علماني يقول:أنَّ الإسلامَ هوَ سببُ الاختلافِ والفرقة,فهُم مُختلفونَ فيما بينَهم في كلِّ شيءٍ!!!
سلامٌ عليكم، يطرحُ أحدُ العلمانيّينَ ما نصُّه: يغضبُ الإسلاميّونَ مِن مُخالفيهم باعتبارِ أنّهم مُخالفونَ للدّين، وقد يكونُ ذلكَ أمراً مُتفهّماً إذا كانوا هُم مُتّفقينَ على رؤيةٍ دينيّةٍ واحدة، فهُم مُختلفونَ فيما بينَهم في كلِّ شيءٍ في التوحيدِ والنبوّةِ والإمامةِ والأحكامِ الفقهيّةِ، فالدينُ بالنسبةِ لهم نقطةُ اختلافٍ لا توافق، ومعَ ذلكَ يريدونَ لهذا الدينِ أن يحكُم.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته : يبدو أنَّ الغضبَ مُتبادلٌ وليسَ مِن اتّجاهٍ واحدٍ، فكما يغضبُ الإسلاميّونَ منَ العلمانيّينَ بنفسِ المقدارِ يغضبُ العِلمانيّونَ مِنهم، وبالتالي لا يهمُّنا التحليلُ النفسيُّ الذي ساقَه كمُقدّمةٍ، بل الذي يهمُّنا هوَ الوقوفُ على الرؤيةِ التي حاولَ تمريرَها، وهيَ اتّهامُ الدينِ بأنّه سببُ الفُرقةِ وبالتالي يجبُ ألّا يُسمحَ له بالوصولِ إلى الحُكم. وقبلَ مُناقشةِ هذه الرؤيةِ لابدَّ منَ الإشارةِ إلى أنَّ العلمانيّينَ أيضاً يعيشونَ خِلافاً وتبايناً في الرؤى فيما بينَهم، فكما لم يمنعهم هذا الاختلافُ منَ التوحّدِ ضدَّ الإسلاميّينَ كذلكَ لم يمنَع اختلافُ الإسلاميّينَ منَ التوحّدِ ضدَّ العلمانيّين، فهناكَ فرقٌ بينَ الاختلافِ داخلَ الدائرةِ الواحدةِ وبينَ الاختلافِ معَ الدوائرِ الأخرى التي تقعُ على النقيضِ مِنها، فاختلافُ الإسلاميّينَ ليسَ في أصلِ الدينِ كضرورةٍ، وإنّما هوَ اختلافٌ في بعضِ التفاصيلِ أو في تحديدِ بعضِ المفاهيم، وهذا النوعُ منَ الاختلافِ لا يمنعُ مِن أصلِ انتمائهم جميعاً للإسلام، فالجميعُ يتعاملُ معَ الإسلامِ كضرورةٍ لا يمكنُ الاستغناءُ عنها، بينَما اختلافُهم معَ العلمانيّينَ قد يصلُ في بعضِ صورِه إلى اختلافٍ بينَ الدينِ واللادين، وهذا كافٍ لخلقِ هذا التناقضِ بينَ التوجّهين. أمّا القولُ بأنَّ الإسلامَ هوَ سببُ الاختلافِ والفرقة، أقلُّ ما يقالُ فيه أنّه موقفٌ مُتحيّزٌ وغيرُ موضوعي، لأنَّ الاختلافَ الفكريَّ والتباينَ في وجهاتِ النظرِ له علاقةٌ بطبيعةِ الإنسانِ لا بطبيعةِ الأفكار، والبشريّةُ دوماً في حالةٍ منَ الاختلافِ سواءٌ تبنَّتِ الإسلامَ أو تبنّت العلمانيّة، ومِن هُنا لا يمكنُ أن نُرجعَ سببَ الاختلافِ بينَ الإسلاميّين إلى الإسلامِ كدين، وإنّما يجبُ إرجاعُه إلى طبيعةِ الإنسانِ كإنسانٍ إسلاميّاً كانَ أم علمانيّاً، فمُشكلةُ المعرفةِ في كثيرٍ مِن جوانبِها مُشكلةٌ ذاتيّةٌ ولها علاقةٌ بالتباينِ في طبيعةِ التركيبةِ النفسيّة، والإنسانُ في العادةِ يقاربُ الأفكارَ مِن موقعِه الشخصيّ وبحسبِ انطباعِه الذاتي. وفي المُقابلِ نجدُ الإسلامَ بنفسِ المقدارِ الذي قرّرَ فيهِ الحُريّةَ الفكريّة يُقرّرُ أيضاً الوحدةَ والتماسكَ بينَ اتباعِه، فخاطبَ المُخالفَ بقولِه: (وَقُلِ الحَقُّ مِن رَّبِّكُم ۖ فَمَن شَاءَ فَليُؤمِن وَمَن شَاءَ فَليَكفُر)، وخاطبَ اتباعَه بقولِه: (وَاعتَصِمُوا بِحَبلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ۚ وَاذكُرُوا نِعمَتَ اللَّهِ عَلَيكُم إِذ كُنتُم أَعدَاءً فَأَلَّفَ بَينَ قُلُوبِكُم فَأَصبَحتُم بِنِعمَتِهِ إِخوَانًا)، فكيفَ بعدَ ذلكَ يتّهمُ الإسلام بأنّه سببٌ في الفُرقةِ والاختلاف؟ وقد تبرّءَ القُرآنُ منَ الذينَ فرّقوا دينَهم في قولِه تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُم وَكَانُوا شِيَعًا لَّستَ مِنهُم فِي شَيءٍ) فكونُ الإسلامِ ديناً واحداً لا يتعارضُ معَ وجودِ تباينٍ في وجهاتِ النظرِ بين أتباعِه، فالحدُّ المُشترَكُ الذي يجمعُ أهلَ القبلةِ هوَ الذي يمثّلُ الهويّةَ الجامعةَ للمُسلمين، وهوَ الاعتقادُ باللهِ ربّاً وبمحمّدٍ رسولاً وبالقرآنِ كتاباً وغيرِ ذلكَ منَ التفاصيلِ الاعتقاديّةِ مثل الإيمانِ باليومِ الآخرِ والملائكةِ والنبيّينَ ثمَّ بعدَ ذلكَ يأتي الإيمانُ والتصديقُ بالشرائعِ التي تُميّزُ المُسلمَ عن غيرِه مِن أتباعِ الدياناتِ السماويّةِ الأخرى مثل الصّلاةِ والصومِ والحجِّ.. ومنَ الواضحِ أنّه لا إشكالَ في الأمّةِ الإسلاميّةِ فيما يخصُّ مُحدّداتِ الهويّةِ الإسلاميّة، وما هوَ موجودٌ مِن اختلافٍ له علاقةٌ بالمُحدّداتِ المذهبيّة، وهيَ مُحدّداتٌ تمثّلٌ عملاً اجتهاديّاً داخلَ الدائرةِ الإسلاميّة، وهوَ أمرٌ مقبولٌ طالما كانَ قائِماً على الضوابطِ العقليّةِ والمناهجِ العلميّة، وبعدَ ذلكَ تظلُّ مساحةُ الحوارِ تجمعُ الجميعَ في طاولةٍ واحدة.ومِن هُنا يمكنُنا القولُ أنَّ الإسلامَ دينٌ واحد، ويتضمّنُ حقائقَ مُحدّدةً أرادَ إيصالَها للبشرِ، إلّا أنَّ الإنسانَ بتركيبتِه المُعقّدةِ جدّاً لا يقاربُ الأشياءَ بصرامةِ المنهجِ الموضوعيّ، وإنّما يقاربُها بما ينسجمُ معَ ظرفِه ونفسيّتِه ومصلحتِه، فلا يرى الحقائقَ كما هيَ، وإنّما يراها بالشكلِ الذي يحبُّ هوَ أن يراه، ومِن هُنا نفهمُ تأكيدَ الإسلامِ على ضرورةِ تهذيبِ النفسِ وتوخّي الحقِّ ونبذِ التعصّبِ وعدمِ اتّباعِ الظنونِ، بوصفِها وصايا تعملُ على منعِ الذاتِ منَ التحكّمِ في التفكيرِ الموضوعيّ للإنسان، وعدمُ التزامِ الإسلاميّينَ بذلكَ لا يتحمّلُ مسؤوليّتَه الإسلام، فالأمرُ الذي يُقرّه جميعُ العُقلاءِ وأكّدَ عليهِ القرآنُ هوَ أنَّ البرهانَ والدليلَ العلميَّ هوَ المرجعُ في جميعِ الاختلافاتِ بينَ البشر، قالَ تعالى: (قُل هَاتُوا بُرهَانَكُم إِن كُنتُم صَادِقِينَ)، فالبرهانُ هوَ الوحيدُ الذي يجبُ أن يسود، والمنطقُ السليمُ هوَ الذي يجبُ أن يحكُمَ بينَ جميعِ المُختلفين، أمّا القطعيّةُ والتكفيرُ وكلُّ مظاهرِ التعصّبِ فليسَت مِن طبيعةِ الإسلامِ ولا مِن طبيعةِ العُقلاء، والاختلافاتُ التي تحدثُ في ظلِّ المناهجِ العلميّةِ اختلافاتٌ مقبولةٌ طالما تتحرّكُ جميعُها في دائرةِ المناهجِ العلميّة، ومِن هُنا فإنَّ الاعترافَ بالتباينِ ضرورةٌ تفرضُها الطبيعةُ الإنسانيّة كما أنَّ الاعترافَ بالحقائقِ المُحدّدةِ ضرورةٌ تفرضُها طبيعةُ الرسالةِ الإلهيّة، والجامعُ بينَ الأمرينِ هوَ الفهمُ القائمُ على الضوابطِ العلميّة، وعدمُ التزامِ الإسلاميّينَ لا يضيرُ الإسلامَ في شيء. أمّا عدمُ صلاحيّةِ الإسلامِ للحُكمِ ففيهِ تحاملٌ أيضاً، لأنَّ النظرَ إلى التجاربِ الإسلاميّة في العملِ السياسيّ لا تُعبّرُ بالضرورةِ عمّا أرادَه الإسلامُ، وقد قُلنا في إجابةٍ سابقةٍ، أنَّ الانطلاقَ منَ التاريخِ السياسيّ في العالمِ الإسلاميّ أو البحثَ بينَ الخياراتِ الإسلاميّة المطروحةِ في واقعِنا المُعاصِر قد يقودُنا إلى صورةٍ مُنفّرة، إلّا أنّنا إذا ابتعَدنا عن هذا الواقعِ وبحَثنا في النصِّ الدينيّ بعيداً عن ثقافتِنا المُنهزمةِ وما يحملهُ الواقعُ مِن خيباتٍ وتعاملنا معَه بوصفِه قيماً ومعاييرَ أخلاقيّةً لا يسعُنا إلّا الاعترافُ بكونِه هوَ الحلُّ، فأسبابُ تخلّفِ الأمّةِ هوَ في ابتعادِها عن القيمِ الحضاريّةِ التي نادى بها الإسلامُ، فالعلمُ والعملُ والتقدّمُ والتطوّرُ والعدلُ والحُرّيّةُ والمساواةُ والتنميةُ وغيرُ ذلكَ مِن قيمِ النهوضِ تُمثّلُ قيماً إسلاميّةً لا تتمُّ العبادةُ للهِ إلّا بها، كما أنَّ الضّميرَ الأخلاقيَّ الذي يُنمّيهِ الدينُ في نفسيّةِ الأمّةِ هوَ الضامنُ لحصانةِ الأمّةِ منَ الانحرافِ، إلّا أنَّ الأمّةَ تخلَّت عن قيمِها وعن ضميرِها الأخلاقيّ فكانَ هذا هوَ حالُها. وعليهِ السياسةُ في الإسلامِ يجبُ أن تكونَ حركةً أخلاقيّةً تسعى لبناءِ مُجتمعٍ تقومُ روابطهُ على قيمِ الحقِّ والفضيلةِ، وتعملُ على رفضِ كلِّ المظالمِ بما فيها الاضطهادُ السياسيُّ والاستئثارُ بالسُّلطة، وتسعى لتحقيقِ العدلِ والمساواةِ وإقامةِ الحقوقِ وتحقيقِ الرفاهِ والتنمية، والدفعِ بالأممِ والمُجتمعاتِ إلى للأمام، لتحقيقِ تكاملِ الإنسانِ وبناءِ حضارةِ الإسلام، وتتوسّلُ السّياسةُ في الإسلامِ لتحقيقِ ذلكَ بالصّدقِ والإخلاصِ وكلِّ قيمِ الفضيلةِ والأخلاق. وهذا الواقعُ الطموحُ هوَ الذي يجبُ أن يتمسّكَ بهِ الجميعُ؛ لأنّه يُمثّلُ الفهمَ الذي يتعاملُ معَ الإسلامِ بوصفِه رسالةً للحياةِ وليسَ رسالةً تتعاملُ معَ الإنسانِ فقط بعدَ الموتِ وفي عالمِ الآخرة. فالإنسانُ في النظرةِ العلمانيّةِ والمادّيّةِ يختلفُ عن الإنسانِ في نظرةِ الرسالاتِ السماويّة، ومِن خلالِ هذا التباينِ بينَ النظرتينِ تتباينُ القيمُ الناظمةُ لحياةِ الإنسان، وحينَها لا يمكنُ إيجادُ قواسمَ مُشتركةٍ أو معاييرَ مُتّفقٍ عليها يمكنُ أن تُرجّحَ لنا بينَ النظرتين، الأمرُ الذي يوسّعُ دائرةَ الحوارِ ليعودَ بنا مِن جديدٍ للسّؤالِ الفلسفيّ الكبير، ما هوَ الإنسانُ ولماذا وُجدَ وما هوَ الهدفُ مِن وجوده؟ وفي ظنّي أنَّ إهمالَ هذا السؤالِ أو الإجابةَ عنه في إطارِ البُعدِ الماديّ هوَ السببُ وراءَ الاختلافِ بينَ الإسلامِ والعلمانيّة.ومنَ الصّعبِ التفصيلُ هُنا في البناءِ الفلسفيّ للإسلامِ ومِن ثمَّ المقارنةُ بينَه وبينَ الفلسفةِ المادّيّةِ التي حصرَت الإنسانَ في بُعدِ اللذّةِ والشهوةِ وتسخير الإنسانِ مِن أجلِ السّعي الدائمِ للحصولِ على المزيدِ منَ المكاسبِ المادّيّة، إلّا أنّنا نؤكّدُ فقط على أنَّ الإسلامَ يحتفظُ بمعانٍ خاصّةٍ للإنسانِ وللمُجتمعِ وللحياةِ وللسعادةِ، ومنَ المعيبِ مصادرةُ تلكَ المعاني لصالحِ معانٍ أخرى أوجدَتها العلمانيّةُ الماديّة، فمثلاً نمطُ الحياةِ الغربيّة بوصفِها الصّورةَ المثاليّةَ للعلمانيّةِ ليسَت إلّا تشويهاً للإنسانِ ومسخاً للحياةِ وتدميراً للمُجتمعِ في نظرةِ الإسلام.وعليهِ نحنُ لا نُسلّمُ بأنَّ العلمانيّةَ هيَ الخيارُ المثاليّ للإنسانِ كما لا نُسلّمُ بالتقييماتِ العلمانيّةِ لصورةِ الحياةِ الاجتماعيّةِ والسياسيّة، وفي نفسِ الوقتِ لا ندافعُ عن الوضعِ الراهنِ أو التاريخيّ للإنسانِ المُسلم، فالعلمانيّةُ قد تمكّنَت مِن صُنعِ واقعِها الاجتماعيّ والسياسيّ الذي ينسجمُ مع رؤيتِها الفلسفيّة، في حينِ أنَّ المُسلمينَ لم يصنعوا بَعد واقعَهم السياسيّ والاجتماعيّ الذي يتماشى معَ فلسفةِ الإسلامِ حولَ الإنسانِ والمُجتمع، وهذا عجزٌ نعترفُ به ونسعى لتفاديهِ إلّا أنَّ الصّورةَ الكاملةَ للمُجتمعِ الإسلاميّ سوفَ تكتملُ عندَ ظهورِ الإمامِ المهديّ المُنتظر وحينَها ستتّضحُ المسافةُ الفاصلةُ بينَ الإسلامِ وبينَ كلِّ التوجّهاتِ المادّيّة.
اترك تعليق