ما سببُ انتشارِ التشيّعِ في خراسان في العصرِ العباسيّ؟

: السيد عبدالهادي العلوي

السلامُ عليكُم ورحمةُ الله وبركاتُه، لا يخفى أنّ العلويّينَ كانَت لهُم مكانةٌ خاصّةٌ لدى المُسلمين؛ باعتبارِهم أهلَ بيتِ النبيّ (صلّى اللهُ عليهِ وآله)، وقد وردَت فيهم الكثيرُ منَ الفضائلِ والمناقبِ في القرآنِ الكريم والأحاديثِ الشريفة، مع ما يتمتّعونَ به منَ المقوّماتِ الذاتيّةِ والملكاتِ النفسيّةِ والسجايا الكريمة، كالشرافةِ والقيادةِ والشجاعةِ والمروءةِ والمعرفةِ والحنكةِ والدرايةِ وغيرِ ذلك، ومنَ الطبيعيّ أن ينجذبَ إليهم ويأتمّ بهم ذوو النفوسِ الشريفةِ والأرواحِ النقيّة؛ إذ الإنسانُ بطبيعتِه ينجذبُ نحوَ الكمالِ والفضيلة. وتعدّ هذهِ المكانةُ الخاصّةُ التي اكتسبوها مِن نزولِ الآياتِ القرآنيّةِ في شأنِهم، ومن صدورِ الأحاديثِ الشريفةِ في حقّهم، ومِن مقوّماتِهم الذاتيّةِ وملكاتهم النفسيّة من العلم والمعرفة والفضيلة والكرم والشجاعة وغيرها، هيَ العاملُ الأهمُّ لانتشارِ شعبيّتِهم في البلادِ الإسلاميّة عموماً وفي خراسان خصوصاً. ثمّ إنَّ هناكَ عواملَ مختلفةً وأسباباً متنوّعةً في انتشارِ التشيّعِ والولاءِ لأهلِ البيت (عليهم السلام) في خصوصِ بلادِ فارس وخراسانَ في العصرِ العبّاسيّ، إضافةً إلى العاملِ المُتقدّم الذي يُشكّلُ اللبنةَ الأساسيّةَ لهذا الانتشار، نذكرُ جُملةً مِنها: العاملُ الأوّل: ارتباطُ الموالي بأهلِ البيتِ (عليهم السلام): بعدَما فتحَ المُسلمونَ بلادَ فارس انتقلَ الكثيرُ منهم إلى العراقِ والبلادِ العربيّة، وحالفوا بعضَ القبائل، ولهذا أُطلقَ عليهم اسمُ (الموالي) لأنّهم موالي تلكَ القبائل، وقد كانَ للموالي دورٌ كبيرٌ في انتشارِ التشيّعِ في بلادِ فارس، وتوضيحُ هذا الدورِ يكونُ بذكرِ أمرين: الأمرُ الأوّل: انجذابُ الموالي لأهلِ البيتِ (عليهم السلام) بسببِ سجاياهم الشريفةِ والنبيلة: كانَ التمييزُ العُنصريّ بينَ العربِ والعجمِ قديماً، وكلٌّ منهما ينظرُ للآخرِ بنظرةِ الاستخفافِ والإذلال، وقد جاءَت تعاليمُ الإسلامِ بنبذِ التمييزِ العُنصريّ والقوميّ وأنّه لا فرقَ بينَ عربيٍّ ولا عجمي ولا أبيضَ ولا أسود، والفضلُ إنّما هو للإيمانِ والتقوى.. ولكن يُلاحظُ أنّ عمرَ بنَ الخطّاب تعاملَ مع الموالي منذُ بدايةِ فتحِ فارس على أنّهم مواطنونَ منَ الدرجةِ الثانية عملاً برسومِ الجاهليّة، ولهذا كانوا يُكلّفونَ بمزاولةِ الأعمالِ الشاقّة، ولا يحظونَ بكثيرٍ منَ الامتيازاتِ التي يحظى بها غيرُهم منَ المُسلمينَ العرب. وقد كانَت تتصاعدُ نبرةُ هذا التمييزِ العُنصريّ شيئاً فشيئاً، حتّى أنّهم فرضوا الجزيةَ على المُسلمينَ مِنهم، وكانوا يعتبرونَ تزويجَ الموالي عاراً على القبيلةِ التي تزوّجهم، حتّى أنّهم أدانوا قبيلةَ بني عبدِ القيس، وغيرِ ذلكَ منَ الأمور. نكتفي في المقامِ بذكرِ رسالةِ معاويةَ بنِ أبي سفيان لزيادٍ بنِ أبيه؛ إذ جاءَ فيها: « .. وانظُر إلى الموالي ومَن أسلمَ منَ الأعاجم، فخُذهم بسنّةِ عمرَ بنِ الخطّاب، فإنّ في ذلكَ خزيهم وذلّهم، أن تنكحَ العربُ فيهم ولا ينكحوهم، وأن ترثَهم العربُ ولا يرثوهم، وأن تقصّرَ بهم في عطائِهم وأرزاقِهم، وأن يُقدّموا في المغازي، يصلحونَ الطريقَ ويقطعونَ الشجر، ولا يؤمَّ أحداً منهم في صلاة، ولا يتقدّمَ أحدٌ منهم في الصفِّ الأوّلِ إذا حضرَت العربُ إلّا أن يتمّوا الصفّ. ولا تولِّ أحداً منهم ثغراً مِن ثغورِ المُسلمين، ولا مِصراً من أمصارِهم، ولا يلي أحدٌ منهم قضاءَ المُسلمينَ ولا أحكامَهم، فإنّ هذهِ سنّةُ عمرَ فيهم وسيرته، جزاهُ اللهُ عن أمّةِ محمّدٍ وعن بني أميّةَ خاصّةً أفضلَ الجزاء.. ولعمري يا أخي، لو أنّ عُمرَ سنّ ديّةَ المولى نصفَ ديّةِ العربيّ لكانَ أقربَ إلى التقوى، ولو وجدتُ السبيلَ إلى ذلك ورجوتُ أن تقبلَه العامّةُ لفعلت ولكنّي قريبُ عهدٍ بحرب، فأتخوّفُ فرقةَ الناسِ واختلافَهم عليّ. وبحسبِك ما سنَّه عُمرُ فيهم، فهوَ خزيٌ لهم وذلّ، فإذا جاءكَ كتابي هذا فأذلَّ العجمَ، وأهِنهم، وأقصِهم، ولا تستعِن بأحدٍ منهم، ولا تقضِ لهُم حاجةً » [كتابُ سُليم ص282ـ283]. والكتبُ التاريخيّةُ مليئةٌ بالحوادثِ والشواهدِ لهذا الامتهانِ الذي مارسَه عمرُ بنُ الخطّاب ثمّ عثمانُ بنُ عفّان ثمَّ الأمويّون تجاهَ الموالي، ما نريدُ أن نقولَه في المقام: إنّ هذا التمييزَ والإذلالَ كانَ له أثرٌ بليغٌ في نفوسِ الموالي إذ شعروا بالظلمِ وعُقدةِ النقص، ومنَ الطبيعيّ أن لا يقفوا مكتوفي الأيدي حيالَ ذلك إذ صدورُ ردّةِ الفعلِ أمرٌ طبيعيٌّ وقهري. في مقابلِ هؤلاءِ الذينَ أذاقوا الموالي علقمَ الامتهان، نجدُ أنّ أميرَ المؤمنينَ (عليه السّلام) تعاملَ معهم معاملةً إسلاميّةً بحتة، فقبلَ استلامِه زمامَ الحُكمِ كانَ يُبادرُ (عليهِ السلام) لمُساعدتهم ومدّ يدِ العونِ إليهم وإبداءِ المشورةِ لهم والتوسّطِ في حقوقِهم، كما أنّهم كانوا يأتونَ إليه ويبثّونَ شكواهم لديه، فصارَ أميرُ المؤمنينَ (عليهِ السلام) هوَ الملجأ الذي يأوي له الموالي ويجدونَ راحتَهم بمحضرِه وفي كنفِه، روى الشيخُ الكُلينيّ في [الكافي ج5 ص318] عن أبي عبدِ الله (عليهِ السلام) قالَ: « أتَت الموالي أميرَ المؤمنين (عليهِ السلام) فقالوا: نشكو إليكَ هؤلاءِ العربَ، إنّ رسولَ اللهِ (صلّى اللهُ عليهِ وآله) كانَ يعطينا معهم العطايا بالسويّة، وزوّجَ سلمانَ وبلالاً وصهيباً، وأبوا علينا هؤلاءِ وقالوا: لا نفعل، فذهبَ إليهم أميرُ المؤمنينَ (عليهِ السلام) فكلّمهم فيهم، فصاحَ الأعاريبُ: أبينا ذلكَ يا أبا الحسن، أبينا ذلك، فخرجَ وهو مُغضبٌ يجرّ رداءَه وهو يقول: يا معشرَ الموالي، إنّ هؤلاءِ قد صيّروكم بمنزلةِ اليهودِ والنصارى، يتزوّجونَ إليكم ولا يزوّجونَكم، ولا يعطونَكم مثلَ ما يأخذون، فاتّجروا باركَ اللهُ لكم.. ». وذكرَ اليعقوبيّ في [التاريخِ ج2 ص183] أنّ أميرَ المؤمنينَ (عليهِ السلام) زمانَ خلافتِه: « أعطى الناسَ بالسويّةِ، لم يُفضِّل أحداً على أحد، وأعطى الموالي كما أعطى الصلبيّة، وقيلَ له في ذلك، فقالَ: قرأتُ ما بينَ الدفّتين، فلم أجِد لولدِ إسماعيلَ على ولدِ إسحاقَ فضلاً »، وروى الكُلينيّ في [الكافي ج8 ص69]: « خطبَ أميرُ المؤمنينَ (عليهِ السلام)، فحمدَ اللهَ وأثنى عليه، ثمّ قالَ: أيّها الناسُ، إنّ آدمَ لم يلِد عبداً ولا أمةً، وإنّ الناسَ كلّهم أحرارٌ، ولكنَّ اللهَ خوّلَ بعضَكم بعضاً، فمَن كانَ له بلاءٌ فصبرَ في الخيرِ فلا يمنُّ به على اللهِ (عزّ وجلّ)، ألا وقد حضرَ شيءٌ ونحنُ مُسَوّونَ فيه بينَ الأسودِ والأحمر ».وهذه المُعاملةُ الحسنةُ التي تلقّوها في حكومةِ أميرِ المؤمنينَ (عليهِ السلام) ولم يتلقّوا في حكومةِ غيرِه إلّا الذلَّ والامتهانَ، كانَت إحدى أسبابِ ميلهم وتوجّهِم نحوَ العلويّين. الأمرُ الثاني: تربيةُ الأئمّةِ (عليهم السلام) للموالي وتعليمِهم:اهتمَّ الأئمّةُ المعصومونَ (عليهم السلام) بتربيةِ الموالي تربيةً إسلاميّةً صحيحةً وتعليمهم معالمَ دينِهم وتزكيةِ نفوسِهم، ثمّ بثّهم في المُجتمعِ الإسلاميّ العربيّ والفارسيّ، وتأثّرهم بالأئمّةِ (عليهم السلام) عِلماً ومعرفةً وخُلقاً وسجيّةً شيءٌ طبيعيّ كما هو معلوم. وكانَ هذا الأمرُ لافتاً في سيرةِ الإمامِ السجّادِ (عليهِ السلام)، فإنّه (عليهِ السلام) كانَ يشتري العبيدَ والجواري فيعلّمَهم ويربّيهم ثمَّ يعتقُهم بأدنى سببٍ حتّى أنّ صدورَ الخطأ منَ العبدِ سببٌ لإعتاقِه، فالإمام (عليه السلام) قامَ بتربيةِ الكوادرِ الإيمانيّةِ ولو مِن حيثُ لا يشعرونَ وبثّهم في المُجتمعِ ليكونوا دعاةً ومُبلّغينَ للدينِ والمذهبِ بأقوالِهم وأفعالِهم بقدرِ ما اكتسبوهُ منَ العلمِ والفضيلةِ في ظلِّ رعايةِ المعصومِ (عليهِ السلام). قالَ السيّدُ الأمينُ في [أعيانِ الشيعة ج4 ص63]: « ولقد كانَ يشتري السودانَ وما بهِ إليهم مِن حاجةٍ »، وقالَ بعضُهم ـ كما في [زينِ العابدين ص47] ـ: « حتّى صارَ في المدينةِ جيشٌ منَ الموالي الأحرار والجواري الحرائر، وكلّهم مِن ولاءِ زينِ العابدين، قد بلغوا خمسينَ ألفاً أو يزيدون »، وذكرَ السيّدُ جعفرٌ مُرتضى العامليّ في [دراسات وبحوث في التاريخِ والإسلام ج1 ص64]: « لقد كانَ مِن نتيجةِ ذلكَ أن صارَ الموالي يعتبرونَ أهلَ البيتِ (عليهم السلام) هُم المثل الأعلى للإنسانِ والإسلام، وكانوا مُستعدّينَ للوقوفِ إلى جانبِهم في مُختلفِ الظروف، ولا نُعدمُ بعضَ الشواهدِ التي تُظهرُ أنَّ الموالي كانوا ينتصرونَ للعلويّينَ إذا رأوهم تعرّضوا لظُلمٍ أو لبغيٍ مِن قبلِ السلطات »، فهذا الاستقطابُ كانَ منَ الأساليبِ الإعلاميّةِ والسياسيّةِ التي انتهجَها الإمامُ (عليهِ السلام) على امتدادِ حياتِه. هذا بالنسبةِ للإمامِ السجّادِ (عليهِ السلام) فضلاً عن غيرِه منَ الأئمّةِ ممَّن جاءَ مِن بعدِه. هذا مِن جهة.ومِن جهةٍ أخرى، قامَ الأئمّةُ (عليهم السلام) بتعليمِ الموالي ـ الذينَ لم يكونوا عبيداً لهم ـ معالمَ دينِهم وتعريفِهم الإسلامَ الصحيح، وجملةٌ مِن هؤلاءِ صاروا مِن رواةِ الحديث، وقد قامَ الشيخُ جعفريان بإحصائيّةٍ تقريبيّةٍ من رجالِ الشيخ الطوسيّ للتوصّلِ إلى النسبةِ المئويّةِ التي يشكّلها الموالي مِن أصحابِ الأئمّةِ (عليهم السلام)، فاستنتجَ أنّ الموالي المذكورينَ مِن رواةِ الحديثِ مِن أصحابِ الإمامِ السجّادِ (عليهِ السلام) يبلغُ عددُهم 12% من مجموعِ عددِ أصحابِ الإمامِ (عليهِ السلام)، وأنّ عددَهم ضمنَ أصحابِ الإمامِ الباقر (عليهِ السلام) يبلغُ 5.3%، وفي أصحابِ الإمامِ الصادقِ (عليهِ السلام) 13.6%، وفي أصحابِ الكاظم (عليهِ السلام) 7.3%، وفي أصحابِ الرّضا (عليه السلام) 14.5%. ومنَ الطبيعيّ أنّ جُملةً وافرةً مِن هؤلاءِ العبيدِ والجواري والتلامذةِ الذينَ تلقوا التعاليمَ الإسلاميّةَ النقيّةَ ورأوا السجايا المعصوميّة، رجعوا إلى بلادِهم ومناطقِهم في المُدنِ المُختلفةِ في بلادِ فارس، ومِن ثَمّ سيكونونَ دُعاةً للحقِّ والفضيلةِ بما اكتسبوهُ منَ العلومِ والمكارمِ في ظلِّ رعايةِ الأئمّةِ (عليهم السلام). مثلاً: (أبو خالدٍ الكابليّ) الذي كانَ مِن حواريّ الإمامِ السجّاد (عليهِ السلام) ومِن خاصّتِه وثقاتِه، ومِن أولئكَ الذينَ كانَت لهم بصماتٌ واضحةٌ في ترويجِ الدينِ والمذهب، جاءَ في [اختيارِ معرفةِ الرّجال ج1 ص337] عن أبي جعفرٍ (عليهِ السلام): « خدمَ أبو خالدٍ الكابليّ عليّاً بنَ الحُسين (عليهما السلام) دهراً مِن عُمرِه، ثمَّ إنّه أرادَ أن ينصرفَ إلى أهلِه، فأتى عليّاً بنَ الحُسين، فشكى إليهِ شدّةَ شوقِه إلى والديه... فخرجَ إلى بلادِه »، ومنَ الطبيعيّ أن يكونَ له يدٌ في نشرِ معارفِ أهلِ البيتِ (عليهم السلام) في بلادِه آنذاك. العاملُ الثاني: هجرةُ العربِ إلى بلادِ فارس: هاجرَ الكثيرُ منَ العربِ الشيعةِ إلى بلادِ فارس واستوطنوا بقاعاً مُختلفةً فيها، كقُمّ المقدّسةَ والريّ وخراسان وغيرها، وأسبابُ هذه الهجراتِ متنوّعةٌ، فبعضُها كانَت بالقسرِ والجبرِ منَ السُّلطةِ الحاكمة، وبعضُها كانَت لوجودِ المُضايقاتِ عليهم في البلادِ العربيّة، وبعضُها كانَت بإيعازٍ منَ المعصومينَ (عليهم السلام). فمنَ التهجيرِ القسريّ ما فعلهُ زيادٌ بنُ أبيه كما ذكرَ الطبريُّ في [التاريخِ ج4 ص170]: « بعثَ [يعني زيادٌ] الربيعَ بنَ زيادٍ الحارثيّ إلى خراسانَ في خمسينَ ألفاً، منَ البصرةِ خمسةً وعشرينَ ألفاً، ومنَ الكوفةِ خمسةً وعشرينَ ألفاً »، وقالَ البلاذريّ في [فتوحِ البُلدان ج3 ص507]: « ثمَّ ولّى زيادُ بنُ أبي سفيان الربيعَ بنَ زيادٍ الحارثيّ سنةَ إحدى وخمسينَ خراسان، وحوّلَ معَه مِن أهلِ المصرَينِ زُهاءَ خمسينَ ألفاً بعيالاتِهم ».وحالُ مدينةِ قمَّ المُشرّفة معروفٌ؛ إذ العربُ فيها كثيرٌ، خصوصاً الأشاعرةُ، وقد ذكرَ اليعقوبيُّ في [البُلدان ص374] أنّ أكثرَ العربِ الذينَ سكنوا قُم كانوا مِن قبيلةِ مذحج ثمَّ يأتي بعدَهم الأشاعرة، وتوجدُ معلوماتٌ أنّ شريحةً مِن موالي العباسيّينَ قدمَت إلى قُم في النصفِ الأوّلِ منَ القرنِ الأوّل الهجريّ وتوطّنها، وأنّ رهطاً مِن بني أسد هاجروا إلى قُم بعدَ قيامِ المُختارِ الثقفيّ سنةَ 67هـ وسكنوا هناك، كما أشيرَ إلى قدومِ بني مذحج وقيسٍ إليها قبلَ الأشاعرة [ينظر: الشيعةُ في إيران ص122]، والتشيّعُ الأصيلُ في قُم معروفٌ حتّى قيلَ إنّه لا يوجدُ فيها سُنيٌّ في ذلكَ الوقت، ذكرَ البلخيُّ في [المسالكِ والممالك ص201]: « أهلُ قُم كلّهم شيعةٌ، والغالبُ عليهم العربُ »، وقالَ نحوه ابنُ حوقل في [صورةِ الأرضِ ص315]، وقالَ المُستوفي في [نُزهةِ القلوب ص67]: « الناسُ هناكَ شيعةٌ إثنا عشريّة، وهُم مُتعصّبونَ للغاية ».  ونقلَ اليعقوبيّ في [البُلدان ص270ـ294] معلوماتٍ عن وجودِ العربِ في شتّى البقاعِ الفارسيّة، فقالَ إنّه في جميعِ مُدنِ خراسان قومٌ منَ العربِ مِن مُضر وربيعةَ وسائرِ بطونِ اليمن، إلّا باسه وشنة فإنّهم كانوا يمنعونَ العربَ أن يجاوروهم، وإنّ أهلَ شيروان أخلاطٌ منَ العربِ والعجم، وكذا حميرةَ وحلوان ودينور وقزوين ونهاوند، وإنّ أهلَ كرج قومٌ منَ العجمِ وإلى جانبِهم آلُ عيسى بنِ إدريس العجليّ ومَن انضوى إليهم مِن سائرِ العرب، وأهلُ قُم الغالبونَ عليهم قومٌ مِن مذحجَ ثمَّ منَ الأشعريّين، وكانَ يعيشُ في فريدن ومنطقةِ جرمقاسان في أطرافِ أصفهان قومٌ منَ العجمِ وقومٌ منَ العربِ مِن قبيلةِ همدان، وأهلُ الريّ أخلاطٌ منَ العربِ والعجم وعربُها قليلٌ، وأهلُ نيسابور أيضاً أخلاطٌ منَ العربِ والعجم، وهكذا الحالُ في مرو، وفي هراة قومٌ منَ العرب، وفي بوشنج وبُخارى وقيروان عاشَ العربُ إلى جانبِ العجم. ويظهرُ مِن هذا أنّ العربَ كانوا مُنتشرينَ في أكثرِ البلادِ الفارسيّة، وجملةٌ كبيرةٌ منهم بلا شكٍّ هُم مِن شيعةِ أهلِ البيتِ (عليهم السلام) كقبيلةِ همدان المعروفةِ في التشيّع، ومنَ الطبيعيّ أن يكونَ لهم تأثيرٌ على العجمِ هناكَ أيضاً. العاملُ الثالث: هجرةُ العلويّينَ إلى بلادِ فارسلا يخفى أنّ الضغوطَ التي مارسَها الحُكّامُ الأمويّونَ ثمّ العبّاسيّونَ ضدّ العلويّينَ أرغمَتهم على الهجرةِ مِن بلدانِهم واللجوءِ إلى بلادِ فارس حيثُ يضعفُ نفوذُ الحُكّامِ هناكَ ويصعبُ الوصولُ إليهم، وذكرَ الخوانساريّ في [روضاتِ الجنّاتِ ج4 ص212] أنّ مدينتي قُم والري اختصّتا بأكثرِ قبورِ أولادِ الأئمّةِ (عليهم السلام) مِن بينِ المدنِ الإيرانيّةِ الأخرى، معَ أنّ قبوراً أخرى موجودةٌ في سائرِ المُدنِ كشيرازَ وأصفهانَ وكاشان وغيرَها. وقد ذكرَ النسّابةُ ابنُ طباطبا في كتابِه [مُنتقلة الطالبيّة] الكثيرَ منَ المدنِ والبلادِ الفارسيّةِ التي انتقلَ إليها الطالبيّونَ فليُراجع. وكانَ لهؤلاءِ الطالبيّينَ دورٌ كبيرٌ في ربطِ الشعبِ الفارسيّ بأهلِ البيتِ (عليهم السلام) بذكرِ مظلوميّتِهم، وتأليبِهم على الحكوماتِ الغاشمةِ، كما رفعَ بعضُهم الرايةَ ضدَّ العبّاسيّينَ وإلى الرّضا مِن آلِ محمّدٍ (عليهم السلام)، وانقادَ لهم الكثيرُ منَ الناسِ الذينَ يعتقدونَ بأنّهم يستحقّونَ قيادةَ الأمّة لتحقيقِ العدالةِ ونبذِ الظلم. والملاحظُ أنّ العباسيّينَ بدأوا نشاطَهم تحتَ غطاءِ ظُلامةِ العلويّينَ ووجاهتِهم عندَ الناسِ ولكنّهم استغلّوا ذلكَ لاستلامِ الحُكمِ سرّاً، فتركّزَ عملُهم في بلادِ فارسَ على كشفِ فضائحِ الأمويّينَ وجرائمِهم بحقِّ أهلِ البيتِ (عليهم السلام)، وبعدَما استلموا الحُكمَ جاؤوا بأشنعَ ممّا جاءَ بهِ الأمويّونَ فأدركَ بعضُ الناسِ خطأهم بدعمِ العبّاسيّينَ فخرجوا في ثوراتٍ ضدّ العباسيّينَ. ثمّ إنّه وإن كانَ العباسيّونَ استغلّوا مظلوميّةَ أهلِ البيتِ (عليهم السلام) للوصولِ إلى السلطةِ إلّا أنّه صبَّ ذلك في مصلحةِ العلويّينَ أيضاً مِن ناحيةِ ترسيخِ محبّةِ أهلِ البيتِ (عليهم السلام) ومظلوميّتِهم في وجدانِ الناسِ ونفوسِهم. العاملُ الخامس: اهتمامُ الأئمّةِ (عليهم السلام) ببلادِ فارس: ذكرَ اليعقوبيُّ في [تاريخِه ج2 ص183]: « ولمّا فرغَ [يعني أميرُ المؤمنينَ (عليهِ السلام)] مِن حربِ أصحابِ الجمل، وجّهَ جعدةَ بنَ هبيرة بنِ أبي وهبٍ المخزوميّ إلى خراسان »، وذكرَ الحافظُ المُزيّ بترجمتِه في [تهذيبِ الكمال ج4 ص564]: « قالَ أبو حاتمٍ الرازيّ: كانَ قدمَ الريَّ، وكانَ لهُ بها دار ». وجعدةُ هذا هوَ ابنُ أختِ أميرِ المؤمنينَ (عليهِ السلام) وأمُّه أمُّ هانئ بنتُ أبي طالبٍ (عليها السلام)، كانَ عالماً فقيهاً فارساً شجاعاً خطيباً ذا لسانٍ وعارضةٍ قويّة، لهُ شأنٌ كبيرٌ، مِن خُلّصِ أصحابِ أميرِ المؤمنينَ (عليهِ السلام). [ينظر: الاستيعابُ ج1 ص241، شرحُ نهجِ البلاغةِ للمُعتزليّ ج10 ص77]. ومنَ الطبيعيّ أن يكونَ لجُعدةَ دورٌ في شدِّ الخراسانيّينَ والرّازيّينَ نحوَ أميرِ المؤمنينَ (عليهِ السلام) والعلويّين؛ لأنّه والٍ عليهم مِن طرفِه (عليه السلام)، معَ ما يتمتّعُ به مِن مؤهّلاتٍ فريدةٍ منَ الفقاهةِ والعدالةِ والولاءِ والشجاعةِ والخطابةِ وغيرِها. وقد كانَ للأئمّةِ (عليهم السلام) وكلاءُ كثيرونَ في البلادِ الفارسيّة، فمثلاً نرى أنّ مدينةَ (همدان) ـ معَ أنّ أهميّتَها لا تُضاهي مثلَ مدينةِ قُم المقدّسةِ والريّ وخراسان ونحوِها ـ كانَ فيها جملةٌ منَ الوكلاء، يقولُ ابنُ قولويه القُميّ [المُتوفّى 369هـ] ـ كما في [رجالِ النجاشيّ ص344] ـ: « حدّثنا القاسمُ بنُ محمّدٍ بنِ عليٍّ بنِ إبراهيمَ بنِ محمّد وكيلُ الناحية، وأبوهُ وكيلُ الناحية، وجدُّه عليٌّ وكيلُ الناحية، وجدُّ أبيهِ إبراهيمُ بنُ محمّد وكيل. قالَ: وكانَ في وقتِ القاسمِ بهمدان معهُ أبو عليٍّ بسطامُ بنُ عليّ والعزيزُ بنُ زهير ـ وهو أحدُ بني كشمرد ـ، ثلاثتُهم وكلاءُ في موضعٍ واحدٍ بهمذان، وكانوا يرجعونَ في هذا إلى أبي محمّدٍ الحسنِ بنِ هارونَ بنِ عمران الهمذانيّ وعن رأيه يصدرون، ومِن قبلِه عن رأي أبيهِ أبي عبدِ اللهِ هارون، وكانَ أبو عبدِ اللهِ وابنُه أبو محمّدٍ وكيلين ». ثمّ إنّ المأمونَ العبّاسيّ عندَما انتصرَ على أخيه رأى أنّ للإمامِ الرّضا (عليهِ السلام) أنصاراً كثيرينَ في خُراسان وبلادِ فارس، فارتأى استغلالَ ذلكَ لإضفاءِ الشرعيّةِ على حكومتِه، فعرضَ على الإمامِ (عليهِ السلام) ولايةَ العهد فرفضَ الإمامُ إذ عرفَ سوءَ مُراده، فلجأ المأمونُ إلى التهديدِ وبالنتيجةِ قبلَ الإمامُ مُرغماً، فأصدرَ المأمونُ أوامرَه بجلبِ الإمامِ مِن طريقِ البصرةِ إلى الأهوازِ إلى فارسَ إلى خراسانَ دونَ الكوفةِ وقُم لئلّا يتّصلَ بشيعتِه، لكن منَ الطبيعيّ أن يتّصلَ الإمامُ بمُحبّي أهلِ البيتِ (عليهم السلام) في طريقِه إلى مرو، وقد ازدحمَ الناسُ والمُحدّثونَ للسّماعِ منهُ ونقلِ الحديثِ عنه. وقد كانَ المأمونُ راغباً بالتقليلِ مِن شأنِ الإمامِ وذلكَ بجمعِ كافّةِ العلماءِ لمُناظرتِه، طمعاً بأن يُفحمَ أحدُهم الإمامَ، وقد جرَت هذه المناظراتُ مراراً وبشكلٍ علنيّ، إلّا أنّ جميعَ العلماءِ بخعوا وأقرّوا بأنّ الإمامَ هوَ أعلمُ أهلِ الأرض، وهذا ممّا صبَّ في صالحِ الإمامِ حيثُ انتشرَت شعبيّتُه وشعبيّة العلويّينَ أكثر في تلكَ البلاد. العاملُ الرّابع: دورُ الحوزاتِ العلميّةِ في نشرِ التشيّع: كانَ للشيعةِ حواضرُ علميّةٌ في بلدانٍ مُختلفةٍ في بلادِ العجم، وقد تخرّجَ منها الكثيرُ منَ العلماءِ والأكابر، وكانَ لهذهِ الحواضرِ العلميّةِ أثرٌ كبيرٌ في نشرِ التشيّعِ في تلكَ البلادِ سواءٌ بتربيةِ الطلّابِ أو التبليغِ أو تأليفِ الكُتبِ أو غير ذلك. فمدينةُ (سمرقند) مثلاً كانَ فيها أبو النضرِ محمّدٌ بنُ مسعود العياشيّ ـ الذي كانَ عيناً مِن عيونِ الطائفة ـ، وجاءَ في ترجمتِه في [رجالِ النجاشيّ ص351]: « .. أنفقَ أبو النضرِ على العلمِ والحديثِ تركةَ أبيه سائرَها، وكانَت ثلاثمائةَ ألف دينار، وكانَت دارُه كالمسجدِ بينَ ناسخٍ أو مقابلٍ أو قارئ أو مُعلّق، مملوءةً منَ الناس »، وقالَ في ترجمةِ أبو عمرو الكشيّ في [رجالِ النجاشي ص372]: « وصحبَ العيّاشيَّ وأخذَ عنه، وتخرّجَ عليه، وفي دارِه التي كانَت مرتعاً للشيعةِ وأهلِ العلم ». ومنَ الطبيعيّ أنّ هذهِ الدارَ التي حوّلها العيّاشيّ إلى حوزةٍ علميّةٍ ومؤسّسةٍ تحقيقيّةٍ كانَ لها آثارٌ كبيرةٌ في نشرِ التشيّعِ في تلكَ النواحي. وقد كانَت مدينةُ قُم المُقدّسة حاضرةً علميّةً كبيرةً وضخمةً تخرّجَ منها أكابرُ المذهبِ وعظماؤها لفتراتٍ مديدة، وكانَت مدينةُ الريّ حاضرةً علميّةً للشيعةِ أيضاً، وهكذا خراسانُ ونيسابور وبلخ وغيرُها، ولا شكّ أنّه كانَ لهذه الحواضرِ العلميّةِ دورٌ بارزٌ في نشرِ التشيّعِ الحقيقيّ والأصيلِ في تلكَ البلاد. والكلامُ في تفصيلِ هذا العاملِ والعواملِ المُتقدّمةِ طويلٌ عريض، تحريرُه يحتاجُ لكتابةِ مُجلّدٍ كبير. ـ هذه العواملُ المُهمّةُ وغيرُها هيَ السببُ في انتشارِ التشيّعِ في بلادِ الفُرس خصوصاً خراسان في العصرِ العبّاسيّ، ونريدُ الإلفاتَ إلى أمرين: الأوّل: أخذنا بعينِ الاعتبارِ في العواملِ المُتقدّمةِ العواملَ التي أدّت إلى انتشارِ التشيّعِ في بلادِ فارسَ وخراسان في شطرٍ منَ العصرِ العبّاسيّ، وذلكَ في زمانِ الأئمّةِ (عليهم السلام) إلى زمانِ انقضاءِ الغيبةِ الصُّغرى؛ إذ منَ المعلومِ أنّ حُكمَ العبّاسيّينَ استمرّ لأكثرَ مِن خمسمائة سنة، وقد كانَت هناكَ عواملُ أخرى لانتشارِ التشيّعِ في زمانِ الغيبةِ الكُبرى، كتأسيسِ الدولةِ البويهيّة التي كانَ لها تأثيرٌ ولو بحدٍّ ما في هذا المجال. الثاني: أنّ مُصطلحَ التشيّعِ في القرونِ الثلاثةِ الأولى لم يكُن مُستقرّاً على معنى (التشيّعِ العقائديّ) بمعنى الاعتقادِ بأنّ أهلَ البيتِ (عليهم السلام) هُم الخلفاءُ المَنصوبونَ منَ اللهِ تعالى وأنّهم معصومونَ مُطهّرون، وغيرُ ذلك، بل كانَ يُطلقُ في ذلكَ الزمانِ على متابعةِ أهلِ البيتِ (عليهم السلام) ومحبّتِهم والانشدادِ نحوَهم، والتشيّعُ بهذا المعنى يعني المحبّةَ وهوَ (التشيّعُ العاطفيّ) إن صحّ التعبير، وكانَ يُطلق أيضاً على الذينَ يرونَ أهلَ البيتِ (عليهم السلام) أهلاً لقيادةِ الأمّةِ ضدَّ الظلمِ والظالمينَ لكن لا بوصفِهم المنصوبونَ منَ اللهِ تعالى، وهذا ما يُسمّى بـ(التشيّعِ السياسيّ). وانتشارُ التشيّعِ في إيرانَ لا يُرادُ بهِ التشيّعُ العقائديُّ الحقيقيُّ أعني الاعتقادَ بالإمامةِ الإلهيّةِ لأئمّةِ أهلِ البيتِ (عليهم السلام)، بل يرادُ به المعاني الثلاثةُ للتشيّع، وهوَ أنّهم بصفِّ أهلِ البيتِ (عليهم السلام)، سواءٌ في المحبّةِ أو السياسةِ أو الاعتقاد، مقابلَ الخوارِج والأمويّينَ والعبّاسيّينَ وأشباهِهم. والحمدُ للهِ ربِّ العالمين.