أدلّة جواز بناء القبور، وزيارتها في بعض كتاب السّلفيّة..!.

السؤال: "السلام عليكم ورحمة وبركاته سؤالي هو: ما الدليل على جواز بناء القبور..؟. وما الدليل أيضاً على جواز زيارتها..؟ .. هذا ولكم جزيل الشكر والتقدير.

: الشيخ فاروق الجبوري

الجواب:

بسم الله الرحمن الرحيم..، الأخ السائل الكريم ، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..، وبعد.. فأمّا جواب الشقّ الأوّل من سؤالكم، فسنقتصر فيه على عرض أدلّة جواز البناء من كتب العامّة عموماً، ثمَّ من كتب السّلفيّة خصوصاً، وفيما يلي بيان ذلك:

الدليل الأوّل: ما ذهب إليه المفسّرون حين عرضوا لتفسير قوله تعالى: { وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا}[الكهف:21]، إذْ قال القرطبيّ: ((فقال الملك: ابنوا عليهم بنياناً، فقال الذين هم على دين الفتية: اتّخذوا عليهم مسجداً. ورُوي: أنّ طائفة كافرة قالت: نبني بيعةً أو مضيفاً، فمانعهم المسلمون وقالوا: لنتّخذنّ عليهم مسجداً))[تفسير القرطبي:ج10،ص379]، وقال ابن كثير - وهو من تلاميذ ابن تيميّة -: ((واختلفوا في أمرهم فقائلون يقولون: ابنوا عليهم بنياناً، أي سدّوا عليهم باب الكهف لئلّا يخرجوا أو لئلّا يصل إليهم ما يؤذيهم، وآخرون وهم الغالبون على أمرهم قالوا: لنتّخذنّ عليهم مسجداً، أي "معبداً يكون مباركاً لمجاورته هؤلاء الصالحين"..!. وهذا كان شائعاً فيمن كان قبلنا...))[البداية والنهاية:ج2،ص138]، فإذا جاز ذلك فيمن قبلنا جاز في شرعنا ما لم يأتِ دليل واضح من الشارع المقدّس على المنع منه، ولا دليل في المقام كما ستعرف.

الدليل الثاني: فعلُ النبيّ (ص)، إذْ جعل قبر ولده إبراهيم "عليه السلام" مسطّحاً. قال العينيّ نقلاً عن الإمام الشافعيّ: ((وبلغنا أنّ النبيَّ سَطَّحّ قبر ابنه إبراهيم "عليه السلام" ووضع عليه الحصباء ورشَّ عليه الماء ))[عمدة القارئ:ج8،ص225، وكذا المجموع للنوويّ:ج5،ص295]، وكان يضع علامات على القبور؛ لأجل معرفة أهلها وتمييزهم من غيرهم..!، قال ابن قدامة: ((ولا بأس بتعليم القبر بحجر أو خشبة، قال أحمد: «لا بأس أن يُعَلِّمَ الرجلُ القبرَ علامة يعرفه بها، قد عَلَّمَ النبيّ قبر عثمان بن مظعون»، وروى أبو داود بإسناده عن المطّلب قال: لمّا مات عثمان بن مظعون أُخرِجَ بجنازته فدُفِنَ، أمر النبيّ رجلاً أن يأتيه بحجر فلم يستطع حمله، فقام رسول الله فحسَّر عن ذراعيه ثُمَّ حملها فوضعها عند رأسه وقال: «أُعَلِّمُ بها قبر أخي وأدفن إليه من مات من أهله»، ورواه ابن ماجه عن النبيّ (ص) من رواية أنس))[المغني لابن قدامة:ج2،ص385]. وعليه ففعل النبيّ (ص) حجّة بالإجماع، فلماذا لا يجوز ذلك في قبور أهل بيته (عليهم السلام)، وهم أعظم عنده من ولده إبراهيم ومن عثمان بن مظعون..؟!.

الدليل الثالث: سيرة العقلاء على مرّ التأريخ وفي جميع بقاع الأرض وبلدان العالم قائمة على بناء القبور ووضع علامات دالّة على قبر كلّ شخص من موتاهم، وخصوصاً تلك القبور التي تعود لشخصيّات دينيّة مقدّسة أو رموز وطنيّة أو علميّة، وهذا أمر مشاهد محسوس في كلّ البلدان والشعوب باختلاف ثقافاتها وانتماءاتها العرقيّة والدينيّة بفضل وسائل التواصل الحديثة، والسيرة العقلائيّة تعـدُّ من أقوى الأدلّة في إثبات كثيرٍ من الأحكام الشرعيّة.

الدليل الرابع: سيرة المتشرّعة، فإنّ المسلمين جميعاً وفي مختلف الدّول الإسلاميّة كانوا منذ الصّدر الأوّل للإسلام يبنونها ولا يزالون يفعلون ذلك، ولقد كانت القبور مشيّدة ومنتشرة في مساجد بلدانهم ومشاهدهم، ويصلّون فيها مع علم أئمّة أهل البيت (ع)، وعلم أئمّة المذاهب الأخرى وعلمائهم بذلك، فلم يمنعوهم من البناء عليها أو يردعوا أحداً عن الصلاة فيها، مع أنّ ردع البدعة المحرّمة واجب بلا خلاف بين الجميع، كما أنّ سكوت المعصوم عن فعلٍ لا بسبب التقيّة يعـدُّ تشريعاً منه لذلك الفعل.

ولقد اعترف الوهابيّة بذلك الانتشار وسكوت علماء المسلمين عنه، فقد قال محمّد بن الأمير الصنعانيّ: ((...هذا أمر عمّ البلاد، وطبّق الأرض شرقاً وغرباً، بحيث لا بلدة من بلاد الإسلام إلاّ فيها قبور ومشاهد، بل مساجد المسلمين غالباً لا تخلو من قبر ومشهد، ولا يسع عقل عاقل أنّ هذا منكر يبلغ إلى ما ذكرت من الشناعة ويسكت عليه علماء الإسلام...))[تطهير الاعتقاد:ص16]، وقد حاول الرجل جاهداً دفع ذلك بأنّه تقليد للآباء والأجداد ونسي أنّ هذا طعن منه بعلماء المسلمين يستوجب لعنهم جميعاً..!، كما نسي أنّ قبرَي الشيخين مبنيّان بالمرمر الأبيض على عهد الصحابة والتابعين ولم ينكرها أحد منهم..!. قال العينّي: ((...وقال إبراهيم النخعيّ [فقيه تابعيّ 47ه - 94ه]: أخبرني مَن رأى قبر رسول الله (ص) وصاحبيه مسنّمة ناشزة [أي مرتفعة] من الأرض عليها مرمر أبيض. وقال الشعبيّ [فقيه تابعيّ 27ه -100 ه]، رحمه الله تعالى: رأيت قبور شهداء أحد مسنَّمة، وكذا فُعِلَ بقبر عمر وابن عبّاس...))[انظر عمدة القارئ للعينيّ:ج8،ص224].

الدليل الخامس: أصالة الإباحة - أيْ أنّ الأصل في كلّ فعل هو الجواز حتّى يأتي دليل واضح من الشارع المقدّس يدلّ على حرمة ذلك الفعل - ، ومن هنا فإنّ القائل بالجواز لا تصحّ مطالبته بالدليل لأنّ الأصل معه، وإنّما يطالب بالدليل مَن يدّعي الحرمة، وفي مقامنا لا يوجد دليل واحد لدى القوم يمكن اعتماده في الحكم بالتحريم، بل إنّ جميع الأدلّة ضدّهم في ذلك. وقد ناقش الشيخ السبحانيّ أدلّة الوهابيّة على التحريم مناقشة مستفيضة وأوضح فسادها جميعاً في كتابه بحوث في الملل والنحل: ج4،ص197 وما بعدها، فمن أراد التأكيد والتأييد لِـما قدّمناه فعليه بمراجعته ذلك الكتاب.

الدليل السادس: أنّ نفس أدلّة جواز زيارة القبور هي بنفسها أدلّة على جواز بنائها وتعليمها، وإلّا لأصبحت الزيارة سالبة بانتفاء الموضوع؛ فإنّ القبور من دون بنائها وتعليمها تندرس وتُعفى بمرور الأيّام، ولكنّ القوم لا يفقهون..!. على أنّ ما لدى الوهّابيّة من أدلّة واهية إنّما تتعلّق بالبناء على نفس القبر والتوجّه في الصلاة إلى نفس القبر، وليست متعلّقة بالبناء حول القبر أو الصلاة بجواره وإلّا لبطلت صلاة جميع المسلمين في البيت الحرام لامتلائه بالقبور كقبر النبيّ إسماعيل المدفون في نفس الحِجر، ولبطلت صلاتهم في جوار قبر النبيّ (ص) في المسجد النبويّ..!. هذا بالنسبة لجواب الشقّ الأوّل من سؤالكم.

وأمّا جواب الشقّ الثاني، فإنّ أدلّة الزيارة كثيرة، فمضافاً إلى ما تقدّم من سيرة العقلاء وسيرة المتشرّعة وأصالة الإباحة، فإنّ هنالك ما يستفاد من القرآن الكريم، وهنالك ما يستفاد من السنّة الشريفة، ونحن ننصحكم بمراجعة كتاب (الزيارة في الكتاب والسنّة) للشيخ السبحانيّ؛ إذْ لا يمكن إيرادها لكثرتها، ونكتفي هنا بذكر بعض ما ورد في الصحاح الستّة وغيرها من كتبهم، كقول النبيّ (ص): ((إنّي كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنّها تذكّركم الآخرة))[مسند أحمد:ج1،ص145، سنن ابن ماجه:ج1،ص500]، وكان النبيّ (ص) يعلّم نساءه والصحابة كيفيّة زيارة القبور وماذا يقولون فيها كما في رواية عائشة..!،[انظر صحيح مسلم:ج3،ص63 وما بعدها، وسنن النسائيّ:ج4،ص93]، بل كان يزورها بنفسه، فعن عمر بن الخطّاب: (( أنّه أتى المقبرة فسلّم عليهم، وقال: رأيت النبيّ يسلّم عليهم ))[عمدة القارئ للعينيّ:ج8،ص69]، إلى غير ذلك من رواياتهم،..!.

وأخيراً فإنّ ممّا يُثير الدهشة حقّاً ويبعث على التعجّب هو نفاق السلفيّة الوهّابيّة الصريح، ففي الوقت الذي يُشعلون فيه وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعيّ بحملات التكفير للشيعة ورميهم بالشرك وعبادة القبور ويحرّمون زيارة قبور أهل البيت (ع) نجد كتبهم تصرّح بأنّ زيارة قبري الخليفتين الأوّل والثاني وسائر قبور المسلمين مستحبّة ومن القُرُبات..!. قال ابن باز: ((...أمّا نيّة القبر بالزيارة فقط فلا تجوز مع شدّ الرحال [أي السفر]، أمّا إذا كان [الزائر] قريبا لا يحتاج إلى شدّ رحال ولا يسمّى ذهابه إلى القبر سفراً ، فلا حرج في ذلك؛ "لأنّ زيارة قبره وقبرَ صاحبيه من دون شدّ رحالٍ سُنَّةٌ وقُربةٌ..!، وهكذا زيارة قبور الشهداء وأهل البقيع، وهكذا زيارة قبور المسلمين في كلّ مكان سُنَّةٌ وقُربةٌ، لكن بدون شد الرحال"؛ لقول النبيّ: «زوروا القبور فإنّها تذكّركم الآخرة » أخرجه مسلم في صحيحه «وكان يعلّم أصحابه إذا زاروا القبور أن يقولوا: السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين وإنّا إن شاء الله بكم لاحقون نسأل الله لنا ولكم العافية» أخرجه مسلم أيضاً في صحيحه.))[انظر كتاب مجموع فتاوى ومقالات ابن باز:ج8،ص ٣٣٧ ] ومن قبله صرّح ابن تيميّة بالاستحباب فقال:((...، وَزِيَارَةُ الْقُبُورِ بِهَذَا الْقَصْدِ مُسْتَحَبَّةٌ وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ قُبُورُ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَغَيْرِهِمْ، وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ إذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ يَقُولُ: السَّلَامُ عَلَيْك يَا رَسُولَ اللَّهِ السَّلَامُ عَلَيْك يَا أَبَا بَكْرٍ السَّلَامُ عَلَيْك يَا أَبَتِ ثُمَّ يَنْصَرِفُ...))[مجموع فتاوى ابن تيمية:ج17،ص471].

وفي الوقت الذي يَعُـدُّ فيه الوهابيّة كتابَ مفاتيح الجنان من كتب الضلال، وزيارات المعصومين التي نقرأها فيه بدعة نجدهم يسكتون عن زيارة الشيخين وعثمان بن عفّان الواردة في كتب علماء العامّة وبصيغ عديدة ومختلفة، [انظر الإيضاح في مناسك الحجّ والعمرة للنوويّ:ص53، الفقه على المذاهب الأربعة للجزيري:ج1،ص641، إعانة الطالبين للبكريّ الدمياطيّ:ج2،ص٣٥٧، إرشاد السالك إلى أفعال المناسك لابن فرحون:ج2،ص782]. إذْ يذكرون في كتبهم عدّة زيارات للشيخين وبصيغ مختلفة..!، بل أدهى من ذلك أن يذكر الوهّابيّة بعض هذه الزيارات في كتبهم كما فعل الشيخ عبد العزيز بن عبد الله الراجحيّ وهو من علمائهم المعاصرين ومن تلامذة ابن باز[ انظر شرحه لكتاب السنّة للبربهاريّ:ج13،ص5]، وكذلك فعل الشيخ عايض القرنيّ - وهو من أشهر دُعاتهم المعاصرين – حينما ذكر زيارة لعمر بن الخطّاب. [انظر كتاب دروس الشيخ عايض القرنيّ:ج110،ص2]،...فهل رأيت مثل هذا النفاق والازدواجيّة في المعايير..؟!، هذا غيض من فيض ..،

ودمتم سالمين.