اِتّبعنَا كتابَ اللهِ فِي البناءِ على قبورِ الصّالحينَ وهوَ مِن ثوابتِ الإسلامِ.

محمّد أحمد/: البناءُ على القبورِ معاشرَ الإثني عشريّةِ، اتّبعتُم مَنْ فِي البناءِ على القبورِ؟ النّبيَّ؟ أمِ الأئمّةَ؟ أم علماءَكم؟

: اللجنة العلمية

إنَّ مسألةَ البناءِ على قبورِ الصّالحينَ وتعظيمِها والإهتمامِ بهَا منَ الأمورِ المُتّفقِ عليهَا بينَ العقلاءِ ويسندُهَا الشّرعُ واتّفاقُ الأمّةِ على ذلكَ ولم تظهَرْ هذه البدعةُ الوهّابيّةُ التي تُحرّمُ ذلكَ إلّا فِي زمانِ ظهورهِم وظهورِ فكرهِم الشّاذِّ والمُخالِفِ لِمَا عليهِ الأمّةُ فلَم نجِدْ أحداً منَ العلماءِ ومِن جميعِ المذاهبِ ينتقدُ أو يحرِّمُ بناءَ المسلمينَ للأضرحةِ الطّاهرةِ على قبورِ الأنبياءِ وصالحي الأمّةِ ولذلكَ يرى المسلمونَ غرابةَ هذا الرّأيِّ وشذوذَهُ ويقومونَ بالتّصدِّي لهُ ونقدهِ والرّدِّ عليهِ كلّمَا علا صوتهُ ونكيرهُ على الأمّةِ ليُخرسوهُ ويقيمُوا الحقَّ ويحافظُوا على تراثِ الأمّةِ وتعلّقهَا بأسوتهَا وقدوتهَا.

 حيثُ بُنِيَتِ المشاهدُ والأضرحةُ والقِبابُ والأبنيةُ على جميعِ قبورِ الصّالحينَ والأولياءِ مِن دونِ استثناءٍ في كلِّ بقاعِ الإسلامِ وفِي كلِّ الأزمنةِ والفتراتِ العمرانيّةِ الماضيةِ وبمختلفِ الدّولِ والسّلطاتِ والمذاهبِ والمشاربِ.

نعم قامَ عمرُ بقلعِ شجرةِ الرّضوانِ التي أجمعتِ الأمّةُ حينَهَا على التّبرّكِ بمقامِها وزيارتِها والصّلاةِ عندهَا ولكنّهُ لأمرٍ شخصيٍّ أو لرأيٍّ شاذٍّ لهُ في التّبرّكِ وكذا فِي سماعِ الأمواتِ والبكاءِ واللّطمِ على الميّتِ وزيارةِ الميِّتِ والصّلاةِ عندَ قبرهِ والتّوسّلِ بهِ كانَ ينفردُ بمواقفَ سلبيّةٍ منهَا.

ولكنَّ الإهتمامَ والبناءَ على قبورِ العظماءِ أمرٌ غريزيٌّ في طبيعةِ الإنسانِ يقرُّهُ كلُّ العقلاءِ ولا يمكنُ النّهيُ عنهُ إلّا بدليلٍ قاطعٍ وليسَ تَبعاً لرأي شخصٍ أو حاكمٍ ما، وقَد أقرّتهُ الأديانُ الأخرى وفعلهُ أتباعُ الأديانِ قبلَ الإسلامِ وبعدهُ وبالتّالِي أقرَّ المسلمونَ ذلكَ وقامُوا بتشييدِ المبانِي والقِبابِ والمزاراتِ على قبورِ صالحيهِم عبرَ كلِّ الفتراتِ المختلفةِ وفِي زمانِ كلِّ الحكوماتِ المتواليةِ على اختلافِ مشاربِها ومذاهبِها وتوجّهاتِها من دونِ أيِّ نكيرٍ صدرَ مِن علماءِ الأمّةِ ولم نسمَعْ أو نقرأ أيّ حملةٍ مِن حاكمٍ أو عالمٍ أو إمامٍ لتهديمِها وإزالتِها كليّاً وتحتَ أيِّ مبرِّرٍ.

حيثُ قالَ تعالى فِي محكمِ كتابهِ المُبينِ مُقرّاً المؤمنينَ على مَا قالوهُ ومَا أرادوا فعلهُ وفعلوهُ عندَ تنازعهِم معَ الكفرةِ حيثُ قالَ تعالى: "إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُم أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِم بُنْيَانًا رَبُّهُم أَعْلَمُ بِهِم قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِم لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا". سورةُ الكهف/ 21. كما 

وقالَ تعالى أيضاً: ((فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ)) وردَ فِي تفسيرهَا عندَ الثّعلبيّ والسّيوطيّ فِي الدّرِّ المنثورِ والآلوسيّ قالوا: وأخرجَ إبنُ مردويه عَن أنسٍ بنِ مالكٍ وبريدةَ قالَ: "قرأ رسولُ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلّمَ هذهِ الآيةَ (في بيوتٍ) ...الخ فقامَ إليهِ عليهِ الصّلاةُ والسّلامُ رجلٌ فقالَ: أيُّ بيوتٍ هذهِ يا رسولَ اللهِ؟ فقالَ صلّى اللهُ عليهِ وسلّمَ بيوتُ الأنبياءِ عليهمُ السّلامُ فقامَ إليهِ أبو بكرٍ فقالَ: يا رسولَ اللهِ هذا البيتُ منهَا لبيتِ عليٍّ وفاطمةَ قالَ: نعَم مِن أفاضلِهَا".

وكذلكَ قامَ رسولُ اللهِ (صلَّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلّمَ) بتعليمِ قبرِ صاحبهِ وأخيهِ عثمانَ بنِ مظعونٍ معَ أنّهُ أوّلُ مَن دُفِنَ بالبقيعِ بصخرةٍ كبيرةٍ وثقيلةٍ جدّاً عجزَ عَن رفعِها أحدُ الصّحابةِ فذهبَ النّبيُّ (صلَّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلّمَ) فرفعَها بنفسهِ ووضعَها على القبرِ. قالَ الألبانيُّ فِي أحكامِ الجنائزِ ص155: "لمَّا ماتَ عثمانُ بنُ مظعونٍ أُخرِجَ بجنازتهِ فدُفِنَ، أمرَ النّبيُّ صلّى اللهُ عليهِ وسلّمَ رجلاً أن يأتيهِ بحجرٍ فلَم يستطِعْ حملهُ، فقامَ إليهَا رسولُ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلّمَ وحسرَ عَن ذراعيهِ، قالَ المطّلبُ: قالَ الذي يخبرنِي عَن رسولِ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلّمَ: كأنِّي أنظرُ إلى بياضِ ذراعيّ رسولِ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلّمَ حينَ حسرَ عنهمَا، ثمَّ حملَها فوضعَها عندَ رأسهِ، وقالَ: أتعلَّمُ بهَا قبرَ أخِي، وأدفنُ إليهِ مَن ماتَ مِن أهلِي". قالَ: أخرجهُ أبو داودَ (2/69) وعنهُ البيهقيّ (3/412) بسندٍ حسنٍ كمَا قالَ الحافظُ (5/229) والمطّلبُ صحابيٌّ معروفٌ أسلمَ يومَ الفتحِ.

وكذلكَ كانَ قبرُ رسولِ اللهِ (صلَّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلّمَ) مبنياً فالحُجرةُ محيطةٌ بالقبرِ الشّريفِ ويصدقُ عليهِ أنّهُ بناءٌ على قبرٍ بلا فرقٍ.

وكذلكَ قامتِ الزّهراءُ عليها السلامُ أمامَ رسولِ اللهِ (صلَّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلّمَ) وعليٍّ عليهِ السّلامُ وأمامَ الجميعِ فقَد: "كانَت عليها السّلامُ تزورُ قبرَ عمّها الحمزةِ عليهِ السلامُ ترمُّهُ وتصلحهُ وقَد علّمتهُ بحجرٍ". 

وكذلكَ فعلَتْ حفيدةُ الزّهراءِ عليها السّلامُ وهيَ السّيّدةُ فاطمةُ بنتُ الحسينِ كمَا روى البُخاريُّ فِي صحيحهِ (2/90) حيثُ قالَ: "ولمَّا ماتَ الحسنُ بنُ الحسنِ بنِ عليٍّ ضربَتْ امرأتهُ قبّةً على قبرهِ سنةً".

وكذلكَ قبورُ الأنبياءِ عليهمُ السّلامُ التي كانَت مبنيّةً عليهَا الأضرحةُ والمشاهدُ والقِبابُ ولم يهدِمِ النّبيُّ (صلَّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلّمَ) أو أحدُ الصّحابةِ أيَّ قبرٍ منهَا وهيَ موجودةٌ إلى يومنَا هذا وقَدِ اعترفَ إبنُ تيميّةَ وغيرهُ بذلكَ كمَا فِي اقتضاءِ الصّراطِ المُستقيمِ ومجموعِ الفتاوى.

وكذلكَ قبورُ الصّالحينَ مِنَ الصّحابةِ والتّابعينَ والأئمّةِ الأربعةِ وغيرهِم والأولياءِ والصّالحينَ عندَ المسلمينَ منَ السّلفِ وقبورهُم إلى يومنَا هذا مبنيّةٌ شامخةٌ عدا مَا قامَ الوهابيّةُ بهدمِها مؤخّراً.

بَل حتَّى قبرُ البُخاريِّ وقبرُ إبنِ تيميّةَ وقبرُ إبنِ الجوزيِّ الحنبليِّ وفِي البصرةِ قبورُ أنسٍ وطلحةَ والزّبيرِ وفِي مصرَ قبرُ الحُسينِ عليهِ السّلامُ وزينبَ عليها السّلامُ مبنيّةٌ إلى يومنَا هذا ويذكرونَ استغاثةَ أهلِ بلدةِ البُخاريّ وتوسّلَهُم بقبرهِ واستسقاءَهُم بقبرهِ وينقلهَا علماؤهُم دونَ تكذيبٍ لهُ أو حياءٍ منهُ.   

أمّا مَا نقلتموهُ عَن عليٍّ عليهِ السّلامُ مِن أنّهُ قالَ لأبي الهيّاجِ الأسديِّ: ألا أبعثكَ على ما بعثنِي عليهِ رسولُ اللهِ (صلَّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلّمَ): "ألّا أدعَ تمثالاً إلّا طمستهُ ولا قبراً مُشرِفاً إلّا سوّيتهُ".

فنقولُ: هذهِ الرّوايةُ فيهَا نقاشٌ سَنداً ومتناً، أمَّا سَنداً فمعَ روايةِ مسلمٍ لهُ فِي صحيحهِ ففيهِ مدلّسانِ وهمَا سفيانُ الثّوريُّ وحبيبٌ بنُ أبي ثابتٍ ولا تُقبَلُ روايتهُما إن عنعنَا دونَ تصريحهِما بالتّحديثِ ولذلكَ قالَ الشّيخُ المحدّثُ الألبانيُّ السّلفيُّ كمَا فِي إرواءِ الغليلِ (3/206): وفِي هذا الإسنادِ علّةٌ وهيَ عنعنةُ حبيبٍ فقَد كانَ مدلّسَاً ولم يصرِّحْ بالتّحديثِ فِي شيءٍ مِن طرقِ الحديثِ إليهِ". فهذا حالُ أصحِّ طرقِ الحديثِ عندهُم فِي التّهديمِ.

وأمَّا المناقشةُ مَتناً ففيهِ جهتانِ للمناقشةِ الأولى معنَى التّسويةِ فقَد قالَ العلماءُ الذينَ شَرحوا الحديثَ كمَا قالَ إبنُ حجرٍ فِي فتحِ الباري (3/204): "ثمَّ الإختلافُ فِي ذلكَ فِي أيّهمَا أفضلُ لا فِي أصلِ الجوازِ ورجّحَ المزنيُّ التّسنيمَ مِن حيثُ المعنَى بأنَّ المُسطّحَ يشبهُ مَا يُصنعُ للجلوسِ بخلافِ المُسنّمِ ورجّحهُ إبنُ قدامةَ بأنّهُ يشبهُ أبنيةَ أهلِ الدّنيا وهوَ مِن شعارِ أهلِ البِدَعِ فكانَ التّسنيمُ أولى ويرجّحُ التّسطيحُ مَا رواهُ مسلمٌ مِن حديثِ فضالةَ ابنِ عُبيدٍ أنّهُ أمرَ بقبرٍ فسويَّ ثمَّ قالَ: سمعتُ رسولَ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلّمَ يأمرُ بتسويتهَا".

وقالَ القرطبيُّ فِي تفسيرهِ (10/380) بعدَ ذكرهِ حديثَ أبي الهيّاجِ: قالَ علماؤنَا ظاهرهُ منعُ تسنيمِ القبورِ ورفعِها وأن تكونَ لاطئةً، وقَد قالَ بهِ بعضُ أهلِ العلمِ، وذهبَ الجمهورُ إلى أنَّ هذا الارتفاعَ المأمورَ بإزالتهِ هوَ مَا زادَ على التّسنيمِ، ويبقَى للقبرِ مَا يُعرَّفُ بهِ ويُحترَمُ.

والمناقشةُ الثّانيةُ أنَّ دلالةَ هذا الحديثِ فَهمَها أئمّةُ السّنّةِ على الكراهةِ لا الحرمةِ ولذلكَ لم يطبَّقْ هذا الهدمُ الذي يريدُ الوهابيّةُ فهمَهُ منَ الحديثِ وإلزامَ المسلمينَ بفهمهِم السّقيمِ ولم يقومُوا بهدمِ قبورِ الأنبياءِ والأولياءِ والصّالحينَ يوماً مَا -لا السّلفُ ولا الخلفُ -حتَّى ظهرتِ الوهابيّةُ.