لماذا هدمتُم قبورَ أئمّةِ البقيعِ (ع) ولا دليلَ لديكم على هدمِهَا؟

:

في سؤالٍ وجّههُ قاضي قضاةِ نجدٍ ـ واسمهُ: سليمانُ بن بليهد ـ إلى علماءِ أهلِ المدينةِ المنوَّرةِ للإستفتاءِ مِن علمائهَا حولَ بناءِ المراقدِ والقُببِ على قبورِ أولياءِ اللهِ. وقَد نشرت جريدةُ «أُمِّ القُرى» الصّادرةِ في مكّةَ في شوّال 1344 هـ تلكَ الأسئلةَ والأجوبةَ معاً، وقد جاءَ فيهَا: 

((ما قولُ علماءِ المدينةِ المنوَّرةِ ـ زادهمُ اللهُ فهماً و علماً ـ في البناءِ على القبورِ و اتّخاذهَا مساجداً، هَل هوَ جائزٌ أم لا؟ وإذا كانَ غيرَ جائزٍ بَل ممنوعاً ومنهيّاً عنهُ نهياً شديداً، فهَل يجبُ هدمُهَا ومنعُ الصّلاةِ عندهَا أم لا؟ وإذا كانَ البناءُ فِي مَسبلةٍ [أي موقوفةً في سبيلِ اللهِ تعالى] كالبقيعِ وهوَ مانعٌ مِنَ الانتفاعِ بالمقدارِ المبنيّ عليهِ، فهَل هوَ غصبٌ يجبُ رفعهُ، لمَا فيهِ مِن ظلمِ المستحقّينَ ومنعهِم إستحقاقهم أم لا؟».

فأجابَ علماءُ المدينةِ بمَا يلي:

«أمَّا البناءُ على القبورِ فهوَ ممنوعٌ إجماعاً، لصحّةِ الأحاديثِ الواردةِ في منعهِ، و لهذا أفتى كثيرٌ منَ العلماءِ بوجوبِ هدمهِ، مستندينَ إلى حديثِ عليٍّ ـ رضيَ اللهُ عنهُ ـ أنَّهُ قالَ لأبي الهيّاجِ: ألا أبعثكَ على ما بعثنِي عليهِ رسولُ اللهِ، أن لا تَدعَ تمثالاً إلّا طمَستهُ، و لا قبراً مُشرفاً إلّا سوّيتَهُ)) . انتهى

  وبسببِ هذهِ الفتوى تمَّ هدمُ مراقدِ أئمَّةِ أهلِ البيتِ (عليهمُ السّلامُ) وقبورِ الصّحابةِ في البقيعِ. ومحلُّ الإستدلالِ في هذهِ الفتوى - كما رأيناهُ - هوَ عبارةُ: (ولا قبراً مُشرفاً إلّا سوّيتَهُ)، وبالتّحديدِ كلمةُ (سوّيتَهُ) التي فهمَ منهَا القومُ الهدمَ والمساواةَ بالأرضِ. فهلِ الفهمُ المذكورُ لهذهِ المفردةِ في الحديثِ صحيحٌ أم لا؟

عندَ مراجعةِ استعمالاتِ الفعلِ (سوّى) في كلامِ العربِ والقرآنِ الكريمِ نجدهُ يُستعمَلُ في موردينِ:

(1) يُستعمَلُ وصفاً لنفسِ الشّيءِ لا بالمقايسةِ إلى غيرهِ، فيتعدّى حينئذٍ بمفعولٍ واحدٍ، كمَا في قولهِ تعالى: (فَإذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ)، ونظيرهُ قولهُ سبحانهُ: (والّذي خَلَقَ فَسَوّى). ويكونُ المرادُ مِنَ التّسويةِ هُنا: تسويةَ الشّيءِ وإكمالهُ ورفعُ الاِعوجاجِ والنّقصِ عنهُ.

(2) يُستعمَلُ وصفاً للشيءِ بالإضافةِ إلى غيرهِ، فيتعدّى حينئذٍ إلى مفعولينِ: أحدهُمَا بلا واسطةٍ، والآخرُ بواسطةِ حرفِ الجرِّ، كمَا في قولهِ سُبحانَهُ: (إذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ). وأيضاً قولهُ سبحانهُ: (يَومَئِذ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللهَ حَديثاً). ففِي هاتينِ الآيتينِ نجدُ أنَّ التّسويةَ ليسَت وصفاً لنفسِ الشّيءِ بمَا هوَهوَ بَل بالقياسِ إلى غيرهِ ("ربِّ العالمينَ" فِي الآيةِ الأولى، و "الأرضُ" في الآيةِ الثانيةِ).

فإذا عرفتَ هذا وأنَّ معنى الكلمةِ يختلفُ بحسبِ وحدةِ المفعولِ وكثرتهِ، فاعلم أنَّ فعلَ التّسويةِ في الحديثِ - المستدّلِ بهِ في المقامِ - قدِ إكتفى بمفعولٍ واحدٍ؛ حيثُ قالَ: (سوّيتَهُ)، فتكونُ التّسويةُ وصفاً لنفسِ القبرِ، لا بالقياسِ إلى غيرهِ كالأرضِ، فيكونُ المرادُ كونَ القبرِ مستوياً لا محدّباً، ومسطّحاً لا مسنّماً، فالحديثُ يدلُّ على حرمةِ أو كراهةِ التّسنيمِ، ويدُلُّ بالملازمةِ على اِستحبابِ التّسطيحِ. فأينَ هذا البيانُ مِن حرمةِ البناءِ على القبورِ التي أفتى بها علماءُ الوهابيّةِ، خاتمةُ علماءِ الإسلامِ؟ 

وهذا الفهمُ للحديثِ لا نقتصرُ عليهِ نحنُ الإماميّةُ فقط، فهوَ فهمُ علماءِ المسلمينَ مِن مختلفِ المذاهبِ أيضاً: 

قالَ النّوويُّ في شرحهِ على صحيحِ مسلمٍ: ((قولهُ: «يأمرُ بتسويتهَا» وفي الرّوايةِ الأُخرى: «ولا قبراً مشرفاً إلاّ سوّيتهُ».

فيهِ: أنَّ السّنّةَ أن لا يُرفعَ القبرُ عنِ الأرضِ كثيراً ولا يُسنّمَ بَل يرفَعَ نحو شبرٍ ويسطّحَ، وهذا مذهبُ الشّافعيِّ ومَن وافقهُ، ونقلَ القاضِي عيّاض عَن أكثرِ العلماءِ أنَّ الأفضلَ عندهُم تسنيمهَا وهوَ مذهبُ مالكٍ))(1). انتهى

ولو تنزّلنَا معَ القومِ وقلنَا أنَّ المُرادَ بالتّسويةِ في الحديثِ هوَ الهدمُ والمساواةُ معَ الأرضِ، فستواجههُم مشكلةُ التّعارضِ بينَ هذا الحديثِ وبقيّةِ الأحاديثِ مِن نفسِ مصادرهِم، فماذا سيعملونَ حينهَا؟

فهَا هوَ البُخاريُّ يروي في صحيحهِ عَن سفيانَ التّمّارِ: "أنّهُ رأى قبرَ النّبيِّ – صلّى اللهُ عليهِ وسلّمَ - مسنّمَاً"(2). 

والتّسنيمُ هوَ الرّفعُ عنِ الأرضِ، جاءَ في "المِصباحِ المنيرِ": سنّمتُ القبرَ تسنيماً؛ إذ رفعتهُ عنِ الأرضِ كالسّنام (3). 

وهذا يعنِي أنَّ قبرَ رسولِ اللهِ – صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلّمَ – كانَ مرتفِعاً عنِ الأرضِ لا مسوَّى بهَا.

وأيضاً جاءَ في صحيحِ البخاريِّ عَن خارجةَ بنِ زيدٍ قالَ: "رأيتَني ونحنُ شبّانٌ في زمنِ عثمانَ، وإنَّ أشدّنَا وثبةً الذي يثبُ قبرَ عثمانَ بنِ مظعونٍ حتّى يجاوزهُ"(4). 

وهذا الأثرُ يُستفادُ منهُ إرتفاعُ قبرِ عثمانَ بنِ مظعونٍ أشباراً متعدِّدةً، حتَّى أنَّ أشدَّ الشّبّانِ قفزاً هوَ مَن يقدرُ على الوثوبِ والقفزِ حتّى يستطيعَ تجاوزَ قبرِ عثمانَ بنِ مظعونٍ، وهذا الاِرتفاعُ كانَ على مرأىً ومسمعٍ منَ الصّحابةِ، وفِي خلافةِ عثمانَ بنِ عفّانَ، بما فيهِم أميرُ المؤمنينَ عليٌّ – عليهِ السّلامُ –، الذي يروي أبو الهيّاجِ الحديثَ المتقدّمَ عنهُ.

 فلو كانَ المقصودُ بحديثِ أبي الهيّاجِ: "أنَّ لا أدعَ قبراً مشرّفاً إلّا سوّيتهُ"، هوَ التّسويةُ بالأرضِ، وأنَّ مساواةَ القبورِ بالأرضِ هوَ السّنّةُ المتّبعةُ فِي هذا الموضوعِ لما أبقى الصّحابةُ ولا الإمامُ عليٌّ (عليهِ السّلامُ) قبرَ النّبيِّ (صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلّمَ) وقبرَ عُثمانَ بنِ مظعونٍ مرتفعينِ عنِ الأرضِ؟

وليسَ قبرُ رسولِ اللهِ (صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلّمَ) أو قبرُ عثمانَ بنِ مظعونٍ هُمَا الوحيدانِ المرتفعانِ عنِ الأرضِ، بَل كذلكَ قبرُ أبي بكرٍ وعمرَ، وقبورُ المهاجرينَ والأنصارِ (5)، وقَد جاءَ عنِ الذّهبيِّ قولهُ: ((السّنّةُ تسنيمُ القبورِ)) (6)،أي رفعُهَا عنِ الأرضِ كالسّنامِ.

فإذن يوجدُ ها هُنا تعارضٌ بينَ حديثِ أبي الهيّاجِ المتقدّمِ - بحسبِ فهمِ الوهّابيّينَ وتفسيرهِم للحديثِ - وبينَ هذهِ الأحاديثِ، فكيفَ سيُحَلُّ التّعارضُ المذكورُ؟

هل يُصارُ هنا إلى العملِ بدليلٍ شرعيٍّ وإهمالِ الآخرِ، بينمَا القاعدةُ الأصوليّةُ تقولُ: الأصلُ في الدّليلِ هوَ الإعمالُ لا الإهمالُ، فإذا تعارضتِ النّصوصُ فيمَا بينهَا يُصارُ إلى حملِ كلِّ نصٍّ مِنَ النّصوصِ على وجهٍ منَ الوجوهِ، وتفسيرٍ منَ التّفسيراتِ، غيرَ الذي يُحمَلُ عليهِ النّصُّ الآخرُ؛ لأنَّ إعمالَ الدّليلينِ أولى مِن إهمالِ أحدهمَا بالكليّةِ (7)! 

هل ثمّةَ وجوهٌ يمكنُ حملُ حديثِ أبي هيّاجٍ عليهَا حتّى لا يكونَ معارِضاً لبقيّةِ الأحاديثِ الصّحيحةِ الواردةِ فِي كتبِ أهلِ السّنّةِ نفسهَا؟

الجوابُ: نعم، يوجدُ وجهانِ لذلكَ:

 الأوّلُ: أن يفسّرَ قولهُ: "ولا قبراً مشرِفاً إلّا سوّيتَهُ" بمعنَى عدّلتَهُ، كما هوَ الشّأنُ في قولهِ تعالى: (فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي)، فيكونُ معنَى الحديثِ ولا قبراً مشرفاً إلّا عدّلتهُ، أي جعلتهُ مسطّحاً، وبهذا المعنى فسّرَ النّوويُّ الحديثَ فِي شرحهِ على مسلمٍ، وكذلكَ فسّرهُ في كتابهِ "المجموعُ شرحُ المهذّبِ" حيثُ قالَ: (((الثّانيةُ) يستحبُّ أن يُرفعَ القبرُ عنِ الأرضِ قدرَ شِبرٍ هكذا نصَّ عليهِ الشّافعيُّ والأصحابُ واتّفقُوا عليهِ. إلّا أنَّ صاحبَ التّتمّةِ إستثنى فقالَ: إلّا أن يكونَ دفنهُ في دارِ الحربِ فيُخفَى قبرهُ بحيثُ لا يظهرُ مخافةَ أن يتعرّضَ لهُ الكفّارُ بعدَ خروجِ المسلمينَ (فإن قيلَ) هذا الذي ذكرتموهُ مخالفٌ لحديثِ عليٍّ رضيَ اللهُ عنهُ قالَ: "أمرنِي رسولُ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلّمَ أن لا ندعَ قبراً مشرفاً إلّا سوّيتهُ"، (فالجوابُ) ما أجابَ بهِ أصحابُنَا قالوا: لم يُرِدِ التّسويةَ بالأرضِ وإنّمَا أرادَ تسطيحهُ جمعاً بينَ الأحاديثِ))(8). انتهى 

الثّاني: أن يُحملَ قولهُ: "ولا قبراً مشرفاً إلّا سوّيتهُ" بأنَّ المقصودَ بهِ تسويةَ قبورِ المُشركينَ بالأرضِ، لا قبورَ المسلمينَ التي دلّت النّصوصُ على اِرتفاعهَا، والوجهُ في التّفسيرِ المذكورِ هوَ عطفُ التّمثالِ عليهَا.

قالَ العلّامةُ الماردينيُّ فِي "الجوهرِ النّقيِّ": ((ذكرَ فيهِ أمرهُ عليهِ السّلامُ عليّاً (أن لا يتركَ قبراً مشرفاً إلّا سوّاهُ ولا تمثالاً إلّا طمسهُ) - قلتُ - الظّاهرُ أنَّ المرادَ قبورُ المشركينَ بقرينةِ عطفِ التّمثالِ عليهَا وكانوا يجعلونَ عليهَا الأنصابَ والأبنيةَ فأرادَ عليهِ السّلامُ إزالةَ آثارِ الشّركِ)) (9). انتهى  

هذا كلَّهُ معَ ملاحظةِ أنَّ رسولَ اللهِ - صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلّمَ - كانَ يحضرُ جنائزَ المسلمينَ ويحضرُ دفنَهُم، ومعَ حضورهِ ورؤيتهِ لا تتوقّعُ المخالفةُ، وقَد ثبتَ عنِ الذّهبيِّ وغيرهِ أنَّ السّنّةَ هيَ تسنيمُ القبرِ - أي ارتفاعهُ عنِ الأرضِ - لا تسطيحهِ أو تسويتهِ بالأرضِ!!!

وجاءَ فِي كتابِ الفقهِ على المذاهبِ الأربعةِ ـ الذي يُطابقُ فتاوى أئمّةِ المذاهبِ الأربعةِ ـ ما يلي:

((ويندَبُ ارتفاعُ التّرابِ فوقَ القبرِ بقدرِ شبرٍ))(10). 

نعم، إختلفُوا في التّسنيمِ والتّسطيحِ، فأفتى أئمّةُ المذاهبِ الأربعةِ ـ باستثناءِ الشّافعيِّ ـ باستحبابِ تسنيمِ القبرِ(11).

قالَ الحافظُ إبنُ حجرٍ فِي شرحهِ على البخاريِّ: (( قولهُ: (مسنّمَاً) أي مرتفعَاً. (إلى أن قالَ:) ثمَّ الاختلافُ في ذلكَ في أيّهمَا أفضلُ لا في أصلِ الجوازِ، ورجّحَ المُزنيُّ التّسنيمَ مِن حيثُ المعنى بأنَّ المسطّحَ يشبهُ مَا يُصنَعُ للجلوسِ بخلافِ المسنّمِ، ورجّحهُ إبنُ قدامةَ بأنّهُ يشبهُ أبنيةَ أهلِ الدّنيا، وهوَ مِن شعارِ أهلِ البدعِ فكانَ التّسنيمُ أولى. ويرجّحُ التّسطيحُ ما رواهُ مسلمٌ مِن حديثِ فضالةَ بِن عبيدٍ أنّهُ أمرَ بقبرٍ فسوّيَ))(12). انتهى

والنّتيجةُ: أنَّ الفهمَ الذي ذهبتْ إليهِ هذهِ الجماعةُ الوهابيّةُ لحديثِ أبي الهيّاجِ مِن تسويةِ القبورِ بالأرضِ - بمعنَى مساواتِهَا بهَا- لم يسبقهُم إليهِ أحدٌ منَ المسلمينَ مِن قبلُ، وهوَ يعارِضُ مرويّاتِ أهلِ السّنّةِ أنفسهِم في المقامِ فضلاً عَن مخالفتهِ لمَا عليهِ علماءُ المذاهبِ الأربعةِ في الموضوعِ ذاتهِ.

أدلّةُ جوازِ بناءِ القُبَبِ على قبورِ الأنبياءِ والأولياءِ الصّالحينَ:

بعدَ أنِ اتّضحَ لنَا بطلانُ الفهمِ الذي جاءَ بهِ الوهّابيونَ لحديثِ أبي الهيّاجِ، وأنّهُ لا دليلَ على هدمِ القبورِ ومساواتِهَا بالأرضِ، نبرزُ سؤالاً الآنَ، ونقولُ: هَل ثمّةَ دليلٌ على جوازِ بناءِ القُببِ على قبورِ الأنبياءِ والأولياءِ الصّالحينَ؟

والجوابُ: توجدُ أدلّةٌ كثيرةٌ على ذلكَ، وسنقتصرُ هُنا على ذكرِ شيءٍ منهَا فقط: 

الدّليلُ الأوّلُ: قولهُ تعالى: ((قَالَ الَّذينَ غَلَبوا عَلَى أَمْرهمْ لَنَتَّخذَنَّ عَلَيْهم مَّسْجدًا))(13).

فهُنا نجدهُ سبحانهُ قَد أخبرنَا عنِ المؤمنينَ الذين قرّروا أن يتّخذوا مِن مضجعِ الفتيةِ المؤمنةِ أهلِ الكهفِ مسجداً يسجدونَ للهِ سبحانهُ فيهِ ويعبدونهُ. 

وهَا هيَ أقوالُ جملةٍ مِن مفسّري وعلماءِ المسلمينَ تشهدُ على أنَّ القائلينَ باتخاذِ المسجدِ على قبورِ أهلِ الكهفِ هُم مِنَ المؤمنينَ وليسَ منَ الكافرينَ: 

قالَ الرّازيُّ عندَ تفسيرهِ للآيةِ الكريمةِ في تفسيرهِ الكبيرِ: ((نعبدُ اللهَ فيهِ، ونستبقِي آثارَ أصحابِ الكهفِ بسببِ ذلكَ المسجدِ))(14). انتهى

وقالَ الشّوكانيُّ في تفسيرهِ: ((ذكرُ اتخاذِ المسجدِ يُشعِرُ بأنَّ هؤلاءِ الذين غلِبُوا على أمرهِم همُ المسلمونَ)) (15). انتهى

وعنِ الواحديِّ في تفسيرهِ: ((الذين غلِبُوا على أمرهِم، وهمُ المؤمنونَ وكانوا غالبينَ في ذلكَ الوقتِ)) (16). انتهى

وعن أبي السّعودِ في تفسيرهِ: ((قالَ الّذينَ غلِبُوا على أمرهِم وهمُ الملكُ والمسلمونَ)) (17). انتهى 

وقالَ النّسفيُّ في تفسيرهِ: ((قالَ الّذينَ غلِبُوا على أمرهِم) منَ المسلميَن ومَلكِهِم وكانوا أولى بهِم وبالبناءِ عليهِم (لنتخذنَّ) بابَ الكهفِ (مسجداً) يصلِّي فيهِ المسلمونَ ويتبرّكونَ بمكانهِم)) (18). انتهى

وعنِ القرطبيِّ في تفسيرهِ: ((قالَ الملكُ: ابنُوا عليهِم بنياناً; فقالَ الذين هُم على دينِ الفتيةِ: اتخذُوا عليهِم مسجداً)) (19). انتهى. ومنَ الواضحِ أنَّ دينَ الفتيةِ هوَ التّوحيدُ حسبَ الظّاهرِ القرآنيِّ، وهذا لا جدالَ فيهِ.

وعنِ البغويِّ في تفسيرهِ "معالمُ التّنزيلِ": ({وَأَنَّ السَّاعَةَ لاَ رَيْبَ فِيهَآ إِذْ يَتَنَـازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ}، قالَ إبنُ عبّاسٍ: يتنازعونَ في البنيانِ، فقالَ: المسلمونَ: نبنِي عليهِم مسجداً يصلّي فيهِ النّاسُ لأنّهُم على ديننَا، وقالَ المشركونَ: نبنِي عليهِم بُنياناً لأنَّهُم مِن أهلِ نسبِنَا)) (20).انتهى

وجاءَ عنِ الزّمخشريِّ :(({ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُواْ عَلَى أَمْرِهِمْ } مِنَ المسلمينَ ومَلكهِم وكانوا أولى بهِم وبالبِناءِ عليهِم { لَنَتَّخِذَنَّ } على بابِ الكهفِ {مَّسْجِدًا} يصلِّي فيهِ المسلمونَ ويتبرّكونَ بمكانهِم)) (21). انتهى 

وفِي "تفسيرِ الجلالينِ": ((ربُّهُم أعلمُ بهِم قالَ الّذينَ غلِبُوا على أمرهِم) أمرُ الفتيةِ وهمُ المؤمنونَ (لنتّخذنَّ عليهِم) حولهُم (مسجداً) يصلّى فيهِ، وفعلُ ذلكَ على بابِ الكهفِ)) (22). انتهى

وهكذا تجدُ غيرَ هؤلاءِ الكثيرَ مِن علماءِ أهلِ السّنّةِ ممَن يفسّرونَ قولهُ تعالى: (الّذينَ غلِبُوا على أمرهِم لنتّخذنَّ عليهِم مسجداً) بأنّهُم كانوا منَ المسلمينَ الموحّدينَ الّذينَ ظهرَ أهلُ الكهفِ في زمانهِم.

وهاهُنا سؤالٌ:

 حتّى يتمَّ الإستدلالُ بالآيةِ الكريمةِ في المقامِ نطرحُ السّؤالَ التّاليَ: هَل هذا الذّكرُ لهذا الموقفِ في القرآنِ الكريمِ يعدُّ إقراراً منهُ سبحانهُ لاتخاذِ المساجدِ على القبورِ، بحيثُ يكونُ بناءُ المساجدِ على القبورِ جائزاً شرعاً مِن خلالِ الإقرارِ المذكورِ أم أنَّهُ لمجرّدِ الذّكرِ فقط دونَ الإقرارِ؟

الجوابُ: المتتبِّعُ لطريقةِ القرآنِ الكريمِ يجدُ أنَّ المولى سبحانهُ إذا حكى عَن قومٍ قولاً أو فِعلاً لا يرتضيهِ أعقبَهُ ببيانِ اعتراضهِ عليهِ مباشرةً ولا يتأخّرُ فِي ذلكَ حتّى لا يقعَ المسلمونَ فِي شبهةِ الإقرارِ، ولنذكرَ بعضَ الشواهدِ على ذلكَ: 

1- فِي سورةِ البقرةِ، تجدهُ سبحانهُ يحكِي عنِ الذينَ ألقوا شبهةَ التّشابهِ بينَ البيعِ والرّبَا بقولهِم: (قالوا إنّمَا البيعُ مثلُ الرّبا)، فردَّ عليهِم سبحانهُ مباشرةً وقالَ: (وَأَحَلَّ اللهُ البَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا) (23).

2- في سورةِ المائدةِ، تجدهُ سبحانهُ يحكِي عنِ اليهودِ والنّصارى قولَهُم: (وقالتِ اليهودُ والنّصارى نحنُ أبناءُ اللهِ وأحبّاؤه)، فردَّ عليهِم سبحانهُ مباشرةً وقالَ لهُم: (قُل فلِمَ يعذّبكُم بذنوبكُم بَل أنتُم بشرٌ مِمَّن خلقَ) (24).

3- في سورةِ الأنعامِ، تجدهُ سبحانهُ يحكِي عنِ الكافرينَ قولَهُم: (إذ قالوا ما نزّلَ اللهُ على بشرٍ مِن شيءٍ)، فيردُّ عليهِم مباشرةً ويقولُ: (قُل مَن أنزلَ الكتابَ الذي جاءَ بهِ موسَى) (25).

4- فِي سورةِ الفرقانِ، تجدهُ سبحانهُ يحكِي عنِ الكافرينَ دعواهُم: (وقالَ الّذينَ كفرُوا إنْ هذا إلّا أفكٌ افتراهُ وأعانهُ عليهِ قومٌ آخرونَ) ،فيردُّ عليهِم مباشرةً ويقولُ: (فقَد جاؤوا ظلماً وزوراً) (26). 

وهكذا توجدُ شواهدُ وأمثلةٌ كثيرةٌ جدّاً فِي القرآنِ الكريمِ، يطولُ المقامُ بذكرهَا، تجدهُ سبحانهُ لا يتأخّرُ بالرّدِّ على الموردِ الذي لا يرتضيهِ مِن قولٍ أو فعلٍ منَ النّاسِ، ولا يوجدُ فِي القرآنِ الكريمِ كلِّهِ مثالٌ واحدٌ ذكرَ فيهِ سبحانهُ قولاً أو فعلاً باطلاً لجماعةٍ ولم يعقِّب عليهِ بشيءٍ، فالقرآنُ الكريمُ كتابُ هدايةٍ وبيانٍ ونورٍ وهوَ حجّةُ اللهِ على العالمينَ.

فتحصّلَ ممَّا تقدّمَ: أنَّ ذِكرَ اللهِ سبحانهُ لقولِ الذينَ غلِبُوا على أمرهِم باتخاذِ المسجدِ على قبورِ أهلِ الكهفِ، وهمُ المسلمونَ الموحّدونَ، وعدمُ تعقيبهِ بأيِّ اعتراضٍ أو منعٍ أو تحريمٍ لذلكَ هوَ إقرارٌ منهُ سبحانهُ لهذا الفعلِ ومشروعيّتهِ، وهذا أدلُّ دليلٍ على الجوازِ والحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ.   

مغالطةٌ فِي المقامِ وردُّهَا: 

وهُنا قَد يُبرِزُ البعضُ هذهِ المغالطةَ في المقامِ ويقولُ: بأنَّ بِناءَ المساجدِ على القبورِ وإن كانَ أمراً شائعاً في شريعةِ مَن قبلِنَا ولكنّهُ في شريعتِنَا محرّمٌ وممنوعٌ وذلكَ لمَا وردَ في الصّحيحينِ (البخاريِّ ومسلمٍ) مِن أنَّ النّبيَّ (صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلّمَ) لعنَ اليهودَ والنّصارى لاِتخاذِ قبورِ أنبيائهِم مساجدَ.

وهذهِ المُغالطةُ كانَ قَد طرحهَا إبنُ كثيرٍ في كتابهِ "البدايةُ والنّهايةُ" عندَ تعرّضهِ لقصّةِ أصحابِ الكهفِ، فقالَ: ((واختلفُوا في أمرهِم فقائلونَ يقولونَ: ابنُوا عليهِم بنياناً أي سدُّوا عليهِم بابَ الكهفِ لئلّا يخرجُوا أو لئلّا يصلَ إليهِم ما يؤذيهِم وآخرونَ وهمُ الغالبونَ على أمرهِم قالوا: لنتّخذنَّ عليهِم مسجداً أي معبداً يكونُ مباركاً لمجاورتهِ هؤلاءِ الصّالحينَ)).

ثمَّ قالَ: ((وهذا كانَ شائعاً فيمَن كانَ قبلنَا فأمَّا فِي شرعِنَا فقَد ثبتَ فِي الصّحيحينِ عَن رسولِ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلّمَ أنَّهُ قالَ: لعنَ اللهُ اليهودَ والنّصارى اِتخذوا قبورَ أنبيائهِم مساجدَ)) (27). انتهى

أقولُ: هذا الكلامُ مِن إبنِ كثيرٍ ظاهرُ التّهافتِ، لأنَّهُ إذا كانَ فِعلُ هؤلاءِ القومِ باتخاذهِم المسجدَ على قبورِ أصحابِ الكهفِ مشروعاً فِي شريعتهِم، وهيَ شريعةُ اللهِ، فكيفَ يكونونَ ملعونينَ حسبَ أحاديثِ رسولِ اللهِ فِي شرعنَا وبالتّالِي يصبحُ شرعُ اللهِ يلعنُ بعضهُ بعضاً، وهذا ظاهرُ التّهافتِ والبطلانِ!

الأمرُ الذي يكشفُ عَن أنَّ هذهِ الأحاديثَ - الواردةَ في الصّحيحينِ - لم تكُن تتحدّثُ عَن موضوعِ بناءِ المساجدِ على القبورِ، الذي هوَ موضوعُ الآيةِ الشّريفةِ، وإنَّمَا كانَت تتحدّثُ عَن حالةٍ مذمومةٍ شرعاً مِن فعلِ النّاسِ لا مِنَ الجوازِ الشّرعيِّ فِي  الموضوعِ، فمَا هيَ الحالةُ المذكورةُ؟

لا نذهبُ بعيداً ولنرجعَ إلى أقوالِ شارحِي هذهِ الأحاديثِ في الصّحاحِ والسّننِ ليخبرونا عنهَا: 

أ- يقولُ إبن حجرٍ العسقلانيِّ في "فتحِ الباري شرحُ صحيحِ البخاري": ((إنَّمَا صوَّرُوا أوائلهُم الصّورَ ليستأنسُوا بهَا، ويتذكّرُوا أفعالَهُم الصّالحةَ فيجتهدُوا كاجتهادهِم، ثمَّ خلفَ مِن بعدهِم خلوفٌ جَهلوا مرادهُم ووسوسَ لهُم الشّيطانُ أنَّ أسلافهُم كانوا يعبدونَ هذهِ الصّورَ ويعظّمونهَا (إلى أن يقولَ) قالَ البيضاويُّ: لمَّا كانتِ اليهودُ والنّصارى يسجدونَ لقبورِ الأنبياءِ تعظيماً لشأنهِم، ويجعلونهَا قبلةً يتوجّهونَ فِي الصّلاةِ نحوهَا، واتّخذوهَا أوثاناً، لعنهُم ومنعَ المسلمينَ عَن مثلِ ذلكَ. فأمَّا مَنِ اتّخذَ مسجداً في جوارِ صالحٍ وقصدَ التّبرّكَ بالقربِ منهُ، لا للتّعظيمِ ولا للتّوجهِ نحوهُ، فلا يدخلُ في الوعيدِ المذكورِ)) (28). انتهى 

ب - ويقولُ النّوويُّ فِي شرحهِ على صحيحِ مسلمٍ: ((قالَ العلماءُ إنّمَا نهى النّبيُّ عنِ اتخاذِ قبرهِ وقبرِ غيرهِ مسجداً خوفاً منَ المُبالغةِ في تعظيمهِ والاِفتتانِ بهِ، فربّمَا أدَّى ذلكَ إلى الكفرِ، كمَا جرى لكثيرٍ منَ الأُممِ الخاليةِ. ولمَّا احتاجتِ الصّحابةُ والتّابعونَ إلى زيادةٍ في مسجدِ رسولِ اللهِ ـ صلَّى الله عليهِ وسلّمَ ـ حينَ كثرَ المسلمونَ، وامتدّتِ الزّيادةُ إلى أن دخلتْ بيوتُ أُمّهاتِ المؤمنينَ فيهِ، ومنهَا حجرةُ عائشةَ، ومدفنُ رسولِ اللهِ ـ صلَّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلّمَ ـ وصاحبَيهِ، بنَوا على القبرِ حيطاناً مرتفعةً مستديرةً حولهُ لئلّا يظهرَ في المسجدِ فيصلِّي إليهِ العوامُ ويعودُ المحذورُ. ولهذا قالت عائشةُ في الحديثِ عنهُ: ولولا ذلكَ لأبرزَ قبرهُ، غيرَ أنّهُ خشيَ أن يُتَّخذَ مسجداً)) (29). انتهى 

ج- ويقولُ السّنديُّ في شرحهِ على سننِ النّسائيِّ: ((اِتخذوا قبورَ أنبيائهِم مساجدَ، أي قبلةً للصّلاةِ ويصلُّونَ إليهَا، أو بنوا مساجدَ يصلّونَ فيَها، ولعلَّ وجهَ الكراهةِ أنّهُ قَد يقضِي إلى عبادةِ نفسِ القبرِ.

إلى أن يقولَ: يحذّرُ النّبيُّ أُمّتهُ أن يصنعُوا بقبرهِ ما صنعَ اليهودُ والنّصارى بقبورِ أنبيائهِم منِ اتخاذِ تلكَ القبورِ مساجد، إمَّا بالسّجودِ إليهَا تعظيماً لهَا، أو بجعلهَا قبلةً يتوجّهونَ في الصّلاةِ نحوهَا)) (30). انتهى

د- ويقولُ الشّيخُ عليٌّ القاري فِي "مِرقاةِ المفاتيحِ شرحُ مشكاةِ المصابيحِ": ((سببُ لعنهِم إمَّا لأنّهُم كانوا يسجدونَ لقبورِ أنبيائهِم تعظيماً لهُم، وذلكَ هوَ الشّركُ الجليُّ، وإمَّا لأنّهُم كانوا يتخذونَ الصّلاةَ للهِ تعالى في مدافنِ الأنبياءِ، والسجودَ على مقابرهِم، والتّوجّهَ إلى قبورهِم حالَ الصّلاةِ، نظراً منهُم بذلكَ إلى عبادةِ اللهِ، والمبالغةُ في تعظيمِ الأنبياءِ، وذلكَ هوَ الشّركُ الخفيُّ. فنهى النّبيُّ أُمتهُ عَن ذلكَ إمَّا لمشابهةِ ذلكَ الفعلِ سنّةَ اليهودِ، أو لتضمّنهِ الشّركَ الخفيَّ. كذا قالَ بعضُ الشّرّاحِ مِن أئمّتنَا ويؤيّدهُ ما جاءَ في روايةِ: يحذّرُ مثلَ الّذي منعُوا)) (31). انتهى

فهذهِ البياناتُ مِن هؤلاءِ العلماءِ تبيِّنُ بشكلٍ واضحٍ وصريحٍ بأنَّ هؤلاءِ الملعونينَ في حديثِ رسولِ اللهِ (صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلّمَ) همُ الذين كانوا يعبدونَ صورَ عظمائهِم، ويسجدونَ لقبورهِم ويتّخذونهَا قبلةً، وهذا أجنبيٌّ بالمرّةِ عَن موضوعِ بناءِ المساجدِ على القبورِ، الذي هوَ موضوعُ الآيةِ المتقدِّمةِ مِن سورةِ الكهفِ، وحتّى التّعليلُ بخشيةِ العبادةِ منتفٍ بحقِّ المسلمينَ؛ لأنّهُ لا يوجدُ مسلمٌ واحدٌ يعبدُ قبراً؛ فها هيَ مساجدُ المسلمينَ التي فيهَا قبورُ الأنبياءِ والصّالحينَ تملأُ الأرضَ لا تجدُ فيهَا مسلماً واحداً يعبدُ صاحبَ القبرِ أو يتّخذهُ قبلةً يصلِّي إليهِ دونَ قبلةِ المسلمينَ. فالخلطُ بينَ موضوعِ الآيةِ الشّريفةِ وبينَ هذهِ الأحاديثِ واضحٌ جدّاً، وهوَ جهلٌ مركّبٌ كانَ على صاحبهِ التّخلّصُ منهُ بالعلمِ والتّدبّرِ.

الدّليلُ الثّانِي على جوازِ البناءِ على القبورِ: هوَ الحديثُ الشّريفُ المرويُّ عَن أبي بكرٍ، قالَ سمعتُ رسولَ اللهِ (صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلّمَ) يقولُ: (ما قبضَ اللهُ نبيَّاً إلّا في الموضعِ الذي يحبُّ أن يدفنَ فيهِ) (32) والنّبيُّ (صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلّمَ) قَد دُفِنَ بالاتّفاقِ في غرفةِ عائشةَ، وهيَ مبنيّةٌ وذاتُ سقفٍ، وحاشا لرسولِ اللهِ أن يحبَّ شيئاً يبغضهُ اللهُ، كمَا حاشا للهِ أن يجعلَ مثوى نبيِّهِ الأقدسِ (صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلّمَ) في مكانٍ يحرمُ الدّفنُ فيهِ أو يستحقُّ اللّعنةَ عليهِ فاعلهُ.

خاصّةً إذا علِمنَا أنَّ النّبيَّ (صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلّمَ) عندمَا قالَ هذا الحديثَ كانَ يعرفُ المكانَ الذي سيقبَضُ فيهِ، كمَا يشيرُ إلى ذلكَ بعضُ أعلامِ أهلِ السّنّةِ. قالَ الإمامُ الطّحاويُّ فِي كتابهِ "مشكلُ الآثارِ": ((وفي هذا الحديثِ معنىً يجبُ أن يوقفَ عليهِ وهوَ قولهُ صلّى اللهُ عليهِ وسلّمَ ما بينَ قبرِي ومنبرِي روضةٌ مِن رياضِ الجنّةِ على ما فِي أكثرِ هذهِ الآثارِ وعلى مَا فِي سواهُ منهَا ما بينَ بيتِي ومنبرِي روضةٌ مِن رياضِ الجنّةِ فكانَ تصحيحُهمَا يجبُ بهِ أن يكونَ بيتهُ هوَ قبرهُ ويكونُ ذلكَ علامةً مِن علاماتِ النّبوّةِ جليلةُ المقدارِ لأنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ قَد أخفَى على كلِّ نفسٍ سِواهُ صلّى اللهُ عليهِ وسلّمَ الأرضَ الّتي يموتُ فيهَا بقولهِ جلَّ وعزَّ فِي كتابهِ: "ومَا تدرِي نفسٌ بأيِّ أرضٍ تموتُ"، فأعلمهُ عزَّ وجلَّ الموضعَ الذي فيهِ يموتُ والموضعَ الذي فيهِ قبرهُ حتّى علمَ ذلكَ فِي حياتهِ وحتّى أعلمهُ مَن أعلمهُ مِن أمّتهِ فهذهِ منزلةٌ لا منزلةَ فوقهَا زادهُ اللهُ شرفاً وخيراً)) (33). انتهى

 وهنا قَد يقولُ البعضُ: إنَّ هذا الجوازَ المستفادَ مِن هذا الحديثِ بجعلِ القبرِ في موضعٍ عليهِ بناءٌ هوَ خاصٌّ برسولِ اللهِ (صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلّمَ) ولا يتعدّاهُ إلى غيرهِ.

قُلنَا: دعوى الخصوصيّةِ هذهِ مُنتفيةٌ هُنا؛ لأنَّهُ قَد دفِنَ إلى جانبِ النّبيِّ (صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلّمَ) صاحباهُ أبو بكرٍ وعمرُ أيضاً، وهذا الأمرُ قد تمَّ على مرأىً ومسمعٍ منَ الصّحابةِ أجمعينَ، ولم نسمَع أحداً منَ الصّحابةِ أنكرَ ذلكَ، ولا يُعقلُ أنَّ الصّحابةَ جميعهُم لا يعرفونَ الحلالَ والحرامَ في هذا الموضوعِ ويجتمعونَ على الباطلِ ولا ينكرونهُ!

ولا أجدنِي هنا بحاجةٍ للإجابةِ على الإسفافِ الذي وقعَ فيهِ البعضُ حينَ سقطَ بينَ يديهِ هذا الدّليلُ ولم يجِدْ ما يرّدُّ بهِ عليهِ سوى أن يقولَ: النّبيُّ لم يُبْنَ على قبرهِ، وإنّمَا هوَ دُفِنَ في بيتهِ، الذي هوَ بناءٌ في الأصلِ، وهذا فرقٌ بينَ الموردينِ (34). 

ولا أدري - بحسبِ دعوى التّفريقِ هذهِ بينَ البناءِ المسبَقِ وعدمهِ - هل تراهُ يمكنُ للنّاسِ أن يبنُوا البناءَ أوّلاً ثمَّ يقبُروا موتاهُم فيهِ فتنتفِي بذلكَ حرمةُ البناءِ على القبورِ في حقّهِم لو كانَت!

وهل تراهُ يمكنُ لفقيهٍ واحدٍ عارفٍ بأحكامِ الشّريعةِ وعللِهَا أن يصرّحَ بمثلِ هذهِ الفتوى؟

إنَّ شرَّ البليّةِ هوَ ما يضحكُ حقّاً!

الدّليلُ الثّالثُ: إقرارُ النّبيِّ (صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلّمَ) لمدفنِ نبيِّ اللهِ إسماعيلَ وأمِّهِ هاجرَ في الحجرِ - المعروفِ بحجرِ إسماعيلَ - داخلَ المسجدِ الحرامِ، وإقرارهُ (صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلّمَ) حجّةٌ؛ إذ لو كانَ البناءُ على القبرِ أمراً مُنكراً واتّخاذُ القبورِ مساجدَ ملعونٌ صاحبُهُ لمَا أبقى النّبيُّ (صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلّمَ) على هذا البناءِ في أقدسِ بقعةٍ في الأرضِ وهيَ المسجدُ الحرامُ؛ إذ كانَ بإمكانهِ هدمُ الحجرِ مِن فوقِ القبرِ ومساواتهُ بالأرضِ أو نقلُ قبرِ إسماعيلَ (عليهِ السّلام) مِن هذا المكانِ إلى مكانٍ آخرَ بعدَ معرفتنَا بأنَّ أجسادَ الأنبياءِ لا تَبلى ولا تأكلهَا الأرضُ.

تقولُ: وهَل ثبتَ أنَّ هذا الحجرَ المعروفَ في المسجدِ الحرامِ بحِجرِ إسماعيلَ هوَ مدفنُ نبيِّ اللهِ إسماعيلَ وأمِّهِ هاجرَ؟

أقولُ: نصَّ على ذلكَ جمعٌ غفيرٌ مِن سَدنةِ التّأريخِ وكتّابُ السّيرِ الكبارِ عندَ أهلِ السّنّةِ والجماعةِ، أمثالُ: إبنِ إسحاقَ، وابنِ سعدٍ، والذّهبيِّ، وابنِ عساكرَ، وابنِ هشامٍ، والطّبريِّ، وابنِ يسارٍ البصريِّ، وابنِ خلدونٍ، والحمويِّ، والفاكهيِّ، وغيرِهِم (35).

وقَد أخرجَ عبدُ الرّزّاقِ بسندٍ صحيحِ عَن عبدِ اللهِ بنِ الزّبيرِ قولَهُ: إنَّ هذا المُحدودبَ قبرُ عذارى بناتِ إسماعيلَ، وهوَ المكانُ المرتفعُ، مقابلَ بابِ بني سهمٍ، نحوَ الرّكنِ (36).

قالَ الفاكهيُّ فِي "أخبارِ مكّةَ" بعدَ روايتهِ لهذا الأثرِ: قالَ إبنُ أبي عمرَ في حديثهِ: فسُئِلَ سفيانُ [الرّاوي لهذا الأثرِ]: أيُّ مكانٍ هوَ؟ فأشارَ بيدهِ إلى الحجرِ مستقبلاً الرّكنَ الغربيَّ الذي يلي الرّكنَ اليمانيَّ (37). انتهى 

معَ أنّنَا فِي هذهِ المسألةِ - أي كونِ الحجرِ هوَ قبرَ نبيِّ اللهِ إسماعيلَ وعائلتهِ - لا نحتاجُ إلى حديثٍ مرفوعٍ أو موقوفٍ، لأنّهَا مسألةٌ تاريخيّةٌ وليسَتْ مِن بابِ الأحكامِ الشّرعيّةِ، وفي مثلهَا تَكفينا شهرتُهَا التّاريخيّةُ وإرسالُ المؤرّخينَ لهَا في كتبهِم إرسالَ المسلّماتِ.

الدّليلُ الرّابعُ: الوسائلُ لهَا حكمُ المقاصدِ، وهذهِ قاعدةٌ فقهيّةٌ تسالمَ على العملِ بهَا جميعُ الفقهاءِ.

قالَ القرافي في "الفروقِ": ((القاعدةُ أنَّ الوسائلَ تتّبعُ المقاصدَ في أحكامِهَا، فوسيلةُ المحرّمِ محرّمةٌ، ووسيلةُ الواجبِ واجبةٌ، وكذلكَ بقيّةُ الأحكامِ)) (38). انتهى.

وجاءَ عنِ الطّوفيِّ قولهُ: ((ومِن كلّياتِ القواعدِ: أنّ الوسائلَ تتبَعُ المقاصدَ)) (39). انتهى

فهذهِ القاعدةُ تقولُ: ما لا يتوصَّلُ إلى المطلوبِ إلّا بهِ فهوَ مطلوبٌ شرعاً، هذا وقَد ثبتَ فِي الشّريعةِ أنَّ حرمةَ الميّتِ حرمتهُ حيّاً، فقَد أخرجَ أحمدُ وأبو داودَ وغيرهمَا مِن حديثِ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله َسَلَّمَ) قالَ: ( كَسْرُ عَظْمِ الْمَيِّتِ كَكَسْرِهِ حَيًّا) (40).

قالَ إبنُ حجرٍ فِي الفتحِ: ((يُستفادُ منهُ أنَّ حرمةَ المؤمنِ بعدَ موتهِ باقيةٌ كمَا كانَت في حياتهِ)) (41). انتهى 

وقَد ثبتَ أيضاً النّهيُّ عنِ الجلوسِ على القبرِ والإستنادِ إليهِ والمشيّ عليهِ، كمَا يروي ذلكَ أحمدُ فِي مسندهِ بإسنادٍ صحيحٍ عَن عمرو بنُ حزمٍ قالَ: رآنِي رسولُ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلّمَ مُتّكئاً على قبرٍ. فقالَ: (لا تؤذِ صاحبَ هذا القبرِ) (42).

وكما يروي أبو هريرةَ عنِ النّبيِّ (صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلّمَ) قولهُ: (لأن يجلسَ أحدكُم على جمرةٍ فتحرقَ ثيابهُ فتخلُصَ إلى جلدهِ خيرٌ لهُ مِن أن يجلسَ على قبرٍ) (43). رواهُ مسلمٌ وأحمدُ وأبو داودَ وغيرهُم.

ومعَ كلِّ هذهِ المقاصدِ والغاياتِ في أحكامِ الشّريعةِ بالنّسبةِ للقبورِ تأخذُ الوسائلُ المُفضيةُ إلى تطبيقِهَا حكمَهَا، بمعنَى: إذا كانتِ المحافظةُ على حرمةِ الميّتِ وعدمُ اِنتهاكِ حرمتهِ مِن تنجيسٍ أو نبشٍ أو كسرِ عظامٍ أو الحيلولةِ دونَ الجلوسِ أو المشيّ عليهِ يلزمُ منهُ أن يُتّخذَ بناءٌ يحاطُ بهِ القبرُ حتّى تتحقّقَ هذهِ الغاياتُ الشّرعيّةُ ويكونُ حكمُ هذا البناءِ على القبرِ واجباً شرعاً.

ولا نحتاجُ هنا إلى كثيرِ بيانٍ للكشفِ عمَّا عليهِ الواقعُ المزري للقبورِ التي لا يوجدُ عليهَا بناءٌ مِن هتكٍ لحرمةِ الميّتِ بتنجيسهَا مِن قبلِ الحيواناتِ ودوابِّ الأرضِ التي لا يحولُ بينهَا وبينَ التّغوّطِ والتّبوّلِ على القبورِ شيءٌ، وكذلكَ مِن قبلِ بعضِ النّاسِ الذين لا يتورّعونَ عنْ رمي الأوساخِ عليهَا فضلاً عنِ المشي عليهَا بأحذيتِهِم فضلاً عنِ الجلوسِ والاتّكاءِ عليهَا، وكلُّ هذا محرَّمٌ شَرعاً بنصِّ الأحاديثِ المتقدِّمةِ، وليسَ واقعُ مقبرةِ البقيعِ المزري في المدينةِ المنوّرةِ (التي هدمَ الوهّابيّونَ مراقدَ الأئمّةِ والصّحابةِ والأولياءِ فيهَا) إلّا شاهداً حيَّاً لهذهِ القضيّةِ، فكلُّ مَا ذكرناهُ مِن حالاتِ الهتكِ لحرمةِ الميّتِ هذهِ يجدهُ الزّائرُ لهذهِ المقبرةِ التي تضمُّ بينَ جنباتهَا قبورَ ساداتِ الخلقِ والدّعاةِ إلى الحقِّ منَ الأئمّةِ الطّاهرينَ  (عليهمُ السّلام) والصّحابةِ المنتجبينَ (رضوانُ اللهِ عليهِم أجمعينَ) ولا حولَ ولا قوّةَ إلّا باللهِ العليِّ العظيمِ!

بناءُ القُببِ على القبورِ جائزٌ عندَ المذاهبِ الإسلاميّةِ: 

بقيَ أن نشيرَ في نهايةِ البحثِ إلى فتاوى المذاهبِ الإسلاميّةِ في جوازِ بناءِ القُببِ على القبورِ: 

ففِي المذهبِ المالكيِّ صرَّحَ كلٌّ مِن إبنِ رشدٍ، وابنِ القصّارِ، وابنِ الحاج، والمسناويّ، والبرزليّ، والسجلماسيّ، والعميريّ، والفاسيّ، وجسوسٍ بأنَّ بناءَ القُببِ والأبنيةِ في الأرضِ المملوكةِ للميِّتِ، أو المملوكةِ لأحدٍ، أو المأذونِ في الدّفنِ فيهَا، أو في أرضٍ مواتٍ لا يملكُهَا أحدٌ، كلّهُ جائزٌ ولا إشكالَ فيهِ، وإليكَ أقوالهُم:

- قالَ إبنُ رشدٍ: وإن كانَ بناؤها في مُلكِ بانيهَا؛ فحكمُهَا حكمُ بناءِ الدّارِ (44). 

 - وقالَ إبنُ القصّارِ: لا يكرهُ بل يجوزُ (45). 

- وقالَ إبنُ الحاجِّ: البناءُ في القبورِ غيرُ منهيٍّ عنهُ، إذا كانَ في مُلكِ الإنسانِ نفسهِ (46). 

- وقالَ المسناويّ في البناءِ على قبرِ الرّجلِ الصّالحِ للتّمييزِ والتّعظيمِ لقدرهِ ومقامهِ: البناءُ على مَن ذكرَ بقصدِ ما ذكرَ جائزٌ مطلوبٌ؛ إذا كانَ في أرضٍ مملوكةٍ للبانِي أو لغيرهِ، وأذِنَ للبانِي فيهَا، أو مُباحةٍ لا ملكَ لأحدٍ عليهَا (47).

- وقالَ البرزليّ: مشاهدُ العلماءِ وأهلِ الصّلاحِ فحكمُهَا حكمُ البيوتِ، فمَا جازَ في البيوتِ جازَ فيهَا، ومَا لا فلا (48).

- وقالَ السّجلماسيّ في شرحهِ على العملِ الفاسيّ: ممَّا جرى بهِ العملُ بفاس وغيرهَا تَحليةُ قبورِ الصّالحينَ بالبناءِ عليهَا تعظيماً وجوازُ البناءِ على القبورِ منقولٌ عنِ إبنِ القصّارِ، وإذا كانَ ذلكَ معَ مُطلقِ القبورِ- معَ عدمِ قصدِ المباهاةِ - كانَ البناءُ بقصدِ تعظيمِ مَن يعظِّمُ شرعاً أجوّزهُ (49).

- وقالَ العميريّ فِي شرحهِ على العملِ الفاسي: والعملُ بالبناءِ على القبورِ جائزٌ أيضاً، وقد كتبَ شيخُ شيوخنَا سيّدي عبدُ القادرِ الفاسيّ: ولم يزلِ النّاسُ يبنونَ على مقابرِ الصّالحينَ وأئمّةِ الإسلامِ شرقاً وغرباً، كمَا هوَ معلومٌ، وفِي ذلكَ تعظيمُ حرماتِ اللهِ، واجتلابُ مصلحةِ عبادِ اللهِ، لإنتفاعهِم بزيارةِ أوليائهِ، ودفعِ مفسدةِ المشي والحفرِ، وغيرِ ذلكَ، والمحافظةِ على تعيينِ قبورهِم وعدمِ إندراسهَا، ولو وقعتِ المحافظةُ منَ الأممِ المتقدّمةِ على قبورِ الأنبياءِ لم تندرِسْ وتُجهَلْ، بَل إندرسَ أيضاً كثيرٌ مِن قبورِ الأولياءِ والعلماءِ؛ لعدمِ الإهتمامِ بهِم وقلّةِ الإعتناءِ بأمرهِم (50).

- وقالَ جسوس في شرحِ الرّسالةِ: ويكرهُ البناءُ على القبورِ، وقد يحرُم وقد يجوزُ إذا كانَ للتّمييزِ، ويستثنَى قبورُ أهلِ العلمِ والصّلاحِ فيندبُ لينتفعَ بزيارتهِم (51).

ومنَ الحنابلةِ: قالَ إبنُ مفلحٍ في كتابِ الفروعِ مِن فقهِ الحنابلةِ: وذكرَ صاحبُ المستوعبِ والمحرّرِ: لا بأسَ بقبّةٍ وبيتٍ، وحظيرةٍ، في ملكهِ؛ لأنَّ الدّفنَ فيهِ معَ كونهِ كذلكَ مأذونٌ فيهِ. ثمَّ قالَ إبنُ مفلِحٍ: قالَ في الفصولِ: القبّةُ والحظيرةُ والتّربةُ إن كانَ في ملكهِ فعلَ ما شاءَ (52). 

 ومنَ الشّافعيّةِ: قالَ إبنُ حجرٍ الهيثميِّ في "التّحفةِ" في بابِ الوصيّةِ: وإذا أوصَى لجهةٍ عامّةٍ فالشّرطُ أن لا يكونَ معصيةً، ثمَّ قالَ: وشملَ عدمَ المعصيةِ القربةُ؛ كبناءِ مسجدٍ ولو مِن كافرٍ، ونحوَ قبّةٍ على قبرٍ في غيرِ مسبّلةٍ (53).

وقد أفتَى العزُّ بنُ عبدِ السّلامِ بهدمِ القبابِ التي في القرافةِ، واستثنى مِن ذلكَ قبّةَ الإمامِ الشّافعيِّ؛ لأنَّهَا مبنيّةٌ فِي دارِ إبنِ عبدِ الحكمِ (54).

ومِمَّا جاءَ عَن مفتِي جمهوريّةِ مصرَ العربيّةِ الشّيخُ شوقِي علّام فِي بيانٍ لهُ، تعقيباً على ما قامَ بهِ الدّواعشُ المارقونَ مِن هدمِ قبورِ الأنبياءِ والصّالحينَ في مدينةِ نينوى بعدَ إحتلالهَا، ما نصّهُ: ((إنَّ ما يقومُ بهِ هذا التّنظيمُ مِن اعتداءٍ على قدسيّةِ الأنبياءِ وحرمةِ الأضرحةِ والمقاماتِ ونبشِ قبورِ الأنبياءِ والصّالحينَ، لا يقرّهُ أيُّ مذهبٍ مِن مذاهبِ المسلمينَ وهوَ عملٌ لا علاقةَ لهُ بالإسلامِ ولا بأيِّ دينٍ منَ الأديانِ، بل وتخطّى كذلكَ كلَّ حدودِ الطّبائعِ الإنسانيّةِ السّويّةِ التي تحترمُ حرمةَ الأمواتِ وتعلِي مِن شأنِ مقدّساتِهَا)). انتهى

وبعدَ كلِّ ما تقدَّمَ أقولُ: أنَّى يأفكُ الوهابيّونَ ومَن لفَّ لفّهُم بأنَّ بناءَ القُببِ على قبورِ الأنبياءِ والأولياءِ لا يجوزُ، مستندينَ في ذلكَ إلى أدلّةٍ أقلُّ ما يقالُ فيهَا أنَّهَا معارضَةٌ بأدلّةٍ كثيرةٍ صحيحةٍ تناهِضُ ما ذهبُوا إليهِ، وهذهِ أقوالُ علماءِ المذاهبِ الإسلاميّةِ تدفعُ في صدورهِم! 

لا نقولُ هُنا سِوى قولهِ تعالى :((أمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا) (55) صدقَ اللهُ العليُّ العظيمُ ولا حولَ ولا قوّةَ إلّا باللهِ!

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ     

(1) شرحُ النّووي على مسلمٍ 1: 312.

(2) صحيحُ البخاري 3 :372، كتابُ الجنائزِ، بابُ ما جاءَ في قبرِ النّبيِّ – صلّى اللهُ عليهِ وسلّمَ – وأبي بكرَ. 

(3) المصباحُ المنيرُ 1: 344، مادة سنم.

(4) صحيحُ البخاري 2: 98، كتابُ الجنائزِ، بابُ الجريدةِ على القبرِ.

(5) انظُر: شرحُ ابنُ بطالٍ على صحيحِ البخاري 3:375، سننُ أبي داودَ، رقم 3218. 

(6) تنقيحُ التّحقيقِ في أحاديثِ التّعليقِ :438.

(7) انظُر: نهايةُ السّولِ شرحُ منهاجِ الوصولِ للإسنوي الشّافعي 3: 158.

(8) المجموعُ شرحُ المهذّبِ  5 :259.

(9) الجوهرُ النّقيُّ في الرّدِّ على البيهقيِّ 4: 2.

(10) الفقهُ على المذاهبِ الأربعةِ 1:420.

(11) انظر المصدرَ السّابقَ.

(12) فتحُ الباري شرحُ صحيحِ البخاري 3: 204.

(13) سورةُ الكهفِ:21.

(14) تفسيرُ الرّازي 21: 105.

(15) فتحُ القديرِ 277:3.

(16) تفسيرُ الواحدي 2: 657.

(17) تفسيرُ أبي السّعودِ العمادي 5: 215.

(18) تفسيرُ النّسفي 8:3.

(19) تفسيرُ القرطبي 378:10.

(20) تفسيرُ البغوي 5: 161.

(21) الكشّافُ - للزّمخشري- 2 :478.

(22) تفسيرُ الجلالينِ - جلالُ الدّينِ المحلّى وجلالُ الدّينِ السّيوطي-: 383.

(23) سورةُ البقرةِ: 275.

(24) سورةُ المائدةِ: 33.

(25) سورةُ الأنعامِ: 91.

(26) سورةُ الفرقانِ:4.

(27) البدايةُ والنّهايةُ 2: 138.

(28) فتحُ الباري 1: 428. 

(29) شرحُ النّوويِّ على مسلِمٍ 22: 66.

(30) شرحُ السّنديِّ على النّسائي 2: 41. 

(31) مرقاةُ المفاتيحِ في شرحِ مشكاةِ المصابيحِ 1: 456. 

(32) سننُ التّرمذيِّ - تحقيقُ الألباني - :241، 242، حكمَ عليهِ الألباني بالصّحةِ، وقالَ فِي كتابهِ "أحكامُ الجنائزِ: 137" عنهُ: ((حديثٌ ثابتٌ بمَا لهُ مِنَ الطّرقِ والشّواهدِ)). انتهى 

(33) بيانُ مشكلِ الآثارِ -الإمامُ الطّحاوي- 4: 72.

(34) رياضُ الجنّةِ - مقبلُ بنُ هادي الوادعي -:269.

(35) انظُر: سيرةُ إبنِ اسحاقَ 2: 86، طبقاتُ إبنِ سعدٍ 1: 52،تأريخُ الإسلامِ - للذّهبيّ -1: 20،تاريخُ ابنِ عساكرَ 70: 146، سيرةُ إبنِ هشامٍ 1: 30، تاريخُ الطّبري 1: 221، فضائلُ مكّةَ لابنِ يسارٍ: 20، تاريخُ إبنِ خلدونٍ 2:37، معجمُ البلدانِ للحمويِّ 2: 221، أخبارُ مكّةَ للفاكهي 2: 118.  

(36) المُصنّفُ -عبدُ الرّزّاقِ الصّنعاني 5: 120.

(37) أخبارُ مكّةَ 2: 117

(38) الفروقُ 3: 111- 112.

(39) مختصرُ الرّوضةِ - للطّوفي - 3: 89.

(40) مسندُ أحمدَ 6 : 58، 100، 105، 169، 200، 264، سننُ أبي داودَ 3 : 544 برقم (3207)، سننُ إبنِ ماجه 1: 516 برقم (1616، 1617)، وغيرهُم.

(41) فتحُ الباري 9: 97.

(42) رواهُ أحمدُ في "مسندِ الأنصارِ" برقمِ (20931)، وقالَ إبنُ حجرٍ في "فتحِ الباري" 3: 179: ((إسنادهُ صحيحٌ)). 

(43) صحيحُ مسلمٍ 3: 62، مسندُ أحمدَ 2: 311، سننُ أبي داودَ 2: 85. 

(44) معيارُ الوزّاني 2: 39.

(45) شرحُ الزّرقاني على خليلٍ 2: 109.

(46) مواهبُ الجليلِ 2: 243.

(47) معيارُ الوزّاني 2: 39. 

(48) إحياءُ المقبورِ: 9 .

(49) المصدرُ نفسهُ.

(50) إحياءُ المقبورِ:8 .

(51) إحياءُ المقبورِ:9.

(52) الفروعُ 2 :272- 273.

(53) تحفةُ المحتاجِ بشرحِ المنهاجِ 7: 5.

(54) إحياءُ المقبورِ: 6.

(55) سورةُ الفرقانِ :44.