قراءةُ القرآنِ للميِّتِ يصلُ ثوابُها حتّى عندَ أئمَّةِ الوهّابيَّةِ.
Dhuha Mzhr: السَّلامُ عليكمْ ورحمةُ اللهِ وبركاتُهُ .. يوجدُ لديَّ سؤالٌ، وهوَ أحدُ السنَّةِ يقولُ لي: إنَّ قراءةَ القرآنِ لا تصلُ للميِّتِ، وهذهِ بدعةٌ، هلْ هذا صحيحٌ؟ واُريدُ أدلَّةً إذا كانتْ تصلُ.
الاخ المحترم، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
1. قالَ إمامُ الحنابلةِ والوهّابيَّةِ ابنُ قُدامةَ المقدسيُّ في الشَّرحِ الكبيرِ على المغني (2/ 425) بشكلٍ واضحٍ وصريحٍ: (مسألةٌ): (ولا تُكرهُ القراءةُ على القبرِ في أصحِّ الرِّوايتينِ)، هذا هوَ المشهورُ عنْ أحمدَ، فإنَّهُ رُويَ عنْهُ أنَّهُ قالَ: إذا دخلتُمُ المقابرَ اقرؤوا آيةَ الكرسيِّ وثلاثَ مرّاتٍ قلْ هوَ اللهُ أحدٌ، ثمَّ قلِ: اللهمَّ إنَّ فضلَهُ لأهلِ المقابرِ، ورويَ عنْهُ أنَّهُ قالَ: القراءةُ عندَ القبرِ بدعةٌ، ورويَ ذلكَ عنْ هشيمٍ.
قالَ أبو بكرٍ: نقلَ ذلكَ عنْ أحمدَ جماعةٌ ثمَّ رجعَ رجوعاً أبانَ بِهِ عنْ نفسِهِ. فروى جماعةٌ أنَّ أحمدَ نهى ضريراً يقرأُ عندَ القبرِ، وقالَ لهُ: القراءةُ عندَ القبرِ بدعةٌ. فقالَ لهُ محمَّدُ بنُ قدامةَ الجوهريُّ: يا أبا عبدِ اللهِ، ما تقولُ في مبشِّرٍ الحلبيِّ؟ قال: ثقةٌ. قالَ: فأخبرَنِي مبشِّرٌ عنْ أبيهِ أنَّهُ أوصى إذا دُفِنَ أنْ يُقرَأَ عندَهُ بفاتحةِ البقرةِ وخاتمتِها. وقالَ سمعتُ ابنَ عمرَ يوصي بذلِكَ؟ فقالَ أحمدُ بنُ حنبلٍ: فارجعْ فقلْ للرَّجلِ يقرأْ.
وقالَ الخلّالُ: حدَّثَنِي أبو عليٍّ الحسنُ بنُ الهيثمِ البزّارُ شيخُنا الثِّقةُ المأمونُ قال: رأيْتُ أحمدَ بنَ حنبلٍ يصلّي خلفَ ضريرٍ يقرأُ على القبورِ، وقدْ رويَ عنِ النَّبيِّ صلّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ أنَّهُ قالَ: "مَنْ زارَ قبرَ والديْهِ أوْ أحدِهِما فقرأَ عندَهُ أوْ عندَهُما (يس) غُفِرَ لهُ"، ورويَ عنْهُ - عليْهِ السَّلامُ - أنَّهُ قالَ: "مَنْ دخلَ المقابرَ فقرأَ سورةَ (يس) خفِّفَ عنْهُمْ يومَئذٍ وكانَ لهُ بعددِ مَنْ فيها حسناتٌ".
2. قالَ الحافظُ ابنُ حجرٍ العسقلانيُّ في التَّلخيصِ الحبيرِ(5/ 110): (رويَ أنَّهُ صلّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ قالَ: (اقرؤوا يس على موتاكُمْ). أحمدُ وأبو داودَ والنَّسائيُّ وابنُ ماجه وابنُ حبّانَ والحاكمُ منْ حديثِ سليمانَ التَّيميِّ عنْ أبي عثمانَ - وليسَ بالنَّهديِّ - عنْ أبيهِ عنْ معقلِ بنِ يسارٍ، ولمْ يقلِ النَّسائيُّ وابنُ ماجه: عنْ أبيهِ، وأعلَّهُ ابنُ القطّانِ بالاضطرابِ وبالوقفِ وبجهالةِ حال أبي عثمانَ وأبيهِ. ونقلَ أبو بكرِ بنُ العربيِّ عنِ الدّارَقطنيِّ أنَّهُ قالَ: هذا حديثٌ ضعيفُ الإسنادِ مجهولُ المتنِ، ولا يصحُّ في البابِ حديثٌ).
وقالَ أحمدُ في مسندِهِ: (ثنا أبو المغيرةِ ثنا صفوانُ قال: كانتِ المشيخةُ يقولون: إذا قُرِئتْ - يعني يس - عندَ الميِّتِ خُفِّفَ عنْهُ بِها، وأسندَهُ صاحبُ الفردوسِ منْ طريقِ مروانَ بنِ سالِمٍ عنْ صفوانَ بنِ عمرَ، وعنْ شريحٍ عنْ أبي الدَّرداءِ وأبي ذرٍّ قالا: قالَ رسولُ اللهِ صلّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ: "ما مِنْ مَيِّتٍ يَمُوتُ فَيُقْرَأُ عِنْدَهُ يس إلّا هَوَّنَ اللهُ عَلَيْهِ").
وفي البابِ عنْ أبي ذرٍّ وحدَهُ أخرجَهُ أبو الشِّيخِ في فضائلِ القرآنِ.
(تنبيهٌ): قالَ ابنُ حبّانَ في صحيحِهِ عقبَ حديثِ معقلٍ: (قولُهُ: "اقرؤوا على موتاكُمْ يس" أرادَ بِهِ مَنْ حضرتْهُ المنيَّةُ، لا أنَّ الميَّتَ يُقرأُ عليْهِ، قالَ: وكذلِكَ لقِّنوا موتاكُمْ لا إلَهَ إلّا اللهُ). وردَّهُ المحبُّ الطَّبريُّ في الأحكامِ وغيره في القراءةِ وسلّمَ لهُ في التَّلقينِ.
وعلَّقَ العلّامةُ الشَّوكانيُّ الوهّابيُّ بعدَ أنْ أوردَ كلامَ الحافظِ بتمامِهِ في نيلِ الأوطارِ (4/ 52) مؤيِّداً كلامَ المحبِّ الطَّبريِّ في ردِّ ابنِ حبّانَ بقولِهِ: (واللفظُّ نصٌّ في الأمواتِ، وتناولُهُ للحيِّ المحتضَرِ مجازٌ فلا يُصارُ إليْهِ إلّا لقرينةٍ).
3. قالَ ابن نجيمٍ المصريُّ في البحرِ الرّائقِ(2/ 343): (ولا بأسَ بقراءةِ القرآنِ عندَ القبورِ، وربَّما تكونُ أفضلَ منْ غيرِهِ، ويجوزُ أنْ يخفِّفَ اللهُ عنْ أهلِ القبورِ شيئاً منْ عذابِ القبرِ أوْ يقطعَهُ عندَ دعاءِ القارئِ وتلاوتِهِ، وفيهِ وردَ آثارٌ: مَنْ دخلَ المقابرَ فقرأَ سورةَ يس خفَّفَ اللهُ عنْهُمْ يومَئذٍ، وكانَ لهُ بعددِ مَنْ فِيها حسناتٌ).
4. قالَ ابنُ عابدينَ الحنفيُّ في ردِّ المحتارِ(2/ 263): (قولُهُ: "ويقرأُ يس" لِما وردَ: مَنْ دخلَ المقابرَ فقرأَ سورةَ يس خفَّفَ اللهُ عنْهُمْ يومَئذٍ، وكانَ لهُ بعددِ مَنْ فِيها حسناتٌ.
وفي شرحِ اللبابِ: (ويقرأُ منَ القرآنِ ما تيسَّرَ لهُ منَ: الفاتحةِ، وأوَّلِ البقرةِ إلى المفلحونَ، وآيةِ الكرسيِّ (البقرة: 252)، وآمنَ الرَّسُولُ (البقرة: 258)، وسورةِ يس، وتبارَكَ "المُلْكِ"، وسورةِ التَّكاثرِ، والإخلاصِ، اثني عشرَ مرَّةً أوْ عشراً أوْ سبعاً أوْ ثلاثاً، ثمَّ يقولُ: اللهمَّ أوصلْ ثوابَ ما قرأناهُ إلى فلانٍ أوْ إليهِمْ).
(مطلبٌ في القراءةِ للميِّتِ وإهداءِ ثوابِها لهُ)
(تنبيهٌ): صرَّحَ علماؤُنا في بابِ الحجِّ عنِ الغيرِ بأنَّ للإنسانِ أنْ يجعلَ ثوابَ عملِهِ لغيرِهِ صلاةً أوْ صوماً أوْ صدقةً أوْ غيرَها، كذا في الهدايةِ. بلْ في زكاةِ التّاترخانيَّةِ عنِ المحيطِ: (الأفضلُ لمنْ يتصدَّقُ نفلاً أنْ ينويَ لجميعِ المؤمنينَ والمؤمناتِ؛ لأنَّها تصلُ إليهمْ ولا ينقصُ من أجرِهِ شيءٌ).
هوَ مذهبُ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ، لكنِ استثنى مالكٌ والشافعيُّ العباداتِ البدنيَّةَ المحضةَ كالصَّلاةِ والتِّلاوةِ، فلا يصلُ ثوابُها إلى الميِّتِ عندَهُما، بخلافِ غيرِها كالصَّدقةِ والحجِّ. وخالفَ المعتزلةُ في الكلِّ، وتمامُهُ في فتحِ القديرِ.
أقولُ: ما مرَّ عنِ الشافعيِّ هوَ المشهورُ عنْهُ، والذي حرَّرَهُ المتأخِّرونَ منِ الشّافعيَّةِ وصولُ القراءةِ إلى الميِّتِ إنْ كانتْ بحضرتِهِ أوْ دُعِيَ لهُ عقبَها ولوْ غائباً؛ لأنَّ محلَّ القراءةِ تنزلُ فيهِ الرَّحمةُ والبركةُ، والدُّعاءَ عقبَها أرجى للقبولِ، ومقتضاهُ أنَّ المرادَ انتفاعُ الميِّتِ بالقراءةِ لا حصولُ ثوابِها لهُ، ولهذا اختاروا في الدُّعاءِ: اللهمَّ أوصلْ مثلَ ثوابِ ما قرأتُهُ لفلانٍ، وأمّا عندَنا فالواصلُ إليْهِ نفسُ الثَّوابِ.
وفي البحرِ: (منْ صامَ أوْ صلّى أوْ تصدَّقَ وجعلَ ثوابَهُ لغيرِهِ مِنَ الأمواتِ والأحياءِ جازَ، ويصلُ ثوابُها إليْهِمْ عندَ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ، كذا في البدائعِ)، ثمَّ قالَ: (وبهذا عُلِمَ أنَّهُ لا فرقَ بينَ أنْ يكونَ المجعولُ لهُ ميِّتاً أوْ حيّاً. والظّاهرُ أنَّهُ لا فرقَ بينَ أنْ ينويَ بِهِ عندَ الفعلِ للغيرِ أوْ يفعلَهُ لنفسِهِ بعدَ ذلكَ يجعلُ ثوابَهُ لغيرِهِ؛ لإطلاقِ كلامِهِمْ، وأنَّهُ لا فرقَ بينَ الفرضِ والنفلِ). وفي جامع الفتاوى: (وقيلَ لا يجوزُ في الفرائضِ).
5. ونختمُ بما قالَهُ تلميذُ ابنِ تيميَّةَ المتشدِّدُ ابنُ قيِّمِ الجوزيَّةِ الدمشقيُّ الحنبليُّ في كتابِهِ الرُّوحِ (1/ 132): (قالَ ابنُ عقيلٍ: إذا فعلَ طاعةً منْ صلاةٍ وصيامٍ وقراءةِ قرآنٍ وأهداها بأنْ جعلَ ثوابَها للميِّتِ المسلمِ، فإنَّهُ يصلُ إليْهِ ذلكَ وينفعُهُ بشرطِ أنْ يتقدَّمَ نيَّةُ الهديَّةِ على الطّاعةِ أوْ تقارنَها. وقالَ أبو عبدِ اللهِ بنُ حمدانَ في رعايتِهِ: ومنْ تطوَّعَ بقربةٍ منْ صدقةٍ وصلاةٍ وصيامٍ وحجٍّ وعُمْرةٍ وقراءةٍ وعتقٍ وغيرِ ذلكَ منْ عبادةٍ بدنيَّةٍ تدخلُها النِّيابةُ وعبادةٍ ماليَّةٍ وجعلَ جميعَ ثوابِها أوْ بعضَهُ لميِّتٍ مسلمٍ حتّى النبيِّ ودعا لهُ أوِ استغفرَ لهُ أوْ قضى ما عليْهِ منْ حقٍّ شرعيٍّ أوْ واجبٍ تدخلُهُ النِّيابةُ، نفعَهُ ذلكَ ووصلَ إليْهِ أجرُهُ. وقيل: إنْ نواهُ حالَ فعلِهِ أوْ قبلَهُ وصلَ إليْهِ، وإلّا فلا، وسرُّ المسألةِ أنَّ شرطَ حصولِ الثَّوابِ أنْ يقعَ لمنْ أهدِيَ لَهُ أوَّلاً، ويجوزُ أنْ يقعَ للعاملِ ثمَّ ينتقلَ عنْهُ إلى غيرِهِ).
وفي هذا كفايةٌ في كشفِ تعصُّبِ وجهلِ الوهّابيَّةِ في منعِ ذلكَ وعدِّهِ بدعةً معَ أنَّ أحمدَ رجعَ عنْ قولِهِ ذلكَ. هداهُمُ اللهُ ورفعَ جهلَهُمْ وتشدُّدَهُمْ في الدِّينِ.
ودمتم سالمين.
اترك تعليق