كيفَ تركَ الإمامُ السيّدةَ نرجس معَ النخّاسِ على طولِ الطريق؟ ولماذا سألَها هل هيَ بكر؟
السلامُ عليكُم ورحمةُ اللهِ وبركاتُه،أوّلاً: إنَّ الروايةَ المقصودةَ رواها الشيخُ الصدوقُ في [كمالِ الدين ص417]، والشيخُ الطبريّ في [دلائلِ الإمامة ص498]، والشيخُ الطوسيّ في [الغيبةِ ص208]، بإسنادِهم عن محمّدٍ بنِ بحرٍ الرهنيّ عن بشرٍ النخّاس. وفي إسنادِها كلامٌ، حرّرنا طرفاً منهُ في جوابٍ سابق، فيُستحسنُ مُراجعتُه. وقد وردَ في الروايةِ أنّ النخّاسَ قالَ: « أنا بشرٌ بنُ سليمانَ النخّاس، مِن ولدِ أبي أيّوبٍ الأنصاريّ، أحدُ موالي أبي الحسنِ وأبي محمّدٍ (عليهما السلام)، وجارُهما بسرَّ مَن رأى.. كان َمولانا أبو الحسنِ عليٌّ بنُ محمّدٍ العسكريّ (عليهما السلام) فقّهني في أمرِ الرقيق، فكنتُ لا أبتاعُ ولا أبيعُ إلّا بإذنِه، فاجتنبتُ بذلكَ مواردَ الشبهاتِ، حتّى كمُلت معرفتي فيه، فأحسنتُ الفرقَ فيما بينَ الحلالِ والحرام.. ». وذكرَ أنّ الإمامَ (عليهِ السلام) قالَ له: « يا بشرُ، إنّكَ مِن ولدِ الأنصار، وهذهِ الولايةُ لم تزَل فيكُم يرثُها خلفٌ عَن سلف، فأنتُم ثقاتُنا أهلُ البيت، وإنّي مُزكّيكَ ومُشرّفكَ بفضيلةٍ تسبقُ بها سائرَ الشيعةِ في الموالاةِ بها، بسرٍّ أطلُعك عليه، وأنفذُك في ابتياعِ أمة ». فالروايةُ واضحةُ الدلالةِ على أنَّ بشرَ النخّاس منَ الشيعةِ الموالين، ومِن تلاميذِ الإمامِ الهادي (عليهِ السلام)، بل ومِن ثقاتِه وخاصّتِه، معروفٌ لديهم بالوثاقةِ والأمانةِ، والفضيلةِ والشرف. ومثلُ هذا الذي يأتمنُه الإمامُ المعصومُ (عليهِ السلام)، وهوَ حُجّةُ اللهِ على الخلائقِ، لا بدّ أن يكونَ أهلاً لذلك، سيّما أنّ الإمامَ ائتمنَه على شراءِ أمةٍ يكونُ مِنها حُجّةُ اللهِ على الخلائقِ، الذي سيملأ الأرضَ قِسطاً وعدلاً. ثمّ إنَّ إرسالَ الإمامِ الهادي (عليهِ السلام) بشراً النخّاس لهذهِ المُهمّةِ الخاصّة، وعدمُ تصدّيهِ هوَ (عليهِ السلام)، أو أحد أهلِ بيتِه المُقرّبين، لهذا الأمر، قد يرجعُ إلى حساسيّةِ الظروفِ السياسيّةِ والأمنيّةِ التي كانَ يعيشُها الإمامُ (عليهِ السلام) في سامرّاء التي كانَت معقلَ عسكرِ العباسيّينَ، الذينَ كانوا يترقّبونَ ولادةَ المولودَ المُنتظَر الذي سيُحقّقُ العدلَ الإلهيّ في المعمورة، كما كانَت الأجهزةُ الأمنيّةُ لفرعونَ تترقّبُ ولادةَ النبيّ موسى (عليهِ السلام) الذي سيكونُ هلاكُ فرعونَ ومملكتِه على يديه. بمُلاحظةِ هذه الظروفِ الحسّاسةِ، وأنّ بشراً بعدَما اشترى السيّدةَ نرجس وجاءَ بها للإمامِ (عليهِ السلام)، لم يُبقِها الإمامُ في بيتِه، بل أرسلَها فوراً إلى بيتِ السيّدةِ حكيمة (عليها السلام)، كنوعٍ منَ التخفّي عن عيونِ السلطاتِ، تقولُ الرواية: « فقالَ أبو الحسنِ (عليهِ السلام): يا كافورُ، ادعُ لي أختي حكيمةَ، فلمّا دخلت عليهِ قالَ (عليهِ السلام) لها: ها هي، فاعتنقتها طويلاً وسُرَّت بها كثيراً، فقالَ لها مولانا: يا بنتَ رسولِ الله، أخرجيها إلى منزلِك، وعلّميها الفرائضَ والسُّنن، فإنّها زوجةُ أبي محمّدٍ وأمُّ القائم (عليهِ السلام) ». وروايةُ بشرٍ النخّاسِ واضحةُ الدلالةِ على أنّ مجيءَ السيّدةِ نرجس (عليها السلام) مِن بلادِ الروم، كانَ بتخطيطٍ وتدبيرٍ إلهيّ، ثمّ وصولها إلى بيتِ الإمامِ ثمَّ نقلها لبيتِ السيّدةِ حكيمة إلى أن وضعَت بقيّةَ اللهِ الأعظم (عجّلَ اللهُ فرجَه)، كلُّ ذلكَ بعنايةٍ إلهيّةٍ وحراسةٍ ربّانيّة، وسطَ ذاكَ الضغطِ السياسيّ والأمنيّ، والحراسةِ المُشدّدة، {وَيَمكُرُونَ وَيَمكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيرُ المَاكِرِينَ}، كما كانَت ولادةُ النبيّ موسى (عليهِ السلام) وسطَ ذاكَ الظرفِ الأمنيّ الحسّاسِ بعنايةٍ إلهيّة، بل إنّ الضغطَ الأمنيَّ على بيتِ الإمامِ العسكريّ (عليهِ السلام) كانَ أشدَّ بكثيرٍ ممّا كانَ على بيتِ النبيّ موسى (عليهِ السلام). ثانياً: إنّ أمّهاتِ المعصومينَ (عليهم السلام) طاهراتٌ كريماتٌ عفيفات، لا يشينُهنَّ شيءٌ؛ إذ إنّهنَّ أوعيةٌ لتحملَ نورَ اللهِ في الأرض، فيجبُ أن تكونَ الظروف الحاملة لهم طاهرةً مُطهّرةً مُتلائمةً معَ شرافةِ وقداسةِ نورِهم (عليهم السلام)، ما يستدعي أن تكونَ بعنايةٍ إلهيّةٍ ورعايةٍ ربّانيّةٍ. وقد وردَت رواياتٌ عديدةٌ في خصوصِ أمّهاتِ المعصومينَ (عليهم السلام)، وأنّهنَّ بكفالةِ اللهِ ورعايتِه، وأنّ الملائكةَ تحرسُها إلى أن تلدَ الإمامَ المعصوم (عليهِ السلام)، وقد أوضَحنا ذلكَ في بعضِ الأجوبةِ السابقةِ مشفوعةً ببعضِ الروايات.وليسَ في هذهِ الروايةِ أنّ الإمامَ (عليهِ السلام) سألَها: « هل هيَ بكرٌ؟ »، بل جاءَ فيها: أنّ الإمامَ قالَ لبشرٍ النخّاس: « فأشرِف منَ البُعدِ على المُسمّى عمرَ بنَ يزيدٍ النخّاس عامّةَ نهارِك، إلى أن يبرُزَ للمُبتاعينَ جاريةً صفتُها كذا وكذا، لابسةً حريرتينِ صفيقتين، تمتنعُ منَ السفورِ ولمسِ المُعترض، والانقيادِ لمَن يحاولُ لمسَها ويشغلُ نظرَه بتأمّلِ مكاشِفها مِن وراءِ السترِ الرقيق، فيضربُها النخّاسُ، فتصرخُ صرخةً روميّةً، فاعلَم أنّها تقول: واهِتكَ سِتراه، فيقولُ بعضُ المُبتاعين: عليَّ بثلاثمائةِ دينار، فقد زادَني العفافُ فيها رغبةً، فتقولُ بالعربيّة: لو برزتَ في زيّ سليمان، وعلى مثلِ سريرِ مُلكه، ما بدَت لي فيكِ رغبةٌ، فأشفِق على مالِك، فيقولُ النخّاس: فما الحيلةُ ولا بدَّ مِن بيعِك، فتقولُ الجاريةُ: وما العجلةُ، ولا بدَّ مِن اختيارِ مُبتاعٍ يسكنُ قلبي إلى أمانتِه وديانتِه، فعندَ ذلكَ قُم إلى عُمرَ بنِ يزيد النخّاس وقل له: إنَّ معي كتاباً مُلصقاً لبعضِ الأشرافِ كتبَه بلغةٍ روميّةٍ وخطٍّ روميّ.. ». فنلاحظُ أنّ الإمامَ يصفُها بأنّها « تمتنعُ منَ السفورِ ولمسِ المُعترض، والانقيادِ لمَن يحاولُ لمسَها ويشغلُ نظرَه بتأمّلِ مكاشفِها مِن وراءِ السترِ الرقيق »، وأنَّ النخّاسَ كانَ يتجرّأ عليها فتصرخُ قائلةً: (وا هتكَ ستراه)، فهيَ بغايةِ السترِ والعفافِ والطهارةِ والقداسة. وقد أشاعَ الوهابيّونَ أنّ الإمامَ سألَها ذلك، إلّا أنّ ذلكَ مِن أكاذيبِهم ودجلِهم المُتعمّد. نعَم، جاءَ في روايةٍ رواها الشيخُ الكُلينيّ في [الكافي ج1 ص477] أنّ الإمامَ الباقرَ (عليهِ السلام) بعدَما اشترى حميدةً المُصفّاةَ المُطهّرة، « قالَ لها: ما اسمُك؟ قالت: حميدةُ، فقالَ: حميدةٌ في الدّنيا، محمودةٌ في الآخرة، أخبريني عنكِ أبكرٌ أنتِ أم ثيب؟ قالت: بكرٌ، قال: وكيفَ؟ ولا يقعُ في أيدي النخّاسينَ شيءٌ إلّا أفسدوه، فقالَت: قد كانَ يجيئني، فيقعدُ منّي مقعدَ الرجلِ منَ المرأة، فيسلّطُ اللهُ عليهِ رجلاً أبيضَ الرأسِ واللحية، فلا يزالُ يلطمُه حتّى يقومَ عنّي، ففعلَ بي مراراً، وفعلَ الشيخُ به مراراً، فقالَ: يا جعفرُ، خُذها إليكَ، فولدَت خيرَ أهلِ الأرضِ موسى بنِ جعفرٍ (عليهِ السلام) ». وهذهِ الروايةُ ليسَت كما يدندنُ الوهابيّونَ ـ الذينَ سلبَ اللهُ منهُم نورَ العقلِ والفهم ـ، فإنّ سؤالَ الإمامِ (عليهِ السلام) ليسَ استفهاماً حقيقيّاً، بمعنى أنّهُ ليسَ استفهاماً ناشِئاً عن عدمِ العلمِ والمعرفة، فإنّ الإمامَ المعصومَ (عليهِ السلام) عالمٌ غيرُ مُعلّم، فهذا السؤالِ على غرارِ قولِ اللهِ تعالى: {وَمَا تِلكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى}، فإنّ اللهَ تعالى أعلمُ مِن موسى بما في يمينِه، ومعَ ذلكَ سألَه عمّا في يمينِه، فقد يكونُ سؤالُ الإمامِ ليسمعَ الراوي الجوابَ، أي أنَّ جوابَ السؤالِ واضحٌ للإمامِ وإنّما أرادَ إيضاحَه للرّاوي ويزيلُ عنه شائبةَ الشكِّ فيما لو وقعَ في قلبِه شكٌّ أو شُبهةٌ مِن هذهِ الجهة. كما أنّ الروايةَ واضحةُ الدلالةِ على أنّ السيّدةَ حميدةُ (عليها السلام) كانَت بحراسةِ اللهِ وعنايتِه، وأنّ اللهَ وكّلَ أملاكاً لحراستِها وصيانتِها، وقد روى الشيخُ الكُلينيّ في [الكافي ج1 ص477]، والشيخُ الطبريُّ في [دلائلِ الإمامة ص308] عن الإمامِ الصادقِ (عليهِ السلام) قالَ: « حميدةُ مُصفّاةٌ منَ الأدناسِ كسبيكةِ الذهب، ما زالَت الأملاكُ تحرسُها حتّى أُدّيَت إليّ كرامةً منَ اللهِ لي والحُجّة مِن بعدي ». فهذهِ الروايةُ تُعدُّ منَ الرواياتِ الدالّةِ على طهارةِ أمّهاتِ المعصومينَ (عليهم السلام)، لا العكس كما يحاولُ أهلُ الريبِ والزيغِ ـ الذينَ مسخَ اللهُ عقولَهم، فسلبَ منهُم نورَ العقلِ ونعمةَ الفهم ـ الترويجُ له كذباً وزوراً، وما ذلكَ إلّا لِما يشعرونَ به منَ الخِزي والعار الذي لحقَ كبراءَهم وأسلافَهم، ولهذا يحسّنونَ العارَ ويعدّونها فضيلةً، في حينِ يقبّحونَ الطهارةَ والعفّةَ والنقاءَ والشرافةَ والقُدسيّةَ في محمّدٍ وآلِ محمّد (صلواتُ اللهِ عليهم). والحمدُ للهِ ربِّ العالمين.
اترك تعليق