يدعو البعضُ لفكرةِ الاعتدالِ الشيعي، وهل يوجدُ هناكَ تطرّفٌ عندَ الشيعةِ لندعو إلى الاعتدال؟
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته :
الاعتدالُ هو الحدُّ الوسطُ الذي يحفظُ التوازنَ بينَ شيئين، مثلَ اعتدالِ كفّتي الميزانِ بحيثُ لا تكونُ كفّةٌ راجحةٌ على الكفّةِ الأخرى، والاعتدالُ في السلوكِ الإنساني هو الوسطيّةُ التي لا يكونُ معها إفراطٌ أو تفريط، ولا يعني ذلكَ أنّ الاعتدالَ رؤيةٌ ضبابيّةٌ في ما يخصُّ الحدودَ الفاصلةَ بينَ الحقِّ والباطل؛ لأنّهُ بالأساسِ لا علاقةَ له بالفكرةِ التي يتبنّاها الإنسانُ وإنّما لهُ علاقةٌ بالنفسيّةِ التي تتبنّى الفكرةَ، فالأفكارُ قد تكونُ مُشتركةً بينَ مجموعةٍ منَ البشرِ إلّا أنَّ بعضَهم مُتطرّفٌ بينما البعضُ الآخرُ مُعتدلٌ، وبالتالي مهما بلغَت الفكرةُ منَ الحقِّ والوضوحِ فإنّها لا تُعطي صاحبَها مُبرّراً في أن يكونَ مُعتدياً على حقوقِ الآخرين، ومِن هُنا لا يُعدُّ الاعتدالُ موقفاً سلبيّاً أو نظرةً حياديّةً للحقِّ والباطل؛ وذلكَ لأنَّ الاعتدالَ لا يعملُ على إحداثِ توازنٍ بينَ الحقِّ والباطل، وإنّما يعملُ على إحداثِ توازنٍ للنفسِ التي تتصوّرُ أنّها صاحبةُ الحقِّ، ومَن يرفضُ الدعوةَ للاعتدالِ إنّما يتصوّرُها مُجاملةً للباطلِ وتنصّلاً عن الحق، وهذه فكرةٌ خاطئةٌ عَن الاعتدال، فقد يكونُ الاعتدالُ مطلوباً بين أهلِ الحقِّ في ما بينَهم أكثرَ مِن كونِه مطلوباً بينَهم وبينَ أهلِ الباطل.
فالتحليلُ الموضوعيُّ لظاهرةِ التطرّفِ وعدمِ الاعتدالِ يقودُنا إلى القولِ أنَّ النفسيّةَ المُتطرّفةَ هيَ التي تصنعُ الفكرةَ المُتطرّفةَ وليسَت الفكرةُ هيَ التي تصنعُه، وعليهِ لا يمكنُ أن نتصوّرَ أنَّ الأديانَ السماويّةَ جاءَت لكي تصنعَ مجموعةً منَ المُتطرّفينَ، وإنّما المُتطرّفونَ هُم الذينَ يفهمونَ الدينَ على النحوِ الذي ينسجمُ معَ نفسيّاتهم.
أمّا الأسبابُ التي تجعلُ بعضَ النفسيّاتِ مُتطرّفةً فيعودُ بعضُها إلى عواملِ التربيةِ ومحيطِ الأسرةِ، مثلَ مَن يُعاني في صِغره مِن صدماتٍ نفسيّةٍ قاسية، أو عاشَ مراراتٍ في سنٍّ مُبكرةٍ، أو أنَّ الضغوطَ الاجتماعيّةَ ولّدَت عندَه حالةً منَ الكراهيةِ والعدوانيّة، أو أنَّ البيئةَ القاسيةَ جعلَت منهُ إنساناً قاسياً مع الآخرينَ، أو أنَّ الوضعَ السياسيَّ القائمَ على المظالمِ والإقصاءِ والتهميشِ هو الذي كرّسَ العدوانيّةَ والأنانيّةَ بينَ الجميع، أو قد يعودُ ذلكَ إلى مرضٍ نفسيٍّ واضطراباتٍ عصبيّة، أو غيرِ ذلكَ منَ العواملِ التي تبني شخصيّةَ الإنسانِ بشكلٍ مُتطرّفٍ، وفي النتيجةِ التطرّفُ مرضٌ يصيبُ الإنسانَ لا بوصفِه شيعيّاً أو سُنّيّاً، أو حتّى مُسلماً أو غيرَ مُسلم، وإنّما يصيبُ الإنسانَ بوصفِه إنساناً، ومِن هُنا يجبُ أن تشملَ الدعوةُ للاعتدالِ جميعَ المُجتمعاتِ، فإذا نظرنا للمُجتمعِ الشيعيّ بعيداً عن علاقتِه بالمذاهبِ الأخرى لوجَدنا أنّهُ يعيشُ حالاتٍ منَ التطرّفِ وعدمِ الاعتدالِ بينَ تيّاراتِه الدينيّةِ والسياسيّة بل وحتّى العشائريّة، فلا وجودَ لمُجتمعٍ مُحصّنٍ مِن ظاهرةِ التطرّفِ أيّاً كانَ هذا التطرّفُ، ومِن هُنا فإنَّ الاعتدالَ مطلوبٌ دائماً ولكلِّ المُجتمعاتِ البشريّة، بل الاعتدالُ مطلوبٌ حتّى على مستوى الفرد، فلابدَّ أن يكونَ مُعتدلاً في أكلِه، وملبسِه، ومسكنِه، وعملِه، وقناعاتِه وطريقةِ تفكيرِه، فكلُّ سلوكٍ يبتعدُ عن الاعتدالِ إفراطاً أو تفريطاً يعدُّ سلوكاً مُنحرفاً يجبُ تقويمُه.
وعليهِ فإنَّ الاعتدالَ كقيمةٍ حضاريّةٍ تعني استقامةَ الفردِ والمُجتمعِ على نمطٍ سلوكيٍّ ليسَ فيهِ تفريطٌ في الحقوقِ أو تعدٍّ على حقوقِ الآخرينَ، فهوَ في الحقيقةِ يعدُّ نهجاً تربويّاً يستهدفُ تقويمَ النفسِ وجعلَها أكثرَ توازناً واستقامةً، وقد خصَّ القرآنُ المؤمنَ بضرورةِ الاعتدالِ وحرّمَ عليهِ أيَّ نوعٍ مِن أنواعِ التعدّي، قالَ تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالقِسطِ وَلَا يَجرِمَنَّكُم شَنَآنُ قَومٍ عَلَى أَلَّا تَعدِلُوا اعدِلُوا هُوَ أَقرَبُ لِلتَّقوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعمَلُونَ) فالآيةُ تؤكّدُ على عدمِ التطرّفِ حتّى معَ مَن يمارسُ التطرّفُ عليكَ، فقوله (وَلَا يَجرِمَنَّكُم شَنَآنُ قَومٍ) تعني أن لا يكونَ تطرّفُ الآخرينَ مُبرّراً لتطرّفِكم عليهم، وإنّما تجبُ الاستقامةُ والقسطُ والعدلُ في كلِّ الظروفِ والأحوالِ، وقالَ تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالقِسطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَو عَلَى أَنفُسِكُم أَوِ الوَالِدَينِ وَالأَقرَبِينَ إِن يَكُن غَنِيًّا أَو فَقِيرًا فَاللَّهُ أَولَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الهَوَى أَن تَعدِلُوا وَإِن تَلوُوا أَو تُعرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعمَلُونَ خَبِيرًا)
وفي المُحصّلةِ التشيّعُ كفكرٍ وعقيدةٍ وانتماءٍ لأهلِ البيتِ (عليهم السّلام) ليسَ فيهِ تطرّفٌ إلّا أنَّ الشيعةَ لا يخلونَ مِن وجودِ نفسيّاتٍ مُتطرّفةٍ سواءٌ في سلوكِها الاجتماعيّ أو السياسيّ أو الديني، وعليهِ منَ الضروريّ أن تكونَ هناكَ دعواتٌ دائمةٌ ومستمرّةٌ للاعتدالِ؛ لأنَّ في ذلكَ دعوةٌ للاستقامةِ سلوكيّاً وأخلاقيّاً ومعرفيّاً.
اترك تعليق