، وقد حاولَ معاويةُ في حياتِه بعدَ اغتيالِه للإمامِ الحسنِ (عليهِ السّلام) جعلَ يزيد وليّاً لعهدِه إلّا أنَّ الإمامَ الحُسينَ (عليه السلام) كانَ لهُ بالمرصادِ فأبطلَ كلَّ مُخطّطاتِه، وبعدَ هلاكِ معاويةَ كانَ كلُّ ما يشغلُ يزيد هوَ أخذُ البيعةِ منَ الإمامِ الحُسين (عليه السّلام) فأرسلَ إلى واليه في المدينةِ الوليد رسالةً جاءَ فيها كما يرويها اليعقوبي: (إذا أتاكَ كتابي فأحضِر الحُسينَ بنَ عليّ وعبدَ اللهِ بنَ الزّبيرِ فخُذهما بالبيعةِ، فإن امتنعا فاضرِب أعناقَهما وابعَث إليّ برأسيهما، وخُذ الناسَ بالبيعةِ فمَن امتنعَ فأنفِذ فيهِ الحُكم، وفي الحُسينِ بنِ عليٍّ وعبدِ اللهِ بنِ الزّبير، والسّلام) (تاريخُ اليعقوبي 2 / 215) إلّا أنَّ الإمامَ الحُسينَ (عليه السّلام) واجهَ ذلكَ بالرّفضِ القاطعِ بقولِه للوليد: (أيُّها الأميرُ، إنّا أهلُ بيتِ النّبوّةِ ومعدنُ الرّسالةِ، ومُختلفُ الملائكةِ ومحلُّ الرّحمة، بنا فتحَ اللهُ وبنا يختم ويزيدُ رجلٌ فاسقٌ، شاربُ الخمر، قاتلُ النّفسِ المُحرّمة، معلنٌ بالفسق، ومثلي لا يبايعُ مثلَه، ولكِن نصبحُ وتصبحونَ، وننظرُ وتنظرون أيُّنا أحقّ بالخلافةِ والبيعة) (الفتوح 5 / 18).
وبذلكَ يكونُ الإمامُ الحُسين (عليه السّلام) قد أعلنَ الثورةَ على بني أميّة، وبعدَ وصولِ الخبرِ إلى يزيد أرسلَ إلى الوليدِ رسالةً جاء فيها: (مِن عبدِ اللهِ يزيد أميرِ المؤمنينَ إلى الوليدِ بنِ عُتبة، أمّا بعدُ، فإذا وردَ عليكَ كتابُنا هذا فخُذ البيعةَ ثانياً على أهلِ المدينةِ بتوكيدٍ مِنكَ عليهم وذَر عبدَ اللهِ بنَ الزّبير؛ فإنّه لن يفوتَ أبداً ما دامَ حيّاً، وليكُن معَ جوابكَ إليّ برأسِ الحُسينِ بنِ علي، فإن فعلتَ ذلكَ فقد جعلتُ لكَ أعنّةَ الخيلِ ولكَ عندي الجائزةَ والحظّ الأوفرَ والنّعمة، والسّلام..
ومِن هُنا كانَ خروجُ الإمامِ الحُسين (عليهِ السّلام) منَ المدينةِ أمراً لابدَّ منه، حيثُ جرَت الأقدارُ بالشكلِ الذي تكونُ فيه بدايةُ الاعتراضِ على النظامِ الأمويّ عندَ قبرِ رسولِ الله، الأمرُ الذي يكشفُ عن أصالةِ المشروعِ الحُسيني الذي هوَ مشروعُ الإسلام المحمّدي الخالص، فصاحبُ المشروعِ الرّسالي الذي لا تسمحُ له ظروفُ موطنِه بأداءِ رسالتِه بالشكلِ المناسبِ حينَها يتعيّنُ عليهِ الهجرةُ إلى بلدٍ آخر تتوفّرُ فيه ظروفُ العملِ والتحرّكِ قالَ تعالى: (قَالُوا فِيمَ كُنتُم قَالُوا كُنَّا مُستَضعَفِينَ فِي الأَرضِ قَالُوا أَلَم تَكُن أَرضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا) وقد كانَ مشروعُ الإمامِ الحُسين (عليهِ السّلام) عملاً إسلاميّاً خالصاً قائماً على الأمرِ بالمعروف والنهي عن المُنكر كما قالَ عليه السّلام: (إنّما خرجتُ لطلبِ الإصلاحِ في أمّةِ جدّي آمرُ بالمعروفِ وأنهى عن الُمنكر) ويمثّلُ هذا المبدأ الدّافعَ الأساسيَّ لخروجِ الإمامِ الحُسين (عليه السّلام) أمّا الظروفُ التاريخيّةُ سواءٌ كانَت مساعدةً أو معاكسةً ليسَت لها علاقةٌ بأصلِ المبدأ والمشروع، ولا يمنعُ ذلكَ مِن أخذِ الأسبابِ الطبيعيّة وتهيئةِ الظروفِ التي تخدمُ مشروعَ الثورةِ، ولذلكَ اختارَ الإمامُ الحُسين (عليه السّلام) الهجرةَ إلى مكّة حرمِ الإسلامِ الأوّل ومكانِ اجتماعِ المُسلمين مِن كلِّ البقاع، وبذلكَ يوفّرُ لنفسِه مأمناً مؤقّتاً مِن مُلاحقةِ السلطةِ له، مُضافاً إلى تمكّنِه مِن بثِّ ثقافةِ الرّفضِ للنظامِ الأموي، وعليهِ فإنَّ خروجَ الحُسين (عليه السّلام) كان بدافعِ مسؤوليّتِه الشرعيّة في مواجهةِ الانحرافِ الذي أحدثَه يزيدُ بنُ معاوية، إلّا أنّهُ سعى مِن أجلِ تحميلِ كلِّ الأمّةِ هذه المسؤوليّةَ وإقامةِ الحجّةِ عليهم بضرورةِ الخروجِ على يزيد.
وعندَما سمعَ أهلُ الكوفةِ بخروجِ الإمامِ الحُسين (عليه السّلام) إلى مكّة، وقد كانوا يبحثونَ عمَّن يقودُهم للثورةِ ضدَّ بني أميّة، اجتمعوا في دارِ سليمانَ بنِ صرد ومِن ثمَّ كتبوا لهُ رسالةً طويلةً جاءَ فيها (.. قد بلغنا أنَّ ولدَه اللعينَ قد تأمّرَ على هذهِ الأمّةِ بلا مشورةٍ ولا إجماع ولا علمٍ منَ الأخبار، ونحنُ مقاتلونَ معكَ وباذلونَ أنفسَنا مِن دونِك، فأقبِل إلينا فرحاً مسروراً مأموناً مُباركاً سديداً وسيّداً أميراً مُطاعاً إماماً خليفةً علينا مهديّاً..
) ومِن ثمَّ توالَت الرّسائلُ مِن أهلِ الكوفة، حتّى أرسلَ الإمامُ الحُسين (عليه السّلام) لهُم مُسلماً بنَ عقيل ليستوثقَ منَ الأمرِ وليأخُذَ البيعةَ له منهم، وبالفعلِ أخذَ مسلمٌ البيعةَ مِن أهلِ الكوفةِ ثمَّ أرسلَ للإمامِ الحُسين (عليه السّلام) رسالةً يستحثّهُ فيها على القدومِ إليه، ومعَ أنَّ ظاهرَ الأحداثِ كانَ في صالحِ الإمامِ الحُسين (عليه السّلام) إلّا أنّهُ كانَ يعلمُ بمصيرِه ومصيرِ أصحابِه ولذا عندَما خرجَ مِن مكّةَ خطبَ فيهم قائلاً: (الحمدُ لله، ما شاءَ اللهُ ولا قوّةَ إلّا بالله، وصلّى اللهُ على رسولِه وسلّم، خُطَّ الموتُ على ولدِ آدمَ مخطَّ القلادةِ على جيدِ الفتاة، وما أولهني إلى أسلافي إشتياقُ يعقوبَ إلى يوسف، وخُيّر لي مصرعٌ أنا لاقيه، كأنّي بأوصالي تقطّعُها ذئابُ الفلواتِ بينَ النواويسِ وكربلاء، فيملأنَ منّي أكراشاً جوفاً وأجربةً سغباً، لا محيصَ عن يومٍ خُطَّ بالقلم، رضا اللهِ رضانا أهلَ البيت، نصبرُ على بلائِه ويوفّينا أجورَ الصّابرين، لن تشذَّ عن رسولِ الله ِ(ص) لُحمته، بل هيَ مجموعةٌ له في حظيرةِ القُدس، تقرُّ بهم عينُه، وينجزُ بهِم وعدَه. مَن كانَ باذلاً فينا مُهجتَه، وموطّناً على لقاءِ الله نفسَه، فليرحَل معنا؛ فإنّي راحلٌ مُصبحاً إن شاءَ الله (بحارُ الأنوار ج 44 ص 366). حيثُ تكشفُ هذه الكلماتُ عن عزمِ الإمامِ الحُسين (عليه السلام) على مواجهةِ الموتِ المحتومِ ومدى إصرارِه على إيصالِ صوتِ الرّفض، حتّى لو كانَ ذلكَ بقتلِه وقتلِ أصحابِه وسبي نسائِه وأهلِ بيته.
وفي الخلاصةِ يجبُ أن نُفرّقَ بينَ الثورةِ الحُسينيّة كمبدأ إلهيّ وكضرورةٍ تؤكّدُها سننُ الحق، وبينَ الظروفِ التاريخيّة التي رافقَت تلكَ الثورة، ففي الجانبِ الأوّلِ يجبُ التسليمُ للحِكمةِ التي جعلت للحُسينِ منزلةً لا ينالها إلّا بالشهادة، كما جعلَت مصيرَ الإسلامِ مرهوناً بتلكَ الدّماءِ التي سُفكَت، وفي الجانبِ الثاني يجبُ تحليلُ الظروفِ التاريخيّة بالشكلِ الطبيعي والموضوعيّ الذي ينسجمُ مع الحدثِ التاريخي، فرسائلُ أهلِ الكوفة ضمنَ هذا المنظورِ كانَت حافزاً لخروجِ الإمامِ الحُسين (عليه السّلام) إلّا أنّها في نفسِ الوقتِ لم تكُن هيَ الرّاسمةَ لمشروعِ الثورةِ وأهدافِها المُقدّسة.
اترك تعليق