هل يمكنُ القولُ أنَّ فتحَ مكّة كانَ سبباً في دخولِ النفاقِ إلى أهلِ المدينةِ المنوّرةِ أكثرَ مِن دخولِ الأيمانِ إلى أهلِ مكّة ؟؟؟
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته :
بدأت حركةُ النفاقِ في الظهورِ والتشكّلِ في المدينةِ بعدَ أن أصبحَ للمُسلمينَ دولةٌ قويّة، وقد تعرّضَ القرآنُ للمُنافقينَ وبيّنَ مواقفَهم وصفاتهم في السّورِ المدنيّة، أمّا في مكّةَ وقبلَ الهجرةِ لم يكُن هناكَ مُبرّرٌ للنفاقِ طالما كانَ المُسلمونَ يعيشونَ حالةَ الاستضعاف، ومعَ ذلكَ هناكَ مَن يُثبتُ وقوعَ النفاقِ في مكّةَ قبلَ الهجرةِ بدليلِ قولِه تعالى: (فَمَا لَكُم فِي المُنَافِقِينَ فِئَتَينِ وَاللَّهُ أَركَسَهُم بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَن تَهدُوا مَن أَضَلَّ اللَّهُ وَمَن يُضلِلِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (88) وَدُّوا لَو تَكفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلاَ تَتَّخِذُوا مِنهُم أَولِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوا فَخُذُوهُم وَاقتُلُوهُم حَيثُ وَجَدتُمُوهُم وَلاَ تَتَّخِذُوا مِنهُم وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا)
وقد جاءَ في تفسيرِ هذهِ الآيةِ في مرويّاتِ أهلِ السنّةِ أنَّ المقصودَ هُم الذينَ تخلّفوا عن الهجرةِ معَ الرّسولِ بعدَ أن أعلنوا إيمانَه، (قالَ الضحّاك: هُم ناسٌ تخلّفوا عن نبيّ الله -صلّى اللهُ عليهِ وسلّم، وأقاموا بمكّةَ وأعلنوا الإيمانَ ولم يُهاجروا، فاختلفَ فيهم أصحابُ رسولِ الله -صلّى اللهُ عليهِ وسلم، فتولّاهم ناسٌ مِن أصحابِ رسولِ الله -صلّى اللهُ عليهِ وسلم، وتبرّأ مِن وَلايتِهم آخرون، وقالوا: تخلّفوا عَن رسولِ الله -صلّى اللهُ عليهِ وسلم- ولم يهاجروا! فسمّاهم اللهُ منافقينَ، وبرّأ المؤمنينَ مِن ولايتِهم، وأمرَهم أن لا يتولَّوهم حتّى يهاجروا) (تفسيرُ الطبري، 8/11-12)
وبناءً على هذا التفسيرِ قد حصلَ نفاقٌ في مكّةَ مِن بعضِ الذينَ أعلنوا إيمانَهم ثمَّ رفضوا الهجرةَ معَ رسولِ الله (صلّى اللهُ عليهِ وآله)، وسواءٌ صدقَ هذا التفسيرُ أو لم يصدُق لا يُعارضَ كونَ النفاقِ ظهرَ بعدَ قيامِ الدولةِ الإسلاميّة في المدينة، والآيةُ الوحيدةُ التي صرّحَت بمكانِ تواجدِ المنافقينَ هيَ قولهُ تعالى: (وَمِمَّن حَولَكُم مِّنَ الأَعرَابِ مُنَافِقُونَ ۖ وَمِن أَهلِ المَدِينَةِ ۖ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعلَمُهُم ۖ نَحنُ نَعلَمُهُم ۚ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَينِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَىٰ عَذَابٍ عَظِيمٍ) حيثُ أكّدَت الآيةُ على وجودِ المُنافقينَ مِن بينِ أهلِ المدينةِ ومنَ الأعرابِ الذينَ يسكنونَ حولها.
أمّا القولُ أنَّ فتحَ مكّةَ كانَ سبباً في دخولِ النفاقِ إلى أهلِ المدينة، قولٌ لا يمكنُ تبنّيهِ لعدمِ وجوِد شواهدَ تاريخيّة تربطُ بينَ الأمرين، إلّا إذا كانَ السّائلُ يعتمدُ على التحليلِ النفسي والاجتماعي الذي يربطُ بينَ اشتدادِ عودِ الدولةِ وبينَ ظهورِ المُتملّقينَ والمُنافقين، ولو صحَّ هذا فإنّهُ غيرُ مُختصٍّ بفتحِ مكّة وإنّما لهُ علاقةٌ بكلِّ العواملِ التي ساهمَت في بناءِ دولةٍ قويّةٍ للمُسلمين.
وفي المُقابلِ كانَ فتحُ مكّةَ سبباً مُباشراً لدخولِ أهلِ مكّةَ في الإسلامِ، ولم يبقَ فيها مَن لم يُظهِر إسلامَه، سواءٌ كانَ ذلكَ إيماناً وتصديقاً، أو كانَ تحايُلاً ونفاقاً، وبكِلا الاحتمالينِ لا تثبتُ فرضيّةُ السّائل، فإن كانوا مُخلصينَ في إسلامِهم، حينها يكونُ فتحُ مكّة سبباً في إيمانِهم، وإن كانوا مُنافقينَ فحينَها يكونُ فتحُ مكّة سبباً لدخولِ النفاقِ إلى أهلِ مكّة أكثرَ مِن أهلِ المدينة.
اترك تعليق