ولقد كرمنا بني ادم
في القرآن تقولون (ولقد كرمنا بني ادم) اي الانسان ولكن بنفس الوقت الانسان اصله من النطفة النجسة وبالتالي أصل الإنسان نجاسة فأي كرامة تتحدثون عنها؟ ثم ان الله يخلق بعض البشر مشوهين وبعضهم محرومين من الحواس وهذا لا يتفق مع الكرامة في شيئ؟
الجوابُ:
صيغةُ السّؤالِ تُوحي بأنَّ السّائلَ لا يَعدُّ نفسَه مُسلِماً ولِذا قال: (في القرآنِ تقولونَ (وقد كرَّمنا بني آدم)، حيثُ نسبَ الآيةَ الشريفةَ للمُسلمينَ وليسَ للهِ تعالى، وعليهِ فإنَّ السّؤالَ ليسَ بغرضِ الاستفهامِ والتوضيح وإنّما بغرضِ النّقضِ والتفنيد، ولِذا ختمَ سؤالَهُ بالقول: (فأيُّ كرامةٍ تتحدّثونَ عَنها؟)، ونحنُ بدورِنا نسأل هل يُؤمِنُ السّائلُ بكرامةِ الإنسانِ أم لا؟ فإن كانَ لا يؤمنُ بِها فلِما السّؤالُ والاعتراضُ منَ الأساس؟ وإن كانَ يؤمنُ بِها فكيفَ يحلُّ هوَ التعارضَ الذي يتصوّرُه بينَ الكرامةِ وبينَ وجود بشرٍ مُشوّهينَ ومحرومينَ مِن بعضِ الحواس؟
وبعيداً عَن خلفيّةِ السّائلِ والغرضِ مِن سؤالِه، هل بالفعلِ هُناكَ تناقضٌ وتعارضٌ بينَ تكوّنِ الإنسانِ مِن مَنيٍّ نجسٍ وبينَ كرامتِه؟ وهل وجودُ تشوّهاتِ في الخِلقةِ لبعضِ البشرِ تتنافى معَ كرامةِ الإنسان؟
إذا رجَعنا للمعنى اللغويّ للكرامةِ نجدُ أنّها تعني (العلوَّ والشّرف)، ففي مُعجَمِ المعاني الجامع "كرامةُ الإنسان: احترامُ المَرءِ ذاتَه، وهوَ شعورٌ بالشّرفِ والقيمةِ الشخصيّةِ يجعلهُ يتأثّرُ ويتألّمُ إذا ما انتقصَ قَدرُه"، ويقالُ: كرُمُ الشيءِ بضمِّ الراء كَرماً وكرامةً إذا نفسَ وعزَّ فهوَ كريم، وكلُّ ذِي شرفٍ في بابِه يُقالُ عَنهُ كريمٌ، ومِنها الأحجارُ الكريمةُ وهيَ تُطلَقُ على الأحجارِ العَزيزةِ والنفيسة، ويذكرُ ابنُ قُتيبةَ في كتابِه الأشباهُ والنّظائرُ في القرآنِ الكريم "أنَّ جميعَ ألفاظِ الكرامةِ ومُشتقّاتِها ترجعُ إلى معنىً واحدٍ وهوَ الشّرف"، وقالَ فخرُ الدّينِ الطريحيّ في مجمعِ البَحرين: "الكريمُ لِكلِّ ما يرضى ويحمد"
وقد دلَّت آياتٌ كثيرةٌ في القرآنِ الكريم على كرامةِ الإنسانِ مِنها قولهُ تعالى: (وَلَقَد كَرَّمنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلنَاهُم فِي البَرِّ وَالبَحرِ وَرَزَقنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلنَاهُم عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّن خَلَقنَا تَفضِيلًا)، يقولُ الفخرُ الرّازي: كلُّ ما حصلَ للإنسانِ منَ المراتبِ العاليةِ والصّفاتِ الشريفةِ فهيَ إنّما حصلَت بإحسانِ اللهِ تعالى وإنعامِه، فلِهذا المعنى قالَ تعالى: (ولقَد كرَّمنا بني آدم) ومِن تمامِ كرامتِه على اللهِ تعالى أنّهُ سُبحانَه لمّا خلقَهُ في أوّلِ الأمرِ وصفَ نفسَه بأنّهُ (أكرم) فقالَ: (اقرَأ بِاسمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِن عَلَقٍ * اقرَأ وَرَبُّكَ الأَكرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالقَلَمِ)، ووصفَ نفسَهُ بالتكريمِ عندَ تربيتِه للإنسانِ فقال: (وَلَقَد كَرَّمنَا بَنِي آدَمَ)، ووصفَ نفسَهُ بالكرمِ في آخرِ أحوالِ الإنسانِ فقال: (يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الكَرِيمِ). وهذا يدلُّ على أنّه لا نهايةَ لكرمِ اللهِ تعالى ولفضلِهِ وإحسانِه معَ الإنسان"
والكرامةُ بهذا المعنى ليسَت خاصّةً بالمؤمنِ دونَ الكافِر وإنّما هيَ للإنسانِ بما هوَ إنسان، يقولُ العلّامةُ الطباطبائيّ في تفسيرِه: "وبذلكَ يظهرُ أنَّ المُرادَ بالآيةِ بيانُ حالٍ لعامّةِ البشرِ معَ الغضِّ عمّا يختصُّ بهِ بعضُهم منَ الكرامةِ الخاصّةِ الإِلهيّةِ والقُربِ والفضيلةِ الروحيّةِ المَحضةِ فالكلامُ يعمُّ المُشركينَ والكُفّارَ والفُسّاقَ وإلّا لَم يتمَّ معنى الامتنانِ والعِتاب"
وبذلكَ يتّضحُ أنَّ الكرامةَ لها معنىً ذاتيٌّ يلحقُ بالإنسانِ بما هوَ إنسان، ومعنىً عارضٌ يلحقُ بالإنسانِ بما هوَ فاعلٌ مُختار، فالمؤمنُ مثلاً لهُ كرامةٌ لكونِهِ إنساناً ولهُ كرامةٌ لكونِه مؤمِناً، والإيمانُ هُنا هوَ فعلُ الإنسانِ وكسبُه، بينَما الكافرُ لهُ كرامةٌ لإنسانيّتِه وليسَت لهُ كرامةٌ لكُفرِه، يقولُ الإمامُ عليّ (عليهِ السلام): "النّاسُ صِنفانِ إمّا أَخٌ لَكَ في الدِّينِ، أو نَظِيرٌ لَكَ في الخَلقِ" فوصفُ الإنسانيّةِ وصفٌ مُشترَكٌ بينَ المؤمنِ والكافِر، وهذا الوصفُ كافٍ لإثباتِ الكرامةِ لكليهما، والكرامةُ بهذا المعنى لا علاقةَ لها بالتّفضيل، يقولُ العلّامةُ الطباطبائيّ: " فقولهُ: {ولقَد كرّمنا بني آدم} المرادُ بالتكريمِ تخصيصُ الشيءِ بالعنايةِ وتشريفُه بما يختصُّ به ولا يوجدُ في غيرِه، وبذلكَ يفترقُ عن التفضيلِ فإنَّ التكريمَ معنىً نفسيّ وهوَ جعلهُ شريفاً ذا كرامةٍ في نفسِه، والتفضيلُ معنىً إضافيّ وهوَ تخصيصُه بزيادةِ العطاءِ بالنّسبةِ إلى غيرِه معَ اشتراكِهما في أصلِ العَطيّة" ويبدو أنَّ السّائلَ فسّرَ التكريمَ بالتفضيلِ فوجدَ صاحبَ الجسمِ السّليمِ أفضلَ مِن صاحبِ الجسمِ السّقيمِ فظهرَ عندَه التّعارضُ، في حينِ أنَّ الكرامةَ وصفٌ لنفسِ الإنسانِ سواءٌ كانَ سَليماً أو سَقيماً، فكينونةُ الإنسانِ لا يُنظَرُ فيها إلى الشّكلِ والمَظهرِ وإنّما يُنظَرُ فيها (للأنا) التي يشيرُ بها الإنسانُ إلى نفسِه، وإنسانيّةُ الإنسانِ لا تنقلِبُ لشيءٍ آخر إذا فقدَ الإنسانُ عضواً مِن أعضائِه أو حاسّةً مِن حواسِّه.
أمّا بالنسبةِ لنجاسةِ المَني الذي يُمثّلُ أصلَ الإنسان، فنحنُ لا نعلمُ كيفَ تصوّرَ السائلُ أنَّ ذلكَ يعارضُ كرامةَ الإنسان، فاللهُ خلقَ الإنسانَ مِن مَنيٍ يُمنى ثمَّ كرّمَهُ فما الإشكالُ في ذلك؟ فكرامةُ الإنسانِ تعودُ إلى تكريمِ الله ولا تعودُ إلى الأصلِ الذي خُلِقَ مِنهُ الإنسان، والظاهرُ أنَّ الحِكمةَ مِن خلقِ الإنسانِ مِن (مَني) هي ضبطُ غرورِ الإنسانِ وتكبّرهِ، فهوَ مِن دونِ الله ليسَت لهُ كرامةٌ، فلا يفتخِرُ الإنسانُ بأصلِه وإنّما يفتخِرُ بنسبتهِ للهِ تعالى، ولذلكَ يُذكّرُ القرآنُ الإنسانَ بهذا الأصلِ حتّى لا ينسى فضلَ اللهِ عليه، قالَ تعالى: (أَيَحسَبُ الإِنسَانُ أَن يُترَكَ سُدًى * أَلَم يَكُ نُطفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمنَىٰ) فيجبُ على الإنسانِ أن يتذكّرَ دوماً أنَّ كرامتَهُ منَ الله وليسَت مِن أصلِه، ففي الرّوايةِ عن أبي جعفرٍ (عليهِ السلام) يقول: "عجباً للمُختالِ الفَخور وإنّما خُلِقَ مِن نُطفة ثمَّ يعودُ جيفةً وهوَ فيما بينَ ذلكَ لا يدري ما يُصنَعُ به" وعليهِ نحنُ لا نُسلّمُ بهذا التعارضِ منَ الأساس.
ومِن ثمَّ فإنَّ نجاسةَ المَني حُكمٌ شرعيٌّ له علاقةٌ بالمَني الذي يكونُ خارجَ الجِسم، فلا يُقالُ للرّجلِ نجسٌ لأنّهُ يحمِلُ في جوفِه منياً أو بولاً أو غائطاً، وكذلكَ لا يقالُ للدمِ وهوَ يجري في عروقِ الإنسانِ بأنّهُ نجسٌ وإنّما نجاسةُ الدّمِ مُتعلّقةٌ بالدمِ المَسفوحِ فقط، ولو تجاوَزنا ذلكَ فإنَّ المَنيّ لا يبقى نجساً بعدَ استحالتِه إلى جَنين، فالاستحالةُ منَ المُطهّراتِ كما هوَ معلومٌ، فمثلاً لو استحالَ الخمرُ خلّاً فلا يكونُ نَجِساً ولا يكونُ حراماً.
اترك تعليق