أيهما مقدم على الأخر الإنسانية أم الدين؟

هل الإنسانيّةُ مُقدّمةٌ على الدّينِ والتديّن؟؟ وما هيَ الإنسانيّةُ التي يقصدونها؟؟ فهَل هيَ العقل؟؟ أم الأخلاق؟؟ الإنسانُ وسلوكُه الحسن؟؟ أم شيءٌ آخر..

: الشيخ معتصم السيد احمد

الجواب:

مُلخّصُ الإجابة:

غيابُ مفاهيمَ واضحةٍ للدّينِ والإنسانيّة هوَ الذي شكّلَ نوعاً منَ التضادِّ والتناقضِ بينَهما، الأمرُ الذي جعلَ المُناهضينَ للدّينِ يتّخذونَ موقفاً سلبيّاً منَ الأديان، وجعلَ بعضَ المُتديّنينَ يتّخذونَ موقفاً سلبيّاً منَ الإنسانيّة.

فالإنسانُ في الثقافةِ العصريّةِ تمَّ حصرُه في البُعدِ الطبيعيّ والمادّيّ بعيداً عن المُعطى القيميّ والأخلاقي، وتمَّ تفسيرُ الإنسانِ غرائزيّاً وبحسبِ ما تُملي عليهِ حُرّيّتُه الشخصيّة، حتّى أحاسيسُه ومشاعرُه هيَ في الواقعِ ليسَت إلّا نتاجاً للطبيعةِ المُتأصّلةِ فيه.

والعقلُ ضمنَ هذا التصوّرِ فاقدٌ للسّلطةِ وخاضعٌ بشكلٍ دائمٍ لميولاتِ النفسِ ورغباتها.

فالحُرّيّةُ الشخصيّةُ المُتأصّلةُ في هذهِ الثقافةِ تعملُ على تحطيمِ كلِّ القيمِ والمبادئِ الأخلاقيّة، فلا يسمحُ للإنسانِ بالتفكيرِ في المعاني الروحيّةِ والبحثِ عمّا هوَ مُقدّس؛ لأنَّ ذلكَ يمنعُ الإنسانَ منَ الذوبانِ التامِّ في جانبِه الطبيعيّ والمادّي، وحتّى لو تمَّ الحديثُ عن القيمِ الأخلاقيّةِ فلا يتعدّى ذلكَ الدوافعَ الطبيعيّةَ القائمةَ على الأنانيّةِ والحرص ِعلى البقاءِ والمَنفعة.

فالأنظمةُ والقوانينُ التي يتمُّ التوافقُ عليها تستهدفُ في الحقيقةِ الحفاظَ على البقاءِ المادّيّ للإنسان، وهكذا فالإنسانُ في هذه الثقافةِ هوَ جزءٌ لا يتجزّأ منَ الطبيعة، بخلافِ النظرةِ الدينيّةِ التي تجعلُ الإنسانَ جُزءاً يتجزّأ منَ الطبيعة.

فلو استحالَ على الإنسانِ مفارقةُ الطبيعةِ مِن خلالِ بُعدِه الرّوحيّ والمعنويّ، فحينَها سيكونُ مُتبدّلاً ومتحوّلاً مثلَ الطبيعةِ والمادّة، وبذلكَ تنعدمُ الثوابتُ وتتلاشى المُشتركاتُ الإنسانيّة على المُستوى المعرفيّ والأخلاقيّ.

وعليهِ عندَما تتحدّثُ الثقافةُ الغربيّةُ عن الإنسانِ كمبدأ أساسيّ إنّما تتحدّثُ عن الإنسانِ الطبيعيّ ذو البُعدِ الواحدِ وهوَ البُعدُ المادّي، أي الإنسانُ الخارجُ عن حدودِ القيمِ الأخلاقيّة، الأمرُ الذي يجعلُنا نتأكّدُ مِن ضبابيّةِ الشعاراتِ الإنسانيّةِ التي تتبنّاها الثقافةُ الغربيّة.

فكيفَ يمكنُنا أن نتفهّمَ قيمةَ الإنسانيّةِ والإنسانُ ليسَ شيئاً خارجاً عَن المادّةِ العمياء؟

فعدمُ الاعترافِ بالرّوحِ الإنسانيّةِ المُرتبطةِ بمصدرِ الكمالِ الغيبيّ لا يبقى معَه وجودٌ لأيّ مُبرّرٍ للقيمِ أو الفضائلِ أو الأخلاق.

فالحُرّيّةُ كقيمةٍ إنسانيّةٍ والديمقراطيّةُ والعلمانيّةُ والعقلنةُ والأسسُ العلميّةُ كلُّ ذلكَ جاءَ في إطارِ النظرةِ الطبيعيّةِ والمادّيّةِ للإنسان، حيثُ تتحرّكُ كلّها في إطارِ تكريسِ الجانبِ المادّيّ والأنانيّ في الإنسان.

ومِن هُنا تختلفُ مُقاربتُنا لهذهِ القيمِ عندَما ننظرُ إليها كموحّدينَ ومؤمنينَ باللهِ تعالى.

ومنَ الخطأ تحميلُ الثقافةِ الغربيّةِ وما يقعُ خلفَها مِن فلسفاتٍ مسؤوليّةَ هذا التباينِ والاختلاف، وإنّما الخطابُ الدينيُّ ساهمَ بشكلٍ كبيرٍ في خلقِ هذهِ التيّاراتِ المُناهضةِ للأديان، والسببُ في ذلكَ هوَ فشلُه في تقديمِ مفهومٍ واضحٍ للأديانِ يستبطنُ معَه مفهومَ الإنسانيّة.

وبمعنىً آخر: لم يتمَّ تقديمُ الدينِ بوصفِه مشروعاً مِن أجلِ الإنسان، فبدلَ أن يدورَ الدينُ حولَ الإنسان أصبحَ الإنسانُ هوَ الذي يدورُ حولَ الدين، وبذلكَ غابَ الإنسانُ والقيمُ الإنسانيّةُ مِن مشهدِ الخطابِ الدينيّ، ولقد رأينا منَ المناسبِ في تفصيلِ الإجابةِ مناقشةُ إشكاليّةِ المفهومِ الدينيّ بعيداً عن إشكاليّةِ مفهومِ الإنسانيّة.

تفصيلُ الجواب:

في الأساسِ ليسَ هناكَ تقابلٌ أو تعارضٌ بينَ الإنسانيّةِ والدينِ حتّى نضطرَّ لتقديمِ أحدِهما على الآخر.

ومعَ ذلكَ لا يمكنُ أن نغضَّ الطرفَ عن حجمِ التبايناتِ بينَ الخطاباتِ الدينيّةِ والخطاباتِ العلمانيّة، فالساحةُ الفكريّةُ والثقافيّةُ تشهدُ جدلاً مُتصاعداً حولَ مفهومِ الدينِ ومفهومِ الإنسانيّة، الأمرُ الذي تسبّبَ في إحداثِ نوعٍ منَ التقابلِ والتعارضِ بينَ المفهومين.

فلا التيّاراتُ الدينيّةُ تمكّنَت مِن تقديمِ مفهومٍ للدينِ يستبطنُ معَه مفهومَ الإنسانيّة، ولا التيّاراتُ المُناهضةُ للأديانِ تمكّنَت مِن تقديمِ مفهومٍ للإنسانيّةِ يستبطنُ فيهِ الدّينَ والتديّن.

والمناقشةُ التفصيليّةُ لهذهِ الإشكاليّةِ تستوجبُ بحوثاً في مجالاتٍ مُتعدّدةٍ تشملُ أزمةَ الخطابِ الإنسانيّ منذُ عصرِ الحداثةِ الغربيّة وما بعدَ الحداثة، كما يشملُ أزمةَ الخطاباتِ الدينيّةِ سواءٌ كانَ بينَ الأديانِ أو بينَ المذاهبِ داخلَ الدينِ الواحد، وبما أنَّ المجالَ لا يسعُ لذلكَ ارتأينا أن تكونَ الإجابةُ على هذا السؤالِ بمثابةِ التصوّرِ الأوّليّ لحجمِ الإشكاليّةِ والطريقةِ المُثلى لمُعالجتها.

يتّفقُ الجميعُ على وجودِ صراعٍ بينَ أصحابِ الأديان، وينحصرُ الصراعُ حولَ الأحقيّةِ والتمثيلِ الحصريّ للإله.

كما يشتعلُ صراعٌ آخر بينَ التيّاراتِ الدينيّةِ والتيّاراتِ اللّادينيّة، ويتلخّصُ الصراعُ بينَهم حولَ ضرورةِ الدينِ والإلهِ أو عدمِ ضرورتِه.

وهذا الوصفُ المُقتضبُ يفتحُ البابَ أمامَ حوارٍ داخليٍّ بينَ أصحابِ الأديانِ، وحوارٍ خارجيّ معَ مَن يرفضُ الأديان، وحتميّةُ هذهِ الحواراتِ تقتضيها الطبيعةُ الثقافيّةُ للإنسانِ أوّلاً، والمصيرُ الإنسانيُّ المُشتركُ ثانياً، وإلّا فالحُرّيّةُ المُتأصّلةُ في الجميعِ تتيحُ أمامَ الإنسانِ كلَّ الخياراتِ فمَن شاءَ فليؤمِن ومَن شاءَ فليكفُر.

ومنَ الواضحِ أنَّ الذي حدثَ بينَ الأديانِ أو حتّى بينَ المذاهبِ داخلَ الدينِ الواحدِ ليسَ حواراً يؤكّدُ على الجانبِ الإنسانيّ المُشترك، وإنّما وصلَ إلى مُستوى الصراعِ الذي لا يعترفُ للآخرِ بحقِّ الوجود، سواءٌ كانَ عدمُ الاعترافِ مُجرّدَ فكرةٍ ومُعتقدٍ أو كانَ مُمارسةً عمليّةً أريقَت فيها الدّماء.

والاعترافُ بهذا المشهدِ المُظلمِ في التاريخِ البشريّ يفتحُ بابَ البحثِ عن الأسبابِ التي قادَت الأديانَ لهذهِ الخيارات.

ويبدو أنَّ السؤالَ المركزيَّ الذي يفتحُ البابَ لفهمِ هذهِ الظاهرة؛ هوَ السؤالُ الذي يبحثُ عن الموقعِ الطبيعيّ للدينِ في حياةِ الإنسان، وفي أيّ حيّزٍ يجبُ أن يُفهمَ الدّين؟

وبصياغةٍ أكثرَ مُباشرةً هل ارتباطُ الإنسانِ بالمُطلقِ ينقلُه مِن حالةِ النسبيّةِ إلى حالةِ الإطلاق؟ فتصبحُ لحظةُ التديّنِ لحظةً فارقةً في حياةِ الإنسانِ يتحوّلُ معَها فهمُه وإدراكُه واستيعابُه للحقائقِ مِن بُعدٍ إنسانيٍّ إلى بُعدٍ إلهيّ؟ فيكونُ هوَ الإلهُ أو المُمثّلُ الحصريّ عَن ذلكَ الإله؟

فإذا كانَ الدينُ هوَ نسبةً رابطةً بينَ الإنسانِ كمخلوقٍ وبينَ اللهِ كخالق، بمعنى أنَّ هناكَ طرفينِ للظاهرةِ الدينيّة:

الطرفُ الأوّل: هوَ الإنسانُ الذي قادَه إحساسُه بالنقصِ والفقرِ والحاجةِ للارتباطِ بالطرفِ الثاني: الذي هوَ الإلهُ مصدرُ الكمالِ والجمالِ والإطلاق.

والنتيجةُ المُتحصّلةُ مِن هذهِ العلاقةِ يمكنُ تصوّرُها في بُعدين:

البُعدُ الأوّل: أنَّ الإحساسَ الداخليَّ المُتأصّلَ في الإنسانِ يزدادُ كلّما ازدادَ ارتباطُه بالله، فيشعرُه بالنقصِ الأبديّ والحاجةِ التي لا تنقضي، فكلّما زادَ تديّنُه ازدادَ إحساساً بنقصِه وحاجتِه، أي كلّما تعمّقَ ارتباطُه باللهِ ازدادَ إحساساً بإنسانيّتِه، فيكونُ الإنسانُ إنساناً وهوَ في عُمقِ تديّنِه.

والتديّنُ في هذهِ الصورةِ يعتمدُ على الاعتدالِ والتوازنِ بينَ معرفةِ الذاتِ ومعرفةِ الله، والمؤكّدُ أنَّ الحفاظَ على هذا التوازنِ مِن أصعبِ مراحلِ التديّن، فإذا كانَ الدينُ أساساً قائماً على نسبةٍ رابطةٍ بينَ الخالقِ والمخلوق، فإنَّ أيَّ خللٍ في هذهِ النسبةِ ينعكسُ سلباً على مفهومِ الدينِ عندَ الإنسان.

والبُعدُ الثاني: أنَّ ارتباطَ الإنسانِ باللهِ يُشعرُه بالتغلّبِ على إحساسِ النّقصِ الوجوديّ؛ فتتقلّصُ عندَه المسافةُ الفاصلةُ بينَه وبينَ الله حتّى يفقدَ شعورَه بذاتِه، على النحوِ الذي يغيبُ معَه إحساسُ الإنسانِ بإنسانيّتِه، فيتقمّصُ دورَ الإلهِ ويُعطي نفسَه حقَّ الحديثِ نيابةً عنه والتصرّفَ باسمِه وكأنّه المُمثّلُ عنه.

وهذا الشعورُ الخادعُ له تمظهراتٌ على مستوى الفردِ والجماعة، بل قد يكونُ هوَ الغالبُ والمهيمنُ على مشهدِ الصّراعِ بينَ الأديان.

وهذا التمايزُ بينَ البُعدين ليسَ مُجرّدَ تحليلٍ نفسيٍّ لظاهرةِ التديّن؛ بل يمكنُ التأصيلُ له معرفيّاً وعقديّاً وإيمانيّاً، فطبيعةُ الجدلِ الفِكريّ بينَ الأديانِ والتعصّبِ الواضحِ للأفكارِ ليسَ إلّا مظهراً للرؤيةِ الواحدةِ التي تقطعُ الطريقَ أمامَ الرّؤى الأخرى، والتأكيدُ المُستمرُّ على الامتيازِ العَقدي والإيمانيّ ليسَ إلّا تنافساً على التمثيلِ الحَصريّ للإله.

وإذا استعَرنا الصّراعَ المذهبيَّ في الإسلام وما وقعَ مِن نقاشٍ في علمِ الكلام سوفَ نقفُ على شواهدَ كثيرةٍ تُعزّزُ هذهِ الحالة.

وبهذهِ الإشارةِ نقفُ على بحثٍ يكتنفُه الكثيرُ منَ التعقيدِ وبخاصّةٍ في الدائرةِ الإسلاميّة، فشعورُ كلِّ إنسانٍ أو جماعةٍ بأنّها على الحقِّ شعورٌ طبيعيٌّ بل ضروريّ، وإقامةُ البراهينِ والاستدلالِ على هذا المُدّعى أمرٌ مطلوبٌ، وبالتالي الحوارُ الفِكريُّ بينَ الأديانِ والمذاهبِ نتيجةٌ حتميّةٌ أبديّة.

وعليهِ كيفَ يمكنُنا الدفاعُ عن فِكرتين قد يكونُ مُؤدّى كلِّ واحدةٍ نفيٌ للأخرى؟

فالفكرةُ الأولى: إحساسُ أصحابِ كلِّ دينٍ أنّهم التمثيلُ الحصريُّ للإله، وهذهِ دعوى منَ الصّعبِ التسليمُ بها، فمُصادرةُ الحقِّ عن الآخرينَ وادّعاءُ التمثيلِ الحصريّ للإلهِ لا يتأتّى إلّا لرسولٍ أو إمامٍ معصوم.

وعدمُ قبولِ هذه الدّعوى نابعٌ مِن إدراكٍ واقعيٍّ لحقيقةِ الإنسان ومحدوديّتِه، فالإنسانُ مَهما بلغَ منَ الشأنِ لابدَّ له أن يعترفَ بأنَّ ﴿وَفَوقَ كُلِّ ذِي عِلمٍ عَلِيمٌ﴾ وبالتالي لا يمكنُ جعلُ سقفٍ يُمثّلُ حدّاً للكمالِ العِلمي.

والفكرةُ الثانية: التي هيَ واقعٌ لابدَّ مِنه وضرورةٌ لا يُستغنى عَنها، هوَ شعورُ كلِّ جماعةٍ بأنّها على الحقِّ بناءً على ما عندَها مِن مُعطيات، بالتالي مِن حقّها أن تصرّحَ بذلكَ وتدافعَ عنه وترفضَ ما تراهُ باطلاً، وبذلكَ تتّسعُ مساحةُ الحوارِ بينَ الأديانِ على قاعدةِ (قُل هَاتُوا بُرهَانَكُم إِن كُنتُم صَادِقِينَ).

وقد يتصوّرُ البعضُ أنّه لا فرقَ بينَ الفِكرتين فهُما مُتّفقتانِ في الجوهرِ مُختلفتان في الصياغةِ والعرض، إلّا أنَّ الفارقَ الذي تجدرُ الإشارةُ إليه هوَ أنَّ العقلَ الإنسانيَّ معَ كونِه قادِراً على معرفةِ الأشياءِ والعلمِ بها إلّا أنّه يجعلُ البابَ مفتوحاً لمزيدٍ منَ التحقيق.

ووصفُ البعضِ للعقلِ بالدوغمائيّةِ أحياناً وصفٌ غيرُ واقعي؛ لأنَّ العقلَ بطبعِه مُتطلّعٌ دوماً إلى الحقيقةِ ومُنفتحٌ لمعرفةِ المزيد.

وإنّما النفسُ الإنسانيّةُ هيَ المسؤولةُ عن التعصّبِ وإغلاقِ منافذِ الحقيقة.

ومِن هُنا يمكنُنا القولُ أنَّ القطعَ بالحقيقةِ بالنحوِ الذي يغلقُ بابَ البحثِ والتحقيقِ هوَ فعلُ النفسِ وليسَ للعقلِ دخلٌ فيه.

والمعالجاتُ المطروحةُ لنزعِ هذا الاشتباكِ بينَ الأديان:

إمّا أنّها قائمةٌ على التأكيدِ على نسبيّةِ الإنسان، وبالتالي: التشكيكُ في قُدرةِ الإنسانِ على امتلاكِ الحقيقة.

أو قائمةٌ على عدمِ الاعترافِ بالحقيقةِ الدينيّةِ منَ الأساس، وبالتالي رفضُ الأديانِ بالجُملة.

وقد أثمرَت بعضُ الجهودِ نقاشاتٍ مقبولةً.

إلّا أنَّ الاصطفافَ مازالَ واسعاً بينَ أصحابِ الأديانِ مِن جهةٍ، وبينَهم وبينَ المدارسِ اللا دينيّةِ مِن جهةٍ أخرى.

فأصحابُ الأديانِ يؤكّدونَ على حقِّهم في التعبيرِ عن الحقيقةِ الإلهيّة، في قبالِ التوجّهاتِ التي تصادرُ حقَّ الأديانِ في الوجود، أو على الأقلِّ التي تدعو للنسبيّةِ الدينيّة.

وما نحبُّ الإشارةَ إليه يتمحورُ في بُعدين:

البعدُ الأوّل: فضُّ النزاعِ بينَ أصحابِ الأديانِ أنفسِهم، بإيجادِ تصوّرٍ للدينِ يجعلُ وظيفةَ الأديانِ هيَ خدمة الإنسانِ وليسَت خدمة الإله.

البعدُ الثاني: يتعلّقُ بالتيّاراتِ الدينيّةِ واللا دينيّة، ومحاولةُ فضِّ النزاعِ الدائرِ بينَ الضرورةِ واللا ضرورة، وذلكَ بفتحِ النقاشِ حولَ أصلِ الحاجةِ إلى الأديان. ولا يمكنُ معرفةُ إن كانَ هناكَ ضرورةٌ أم لا، ما لم يُحدّد المقصودُ منَ الحاجة.

ويبدو أنَّ الأرضيّةَ المشتركةَ التي يمكنُ الانطلاقُ مِنها لحسمِ نقاشِ الضرورةِ هيَ الانطلاقُ مِن محوريّةِ الإنسان، ضمنَ مقياسِ الدورِ الذي يمكنُ أن يلعبَه الدينُ في حياةِ الإنسان.

فإذا أثبتَ التيّارُ الدينيُّ فاعليّةً خاصّةً للدّينِ تفيدُ الإنسانَ في دُنياه قبلَ آخرتِه، أو كونَها تُمثّلُ حاجةً روحيّةً وجدانيّةً لا يستغني عَنها الإنسانُ، أو يفتحُ الدينُ له باباً منَ الأملِ يرى مِن خلالِه معنىً لوجوده، حينَها لا يمكنُ لأيّ جهةٍ مُنازعتُه، إلّا أنَّ كلَّ ذلكَ موقوفٌ على إيجادِ مفهومٍ للدينِ ينسجمُ أو يتعارضُ معَ الحياة.

أمّا الحوارُ الفلسفيُّ والتأصيلُ المعرفيّ للفكرِ الدينيّ وإن كانَ مطلوباً، إلّا أنّه قد يقابلُ بفلسفاتٍ أخرى وتأصيلاتٍ مباينةٍ له، وحسمُ مثلِ هذا الجدلِ يحتاجُ إلى حياديّةٍ وموضوعيّةٍ مُتناهيةٍ وهذا ما يندرُ وجودُه.

ولذا أرى أنَّ النقاشَ في البُعدِ العمليّ للدينِ هوَ الأجدرُ لمواجهةِ التيّاراتِ اللادينيّة.

لا يجوزُ ادّعاءُ امتلاكِ الحلِّ السحريّ لهذا الصراعِ الأبدي، طالما يصعبُ إيجادُ الأرضيّةِ المُشتركة، فصراعُ الأديانِ في ما بينَها لا يمكنُ إيقافُه بالقول لهُم: أنّكم لا تمثّلونَ الحقَّ ولا تحتكرونَ الحقيقة.

والصراعُ معَ اللّا دينيّ حولَ ضرورةِ الدينِ لا يمكنُ حسمُه إذا تحرّكنا في إطارِ الادّعاءِ في مُقابلِ ادّعاءٍ آخر؛ بل لابدَّ مِن تقديمِ تصوّرٍ يكشفُ عن الضرورةِ الحتميّةِ للأديان.

الرجوعُ إلى الإنسانِ والانطلاقُ منهُ مِن جديد يساعدُ في إيجادِ أرضيّةٍ مُشتركةٍ لمُقاربةِ كلِّ المفاهيمِ الشائكةِ ومِن ضمنِها المفهومُ الديني، وهذا الرجوعُ يحتاجُ إلى التذكيرِ الدائمِ والتنبيهِ المُستمرِّ على إنسانيّةِ الإنسانِ ومحوريّته.

أمّا محوريّةُ الإنسانِ بالنسبةِ للأديانِ تكونُ بالتأكيدِ بأنَّ ارتباطَ الإنسانِ باللهِ لا يعني انفكاكَه عَن إنسانيّتِه، كما أنَّ الدعوةَ بضرورةِ الارتباطِ بالإنسان لا تعني الانفكاكَ عن الله.

ومِن هُنا يكونُ البحثُ مُثمراً في نوعيّةِ العلاقةِ بالله التي يوجدُها الدينُ في إطارِ الإنسان.

وبمعنىً آخر: كيفَ يجبُ أن نفهمَ الدين؟ هل بوصفِه قضيّةً للإنسانِ ومِن أجلِه؟ أم هيَ إعدامٌ للإنسانِ مِن أجلِ شيءٍ آخر؟

إذا انطلَقنا مِن مفهومِ الدينِ بوصفِه تطلّعَ الإنسانِ إلى الغيب، نكونُ قد حصَرنا الدينَ ضمنَ بُعدي الشهودِ والغيب، ولكن لا بالمعنى الذي يكونُ فيه الشهودُ حاضِراً في الغيب، وإنّما بالمعنى الذي يجعلُ الغيبَ حاضِراً في الشهود، والفرقُ بينَ المَعنيين هو:

الأوّلُ: حضورُ الشهودِ في الغيب، حيثُ يحاولُ أن يستبدلَ الشهودَ بالغيب، والواقعَ بغيرِ الواقعِ المشهود، فيصبحُ الدينُ ضمنَ هذهِ الصورةِ حالةً مثاليّةً فوقيّةً مُترفّعةً، تتجاوزُ كلَّ الشروطِ الموضوعيّةِ للحياة، فيعيشُ الإنسانُ جذباً عرفانيّاً صوفيّاً يحلّقُ به في عالمٍ افتراضيّ خارجَ حدودِ الزّمانِ والمكان، وهذهِ الصورةُ الصوفيّةُ لها واقعيّةٌ وإن كانَت بتأثيراتٍ مُختلفةٍ ولكنّها تتّفقُ على عدمِ الاهتمامِ بالحياة.

أمّا الثاني: حضورُ الغيبِ في الشهود، بمعنى إكمالِ النقصِ الذي في الشهودِ بالكمالِ الموجودِ في الغيب، وبالتالي ضبطُ الواقعِ بقيمِ الكمالِ والجمال، فيصبحُ الدينُ حالةً واقعيّةً مُتفاعلةً معَ عالمِ الشهودِ تنطلقُ منه لتعودَ إليه.

ولكي نفهمَ الغيبَ لا بدَّ أن نفهمَ الشهودَ أوّلاً؛ بوصفِه مركزَ الاهتمامِ الأوّلَ للإنسان، فقبلَ أن يتطلّعَ الإنسانُ إلى الغيبِ لا بدَّ أن يتطلّعَ للحياة التي يعيشُ فيها ويتفاعلُ معَها، وإذا كانَ الشهودُ هوَ الأكثرُ حضوراً ووضوحاً حينَها لابدَّ أن يكونَ هوَ الأساسَ الذي نقاربُ به فهمَنا للغيب.

ومنَ الأخطاءِ التي وقعَت فيها بعضُ القراءاتِ الدينيّة هوَ تقديمُها الدينَ بشكلٍ مثاليّ لا يرتبطُ بهمومِ الإنسانِ الحياتيّة، وقد أثّرَ ذلكَ على بعضِ التيّاراتِ التي انتجَت خِطاباً دينيّاً يبتعدُ عن دُنيا الإنسان، وطموحاتِه، وآمالِه، وآلامِه.

وبالتالي: ضمنَ هذا التصوّرِ لا يتفاعلُ الدينُ معَ اهتماماتِ الإنسانِ الحياتيّةِ وهمومِه المصيريّة.

وقد تطرّفَت بعضُ التوجّهاتِ فحملَت مفهوماً عدائيّاً للدّنيا واتّخذَت موقفاً مُناهضاً لأيّ فهمٍ دينيّ يسعى لتطويرِ حياةِ الإنسان وإعمارِ دُنياه، الأمرُ الذي فتحَ الطريقَ أمامَ التيّاراتِ اللا دينيّة بأن تجعلَ منَ الأديانِ رمزاً للتخلّفِ والرجعيّةِ والجمود.

وهكذا أصبَحنا أمامَ أزمةٍ حقيقيّةٍ تسبّبَ فيها المفهومُ الخاطئُ للدّين، ولكي نوقفَ هذهِ الثقافةَ التبريريّةَ للواقعِ الكارثي لابدَّ أن نعيدَ فهمَنا للدّين.

وإلّا فإنَّ الحربَ معَ التيّاراتِ اللّا دينيّة سوفَ تكونُ خاسرة.

ولا يختصُّ هذا الوصفُ بالدياناتِ البدائيّةِ وإنّما قد يتعدّاها للدياناتِ السماويّةِ لا في صورتِها الحقيقيّة وإنّما في فهمِ أصحابِها، فالنصرانيّةُ كانَت عقبةً أمامَ الحضارةِ ولم ينطلِق قطارُ التقدّمِ إلّا بعدَ إبعادِ الكنيسةِ عن طريقِهم، واليهوديّةُ تحوّلَت إلى ديانةٍ عنصريّةٍ لا تكترثُ بمصيرِ الإنسانيّة، أمّا الإسلامُ فلم يبرأ مِن أفهامٍ مشوّهةٍ جعلَت منهُ أكبرَ أزمةٍ إنسانيّة على مُستوى الساحةِ الدوليّة اليوم نتيجةَ حركاتٍ إرهابيّةٍ مُتطرّفة.

والخيارُ أمامنا هوَ مُحاكمةُ الأديانِ بما تحملهُ مِن وعيٍ حضاريٍّ تقدّمي، يتيحُ للإنسانِ حياةً كريمةً في الدّنيا قبلَ الآخرة.

فالدين الذي يكونُ فاشلاً في حياةِ الناسِ هوَ أفشلُ في آخرتِهم أيضاً.

وحينَها يكونُ التمايزُ والتنافسُ بينَ الأديانِ والمذاهبِ ليسَ مُجرّدَ الادّعاءاتِ الجوفاءِ بالقُربِ منَ الله، وإنّما بمقدارِ قُربِها منَ الإنسان وما تحملهُ مِن خيرٍ، وتقدّمٍ، وتنميةٍ، وكرامةٍ، ورفعةٍ، وعزّةٍ، وكلِّ قيمِ الحقِّ والفضيلة، فميدانُ الأديانِ هوَ الإنسان، واختبارُ الاقتدارِ هوَ كيفَ نحيا لا كيفَ نموت.

في المُحصّلة: لا يمكنُ حسمُ الجدلِ الحاصلِ بينَ التيّاراتِ الدينيّةِ والعلمانيّةِ فيما يتعلّقُ بمفهومِ الإنسانيّةِ ما لم نُراجِع الخطابَ الدينيّ الذي فشلَ في تحديدِ مفهومٍ واضحٍ ومُنضبطٍ للدّينِ يتجلّى معَه مفهومُ الإنسانيّة.

كما يجبُ أيضاً مراجعةُ الخطابِ المُناهضِ للأديانِ والذي فشلَ في تحديدِ مفهومٍ واضحٍ للإنسانيّةِ بعيداً عن الإيمانِ باللهِ تعالى.