هل شرع ما قبلنا شرع لنا؟
السلامُ عليكُم ورحمة الله، إنَّ المُرادَ بشرعِ مَن قبلنا: هوَ خصوصُ الشرائعِ التي أنزلَها اللهُ عزَّ وجل على أنبيائِه عليهم السلام، وثبتَ شمولها في وقتِها لجميعِ البشرِ كاليهوديّةِ والمسيحية. وهناكَ خلافٌ في حُجّيّةِ هذهِ المسألة، فبعضُ أهلِ العلمِ يذهبُ إلى أنّها شرعٌ لنا مُطلقاً إلّا ما ثبتَ نسخُه في شريعتِنا مِنها، وبعضُهم يرى أنّها ليسَت بشرعٍ لنا مُطلقاً، وأنّ النسخَ مُسلّطٌ عليها جُملةً وتفصيلاً ، بحيثُ لو كانَ حُكمٌ في الشريعةِ اللاحقةِ موافقاً لِما في الشريعةِ السّابقة، لكانَ الحكمُ المجعولُ في الشريعةِ اللاحقةِ مُماثلاً للحُكمِ المجعولِ في الشريعةِ السّابقةِ لا بقاءَ له، فيكونُ مثلَ إباحةِ شربِ الماءِ الذي هوَ ثابتٌ في جميعِ الشرائع، مجعولاً في كلِّ شريعةٍ مُستقلّاً، غايةُ الأمرِ أنّها أحكامٌ متماثلة. وهناكَ قولٌ ثالثٌ يرى أنّ ما قصَّه علينا اللهُ تعالى ورسولهُ الأكرمُ (صلّى اللهُ عليهِ وآله) مِن أحكامِ الشرائعِ السّابقةِ ولم يرِد في شرعِنا ما يدلُّ على أنّه مكتوبٌ علينا كما كتبَ عليهم، أو أنّهُ مرفوعٌ أو منسوخٌ كقولِه تعالى: (مِن أجلِ ذلكَ كتَبنا على بني إسرائيلَ أنّه مَن قتلَ نفساً بغيرِ نفسٍ أو فسادٍ في الأرضِ فكأنّما قتلَ الناسَ جميعاً)، وقولهُ: (وكتَبنا عليهم فيها أنَّ النفسَ بالنفسِ والعينَ بالعين والأنفَ بالأنف والأذنَ بالأذن والسنَّ بالسنّ والجروحَ قصاص)، فإنّ ذلكَ شرعٌ لنا، وعلينا اتّباعُه وتطبيقُه ما دامَ قد قصَّ علينا، ولم يرِد في شرعِنا ما ينسخُه، وقد حُكيَ هذا القولُ عن جمهورِ الحنفيّةِ وبعضِ المالكيّةِ والشافعيّة. وقد استدلَّ المُثبتونَ مُطلقاً بآياتٍ مِن كتابِ اللهِ تعالى فحواها: اعتبارُ الشرائعِ السّابقةِ شريعةً للنبيّ (صلّى اللهُ عليهِ وآله) أمثالَ قولهِ تعالى: (أولئكَ الذينَ هدى اللهُ فبهداهُم اقتد )، وقوله تعالى: (ثمَّ أوحينا إليكَ أن اتّبع ملّةَ إبراهيم حنيفاً)، وقوله سبحانه: (شَرّعَ لكُم منَ الدينِ ما وصّى به نوحاً)، وقوله: (إنّا أنزلنا التوراةَ فيها هُدى ونورٌ يحكمُ بها النبيّون). كما استدلّوا باستشهادِ النبيّ (صلّى اللهُ عليهِ وآله) في مقامِ التشريعِ بأحكامٍ وردَت في شريعةٍ سابقة، كاستشهادِه في أثناءِ قولِه (صلّى اللهُ عليهِ وآله): (مَن نامَ عن صلاةٍ أو نسيَها فليُصلّها إذا ذكرَها)، بقولِه تعالى: (وأقِم الصّلاةَ لذكري)، وهوَ خطابٌ معَ موسى (عليهِ السلام) إلى غيرِ ذلكَ منَ الأحاديث، وهذهِ الأدلّةُ لو تمّت دلالتُها، وسلمَت مِن مُناقشاتِ الغزاليّ لها حينَ عرضَ لها في كتابِه المُستصفى، وبعضُها لا يخلو مِن أصالة - أنّها لا تدلُّ على أكثر مِن إقرارِ أصلِ تلكُم الشرائع. ولكنَّ إقرارَ أصلِ الشرائعِ لا ينفعُنا في مجالاتِنا الخاصّة، لأنَّ أصلَ الشرائعِ السّابقةِ ليسَت موضعاً لابتلائِنا اليوم لاختفاءِ معالمِها الأساسيّةِ عنّا. وإذا أرَدنا أن نتكلّمَ - باسمِ الفن – قُلنا: إنّ طروء العلمِ الاجماليّ بالتحريفِ عليها يمنعُ منَ الأخذِ بظواهرِها جميعاً، وتقريبهُ: أنّا نعلمُ أنَّ هذه الشرائعَ المتداولةَ ليسَت هي الشرائعَ بكاملِ خصوصيّاتِها لتناقضِ مضامينِ كلِّ شريعةٍ على نفسِها، وانتشارِ السّخفِ في قسمٍ مِن محتوياتِها، وابتعادِ أكثرِها عن كونِها نظاماً للحياة، وهوَ الأساسُ لكلِّ رسالةٍ سماويّةٍ ممّا يدلُّ إجمالاً على طروء التحريفِ عليها. والعلمُ الإجماليّ بالتحريفِ يمنعُ منَ الأخذِ بظواهرِها جميعاً، لأنَّ كلَّ طرفٍ نُمسِكُه نحتملُ طرو التحريفِ عليه، وأصالةُ عدمِ التحريفِ لا تنفعُ في هذا المجالِ لعدمِ جريانِ الأصولِ في أطرافِ العلمِ الإجماليّ المُنجَز، أو لتُساقطِها، وليسَ هذا العلمُ ما يحلّه لدينا لنرجعَ إليه. نعم، إذا تمَّ ذلكَ الاستدلالُ - أعني استدلالَ المُثبتينَ - وتمَّت مُناقشتُنا له، فإنَّ رأي جمهورِ الحنفيّةِ السّابق، يكونُ مِن أمتنِ الآراءِ وأقواها، لأنّ ما حُكيَ منَ الشرائعِ في الكتابِ العزيزِ لا يُحتمَلُ فيه التحريفُ فهوَ صحيحُ النسبةِ لها، وإذا تمَّت حُجّيّتُها - بالإقرارِ مِن قبلِ شريعتِنا لأصلِ الشرائع - فقد تمَّت حُجيّةُ ما صحَّ عنها، وعلينا اتّباعُه على كلِّ حال. وأمّا الذينَ نفوا حُجّيّةَ الشرائعِ السّابقة، فأهمُّ الأدلّةِ التي استدلّوا بها على ذلكَ هيَ: أوّلاً: حديثُ معاذ وهو: (أنّه صلّى اللهُ عليهِ وآله) لمّا بعثَ مُعاذاً إلى اليمنِ قالَ له: بمَ تحكُم؟ قالَ بالكتابِ والسنّةِ والاجتهاد، ولم يذكُر التوراةَ والإنجيل، وشرعَ مَن قبلنا، فزكّاهُ رسولُ الله صلّى اللهُ عليهِ وسلّم وصوّبَه، ولو كانَ ذلكَ مِن مداركِ الأحكامِ لما جازَ العدولُ إلى الاجتهادِ إلّا بعدَ العجزِ عنه). وهذا الاستدلالُ متينٌ جدّاً لو لم تكُن روايةُ معاذٍ منَ الموضوعاتِ عليه.وثانياً: إنّ ذلكَ لو كانَ مُدركاً لكانَ تعلّمها ونقلها وحفظها مِن فروضِ الكفاياتِ كالقرآنِ، والأخبار، ولرجعوا إليها في مواضعِ اختلافِهم، حيثُ أشكلَ عليهم كمسألةِ العول، وميراثِ الجدّ، والمفوّضةِ، وبيعِ أمِّ الولد، وحدِّ الشربِ، والرّبا في النسيئةِ، ومُتعةِ النساء، وديّةِ الجنينِ، وحُكمِ المُكاتبِ إذا كانَ عليه شيءٌ منَ النجوم، والردِّ بالعيبِ بعدَ الوطأ، والتقاءِ الختانين، وغيرِ ذلكَ مِن أحكامٍ لا تنفكُّ الأديانُ والكتبُ عنها، ولم ينقُل عن واحدٍ منهُم مع طولِ أعمارِهم وكثرةِ وقائعِهم واختلافاتِهم مراجعةُ التوراة، لا سيما وقد أسلمَ مِن أحبارِهم مَن تقومُ الحُجّةُ بقولهم، كعبدِ اللهِ بنِ سلام، وكعبِ الأحبار، ووهبٍ، وغيرهم، ولا يجوزُ القياسُ إلّا بعدَ اليأسِ منَ الكتاب، فكيفَ يحصلُ القياسُ قبلَ العلم. وهذا الاستدلالُ كسابقِه مِن أمتنِ الأدلّةِ التي يمكنُ أن تُساقَ في هذا المجالِ للقطعِ بمضمونِه بل ربّما حوّلَ المسألةَ إلى كونِها منَ الضروريّاتِ إلّا أنّهُ لا ينفي إقرارَ أصلِ الشرائعِ السّابقةِ كما لا ينفي صحّةَ ما ذهبَ إليه جمهورُ الحنفيّةِ، وغايةُ ما ينفيهِ عدمُ الرجوعِ إلى الكتبِ المتداولةِ للشرائع، وهيَ ممّا يُعلمُ بدخولِ التحريفِ عليها، فلا تكونُ حُجّةً. نعم، إذا تمَّ ما ادّعاهُ بعدَ ذلكَ مِن إطباقِ الأمّةِ على أنَّ هذه الشريعةَ ناسخةٌ لها بطلَ القولانِ السّابقان، إلّا أنَّ الإشكالَ في تحقّقِ هذا الإجماعِ معَ كثرةِ الخلافِ في المسألةِ مِن أفرادِ الأمّة، ولا أقلَّ مِن جمهورِ الحنفيّةِ وغيرِهم المانعِ مِن انعقادِ إجماعِها. هذا وقد تمسّكَ بعضُهم بالاستصحابِ عندَ الشكِّ في ارتفاعِ حُكمٍ ثبتَ في الشريعةِ السابقةِ بادّعاءِ العلمِ بثبوتِه، والشكِّ بارتفاعِه بالنسخِ بالنسبةِ إلينا، فَحَكَمَ ببقائه أَخذَاً بالروايةِ الشريفة: (لا تنقُض اليقين بالشكّ). وأهمُّ ما ذكرَ في مناقشتِه ما عرضَه بعضُ أهلِ العلم (مِن أنَّ النسخَ في الأحكامِ الشرعيّةِ إنّما هوَ بمعنى الدفعِ وبيانِ أمدِ الحُكم، لأنَّ النسخَ بمعنى رفعِ الحُكمِ الثابتِ مُستلزمٌ للبداءِ المُستحيلِ في حقِّه سبحانَه وتعالى). وقد ذكَرنا غيرَ مرّةٍ أنَّ الإهمالَ بحسبِ الواقعِ ومقامِ الثبوتِ غيرُ معقول، فإمّا أن يجعلَ المولى حُكمَه بلا تقييدٍ بزمانٍ ويعتبرَه إلى الأبدِ وإمّا أن يجعلهُ مُمتدّاً إلى وقتٍ مُعيّن. وعليهِ فالشكُّ في النسخِ شكٌّ في سعةِ المجعولِ وضيقهِ مِن جهةِ احتمالِ اختصاصِه بالموجودينَ في زمانِ الحضور، وكذا الكلامُ في أحكامِ الشرائعِ السّابقة، فإنَّ الشكَّ في نسخِها شكٌّ في ثبوتِ التكليفِ بالنّسبةِ إلى المعدومينَ لا شكّاً في بقائِه بعدَ العلمِ بثبوتِه، فإنَّ احتمالَ البداءِ مُستحيلٌ في حقِّه تعالى، فلا مجالَ حينئذٍ لجريانِ الاستصحاب. وتوهّمُ أنَّ جعلَ الأحكامِ على نحوِ القضايا الحقيقيّةِ يُنافي اختصاصَها بالموجودينَ مدفوعٌ بأنَّ جعلَ الأحكامِ على نحوِ القضايا الحقيقيّةِ معناهُ عدمُ دخلِ خصوصيّةِ الأفرادِ في ثبوتِ الحُكم لا عدمَ اختصاصِ الحُكمِ بحصّةٍ دونَ حصّة، فإذا شكَكنا في أنَّ المُحرّمَ هوَ الخمرُ مُطلقاً أو خصوصَ الخمرِ المأخوذِ منَ العنب، كانَ الشكُّ في حُرمةِ الخمرِ المأخوذِ مِن غيرِ العنبِ شكّاً في ثبوتِ التكليف، ولا مجالَ لجريانِ الاستصحابِ معَه. والمقامُ مِن هذا القبيلِ فإنّا نشكُّ في أنَّ التكليفَ مجعولٌ لجميعِ المُكلّفينَ، أو هوَ مُختصٌّ بمُدركي زمانِ الحضورِ فيكونُ احتمالُ التكليفِ بالنّسبةِ إلى غيرِ المُدركينَ شكّاً في ثبوتِ التكليفِ لا في بقائِه. وكذلكَ الأمر بالنّسبةِ إلى مَن لم يُدرِك منّا زمانَ ما قبلَ رسالتِنا أي زمنَ (شرعِ مَن قبلنا). والخلاصةُ أنّ الأدلّةَ اللفظيّةَ لو تمَّت حُجّيّتُها على إقرارِ الشرائعِ السّابقةِ فهيَ إنّما تدلُّ على أصلِها لا على كُتبِها المُتداولةِ، والعلمُ الإجماليُّ في طروء التحريفِ على الأصلِ يمنعُ منَ التمسّكِ بظواهرِ جميعِ أطرافِها لاحتمالِ طروءِ النقصِ أو الزيادةِ على كلٍّ مِنها ولا مدفعَ لهذا الاحتمالِ مِن أصلٍ أو غيرِه لعدمِ جريانِها في أطرافِ العلمِ الإجمالي أو جريانِها وتساقطِها للمُعارضةِ على اختلافٍ في المعنى. نعَم، لا يبعدُ تماميّةُ ما ذهبَ إليه جمهورُ الحنفيّة وغيرُه لجمعِه بينَ ما دلَّ على أصلِ الإمضاءِ للشرائعِ السّابقةِ وما يقتضيهِ العلمُ الإجماليُّ مِن عدمِ حُجيّةِ ظواهرِ ما دلَّ على أحكامِ الشرائعِ السّابقةِ مِن كُتبِها المُنزلة، لأنَّ ما نُقلَ مِنها في الكتابِ العزيز لا تدخلهُ شُبهةُ التحريفِ فيكونُ هوَ الحُجّة وحدَه. وعلى أيّ حالٍ، كونُ هذه الكتبِ المتداولةِ ليسَت حُجّةً بالنسبةِ لنا، يقتضي أن يكونَ منَ الضروريّاتِ فلا حاجةَ لإطالةِ الكلامِ فيها. [ينظر كتابُ (الأصولِ العامّةِ للفقهِ المُقارن) للسيّدِ مُحمّد تقي الحكيم (ص429 وما بعدَها)]. ودمتُم سالِمين.
اترك تعليق