هل القرآن يشهد بصحة التوراة والانجيل؟

سؤال: يقال: إنّ فكرة تحريف الكتاب المقدّس هي فكرة موجودة في التراث الإسلامي فقط، ولا وجود لها بتاتاً في نصوص القرآن؟ فعلى العكس، القرآن يتكلّم عَن صحّة الكتاب المقدّس: {وكيف يُحكّمونك وعندهُم التوراة فيها حُكم الله}، فلو كانَت مُحرّفة لَما قال القرآن إنّ فيها حُكم الله. عندما يتعرّض القرآن لمسألة التحريف فهو لا يعرض فكرةً مفادُها: أنّ الكتاب المُقدّس قَد حُرّف نصّيّاً وكُتِبَ على أيدي البشَر، بَل يذكُر أنّ "بعضًا" مِن أتباع ذلك الكتاب يُفسّرونهُ بحسبِ اهوائهم: {مِّنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ}، وذلك التحريف حاصِل في القرآن ايضًا؛ فكثيرٌ مِن المُسلمين يُحرّفونَ الكَلِمَ عَن مواضعه.

: الشيخ معتصم السيد احمد

الجواب:

آيات القرآن صريحة وواضحة في تحريف اليهود والنصارى للتوراة والإنجيل، والمقصود بالتحريف هو حصول الزيادة أو النقصان أو استبدال الكلمات التي تؤدّي إلى تغيير المعنى، وبالتالي لا يستبعد اشتمالهما على بعض الحقائق التي لم يطالها التحريف.

وعليه: فإنّ التحريف الذي نقصده لا يعني استبدالهما بالكلّيّة بكتب أخرى لا علاقة لها بالمرّة بالتوراة والإنجيل.

وهذا المقدار من التحريف مسلّم بحصوله، وقد دلّت آيات القرآن عليه إمّا بشكل مباشر، وإمّا بذكر بعض النماذج التي وقع عليها التحريف، وهنا نذكر كلا الأمرين:

الأوّل: قال تعالى: {أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}، تحدّثت الآية بشكل صريح بأنّهم يحرّفون كلام الله عن علم وإصرار، والتحريف هنا مطلقٌ ينطبق على جميع أشكال التحريف، ولا يمكن تخصيصه بشكل محدّد دون غيره من الإشكال.

وقال تعالى: {فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَـذَا مِنْ عِندِ اللّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ}.

وكذلك قوله تعالى: {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}.

ففي هذه الآيات إشارة مباشرة على أنّهم أدخلوا في كلام الله ما ليس منه، ونسبوا له سبحانه تعالى كلاماً لم يقله.

وقال تعالى: {قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاء بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِّلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُم مَّا لَمْ تَعْلَمُواْ أَنتُمْ وَلاَ آبَاؤُكُمْ قُلِ اللّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ}، فقد صرّحت الآية بشكل واضح على أنّهم أَخفَوا وكتموا الكثير ممّا أنزل الله على موسى.

وقال تعالى: {فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُو حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ}، فعبارةُ {وَنَسُو حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ} دالةٌ على أنّهم نسوا بعض ما أنزل إليهم.

وقد أشار السائل إلى أنّ التحريف في الآية قد يكون المقصود منه التحريف في التفسير والتأويل، واستدلّ بقوله تعالى: {مِّنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ}، ولا مانع من حصول الأمرين معاً، أي حرّفوه بالتأويل وحرّفوه بالتبديل، والذي يؤكّد حدوث التبديل هو قوله تعالى: {وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ} حيث نجد الآية استخدمت عبارة: {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ} بدل عبارة (يحرفون الكلم عن مواضعه)، الأمر الذي يؤكّد حدوث التبديل في الكلمات، وليس مجرّد تحريف معانيها.

الثاني: ذكر القرآن الكريم بعض النماذج التي حصل فيها التحريف، ومن ذلك قوله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَٰلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ) قوله تعالى: {لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَٰهٍ إِلَّا إِلَٰهٌ وَاحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}، وقال تعالى: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَٰهَيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ}.

ومن ثمّ النظر إلى ما في هذه الكتب من حكايات وقصص يؤكّد على أنّ معظمها كُتب في أوقات متأخّرة لا علاقة لها بوحي سماويّ نزل على الأنبياء، فهي أشبه بالكتب التاريخيّة التي تؤرّخ لبني إسرائيل أكثر من كونها خطاب من الله لخلقه، مضافاً إلى ما فيها من عقائد باطلة وأخلاقيّات منحرفة نترفّع عن ذكر بعضها هنا، كلّ ذلك يدلّ على أنّها محرّفة حتّى لو لم يخبرنا القرآن بذلك.

أمّا الاستدلالُ بقوله تعالى: {وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِندَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ} على صحّة ما في هذه الكتب فبعيدٌ جداً، فالآية تتحدّث عن قضيّة محدّدة تحاكم فيها اليهود إلى رسول الله، فقد صرّحت كتب التفسير الشيعيّة والسنيّة بأنّ تلك القضيّة هي رجم الزاني، فاليهود أرادوا بحكم الرسول أن يجدوا مخرجاً عن الرجم الذي هو منصوص عليه في التوراة.

وقد ناقش هذه المسألة المرجع الدينيّ ناصر مكارم الشيرازيّ في تفسيره الأمثل بقوله:

(ويجب الانتباه إلى أنّ المقصود من الحكم في الآية هو حكم الرجم للزاني المحصن من الرجال والنساء والذي ورد في التوراة أيضاً، في سفر التثنية الفصل الثاني والعشرين.

والعجيب في أمر هؤلاء اليهود أنّهم مع وجود التوراة بينهم وعدم اعترافهم بنسخها من قبل القرآن ورفضهم للشريعة الإسلاميّة، كانوا حين يرون حكماً في التوراة لا يوافق ميولهم وأهوائهم يتركون ذلك الحكم ويبحثون عن حكم آخر في مصادر لم يقرّوا ولم يعترفوا بها.

والأعجب من ذلك أنّهم حين كانوا يطلبون التحكيم من نبيّ الإسلام بينهم، كانوا لا يقبلون بحكمه إذا كان مطابقاً لحكم التوراة، لكنّه لم يوافق ميولهم ورغباتهم حيث تقول الآية: {ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِن بَعْدِ ذَٰلِكَ}، وما ذلك إلّا لأّن هؤلاء لم يكونوا بمؤمنين في الحقيقة، ولو كانوا مؤمنين لما استهزأوا هكذا بأحكام الله، حيث تؤكّد الآية قائلة: {وَمَا أُولَٰئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ}.

وقد يرد اعتراض في هذا المجال وهو: إنّ الآية الشريفة تقرّ بوجود حكم الله في التوراة ونحن نعلم عن طريق القرآن والروايات الإسلاميّة، بأنّ التوراة قد أصابها التحريف قبل ظهور نبي الإسلام محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم)؟

إن جوابنا على هذا الاعتراض هو أنّنا أوّلاً: لا نقول بأنّ التحريف قد أصاب التوراة كلّها، بل نقرّ بوجود أحكام في التوراة تطابق الحقيقة والواقع، وحكم الرجم - الذي هو موضوع بحثنا الآن - من الأحكام التي لم تصبها يد التحريف في التوراة.

ثانيا: إنّ التوراة مهما كان حالها لا يعتبرها اليهود كتاباً محرّفاً، ولذلك فإنّ الغرابة هنا تكمن في رفض اليهود العمل بحكم الله مع وجوده في توراتهم) [تفسير الأمثل ج4 ص11-12].