هل الاختلاف بين موضوعات الدين والأخلاق يفكّ الارتباط بينهما؟

السؤال: ارتباط الدين بالأخلاق .. قبل الأديان التوحيديّة، فإنّ الدين لم يرتبط بالأخلاق، فكلاهما منظومة مختلفة عن الأخرى. فالدين هو علاقة البشر مع العالم الإلهيّ .. والأخلاق هي علاقة البشر مع الآخرين.

: الشيخ معتصم السيد احمد

الجواب:

تطرّقنا في أجوبة سابقة عن علاقة الدين بالأخلاق، وتناولنا ذلك من زوايا مختلفة، إلّا أنّ السائل يشير هنا إلى مفارقة محدّدة تمنع من وجود أيّ ترابط بين الدين والأخلاق، وهي أنّ موضوع الدين قائم بالأساس على علاقة الإنسان بالربّ، في حين أنّ موضوع الأخلاق قائم على علاقة الإنسان بالآخر، وعليه بحسب منظور السائل لا يمكن إيجاد نوع من الترابط بينهما مادام هناك اختلاف بين موضوعاتهما.

ولمناقشة هذه الفكرة لا بدّ من مقدّمة نشرح من خلالها كيف نفهم المسألة الأخلاقيّة، إذْ هناك ثلاث مستويات يجب التمييز بينها في دراسة المسألة الأخلاقيّة، وتتدرّج هذه المستويات من مستوى أعلى إلى مستوى أدنى، أو من مستوى نظريّ، إلى مستوى تطبيقيّ.

فعندما نناقش الأمور الأخلاقيّة بشكل عامّ نجد أنفسنا نسأل عن الأفعال الإرادية للإنسان، فنقول: هل هذا الفعل أخلاقيّ أم غير أخلاقيّ؟ مثلاً هل إجراء التجارب على الحيوان فعل أخلاقيّ أو لا؟ وهل أكل الحيوانات يتعارض مع القيم الأخلاقيّة أو لا؟ وهل قتل الإنسان بناءً على طلبه أو ما يسمّى بالموت الرحيم ينسجم مع الأخلاق أو لا؟ وكذلك الإجهاض وغير ذلك من الأسئلة المختلفة التي تتعلّق بشتّى مناحي الحياة.

فالواضح أنّ معظم الجدل الأخلاقيّ عندنا يتمحور حول هذه الأمور، وهو أمر مفهوم؛ لأنّها تعدُّ من الأمور التي تمسّ حياتنا بشكل مباشر.. ولكن من وجهة نظر (فلسفة الأخلاق) فإنّ الأمر يبدو أكثر تعقيداً من هذا..

والسبب في ذلك أنّ السؤال الأخلاقيّ عن فعل ما يأتي في مرحلة متأخّرة جداً، فهناك مستويات من التفكير الأخلاقيّ سابقة لمرحلة الأخلاق التطبيقيّة، ولكي يتّضح الأمر لا بدّ من الإشارة إلى المستويات التي يبدأ منها التفكير الاخلاقيّ. فأشهر هذه التقسيمات وأسهلها هو تقسيمها إلى قسمين رئيسيين ويتفرّع من كلّ واحد منها عدّة أقسام:

القسم الأوّل؛ الأخلاق المعياريّة: وهذا القسم هو المسؤول عن كلّ شيء له علاقة بكيفيّة التصرّف بالمعنى الأخلاقيّ، ولماذا نفعل الأشياء؟ ولماذا يجب علينا أن نفعل هذا ولا نفعل هذا؟ ولماذا هذا خطأ وهذا صواب؟ وبالتالي يهتمّ هذا القسم بوضع تفسيرات للمبادئ الأخلاقيّة، أو وضع مسوقات للفعل الأخلاقيّ، فعندما نقول هذا فعل أخلاقيّ لا بدّ أن يسبق ذلك تفسير يبين لماذا هو أخلاقيّ، وإذا لم يكن هناك تفسير متماسك للمبادئ الأخلاقيّة سيكون هناك دائماً سببٌ لرفضها، ويسمّى هذا المستوى بالنظريات الأخلاقيّة.

والقسم الثاني وهو الأخلاق الفوقيّة، أو (الميتا أخلاق)، أو (ما وراء الأخلاق): ولا يرتبط هذا المستوى من التفكير الأخلاقيّ بمعايير الفعل، فلا يخبرك بما يجب عليك فعله، وإنّما يشتغل فقط بطبيعة الأخلاق وجوهرها، والأسئلة التي يتحرّك على طبقها يمكن وصفها بأسئلة الأبستمولوجيا الأخلاقيّة، فمثلاً: هل يوجد بالأساس شيء اسمه أخلاق؟ وإذا وجدت؛ فكيف يمكن معرفتها؟ وكيف يمكننا أن نتأكّد من الادّعاءات الأخلاقيّة؟ وكيف يمكننا أن نعرف أن هذا هو مبدأ أخلاقيّ؟

يتّضح من هذا التقسيم أنّ الأخلاق التطبيقيّة التي بدأنا منها الكلام تأتي في المرحلة المتأخّرة بعد النظريات الأخلاقيّة، وذلك لأنّنا لا يمكن الحكم على شيء بكونه أخلاقيّ إذا لم نقف على المعايير التي تمكّننا من هذا الحكم، وفي المقابل نجد النظريات الأخلاقيّة ترتكز بدورها على ما تمّ بحثه في الأخلاق الفوقيّة، فكلّ النظريات الأخلاقيّة تأتي في مرحلة متأخّرة عمّا تمّ بحثه في مرحلة ما فوق الأخلاق.

ويبدو أنّ هذا المقدار كافٍ من دون حاجةٍ إلى الدخول في تقسيمات المدارس الأخلاقيّة إلى مدارس واقعيّة ومدارس غير واقعيّة، وبخاصّة أنّنا لا نظنّ السائل ينطلق من رؤية عدميّة، فينكر فيها وجود قيم أخلاقيّة في الواقع، وإنّما فقط ينكر وجود أيّ ارتباط بين الدين والأخلاق.

وقبل التطرّق للارتباط الصميم بين الدين والأخلاق في مستوياتها الثلاثة، لا بدّ أن نشير إلى مسألة مهمّة وهي أنّ الدين وإن كان في حقيقته علاقة بين الإنسان وبين الله، إلّا أنّ تلك العلاقة تتجلّى في الفعل الإراديّ للإنسان، فالإيمان بالله لا يفهم إلّا من خلال عمل الصالحات، قال تعالى: (مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا)، وبعبارة أخرى فإنّ الإيمان بالله واليوم الآخر يؤدّي حتماً إلى سلوك إراديّ صالحٍ وأخلاقيٍّ، ولا نريد التفصيل في ذلك فالقرآن الكريم كلّه تأكيد على هذه الحقيقة.

أوّلاً: الأخلاق التطبيقيّة: وهي الأخلاق التي تتّصل بشكل مباشر بالفعل الإراديّ للإنسان، وهذه الأخلاق لا يمكن أن تجد طريقها إلى الواقع إلّا بأحد طريقين، الأوّل: وجود سلطة تلاحق الأفراد وتراقب سلوكهم الفرديّ والاجتماعيّ، وعندها تتحوّل الأخلاق إلى قوانين وأنظمة وسياسة دولة، وإن كان وجود مثل هذه السلطة ضروريّ، إلّا أنّ الفعل حينها سيفقد مبرّراته الأخلاقيّة، أيْ لا يصبح الدافع للفعل هو المسوّق الأخلاقيّ، وإنّما الخوف من الردع القانونيّ هو الذي يدفع الإنسان نحو الفعل الأخلاقيّ، وعندها لا يسمّى الفعل أخلاقيّاً وإنّما قانونيّاً.

أمّا الطريق الثاني: وهو الضمير أو إحساس الفرد بالقيمة الأخلاقيّة للفعل، فيفعل الفعل حتّى إن كان بخلاف مصلحته الشخصيّة، فمثلاً من يجبره القانون على دفع جزء من ماله للفقير لا يسمّى فعله أخلاقيّاً، ولكن من ينفق من ماله للفقير لإحساسه بالقيمة الأخلاقيّة لهذا الفعل يسمّى فعله أخلاقيّاً، وهذا المستوى من الفعل الأخلاقيّ يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالإيمان بالله واليوم الآخر، وهكذا كلّما ارتقى الإنسان دينيّاً ارتقى أخلاقيّاً، فهو بدلاً من أن يعطي الفقير من فضول ماله، يعطيه وهو في أمسّ الحاجة له، يقول تعالى: ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ﴾، ويقول تعالى: ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُورًا﴾.

ولكي يتّضح هذا المعنى نشير إلى ما ذكرناه في إجابة سابقة، إذْ قلنا: إنّ هناك اختلافاً بين الإنسان عندما يكون بينه وبين ضميره وبين الإنسان عندما يكون بينه وبين الآخر، ومن هذه الزاوية يمكننا التأكيد على أهميّة الأديان ليس لكونها تخاطب عقل الإنسان فحسب، وإنّما لكونها تخاطب ضمير الإنسان، وتحمّله المسؤوليّة الشخصيّة سلوكياً وأخلاقيّاً واعتقاديّاً ومعرفيّاً.

فالإنسان بينه وبين نفسه حقيقة واضحة وضوح الذات للذات. قال تعالى: ﴿بَلْ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ﴾، وفي الوقت نفسه يمتلك قدرة عالية على التمويه، وبخاصّة في قبال الآخر . قال تعالى: ﴿وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ﴾، فمع أنّه واضح لدى نفسه لكنّه يموّه الحقيقة في قبال الآخر بسرد التبريرات والمعاذير، فهناك جانب واضح وآخر غامض، فأمّا الأوّل: فعندما يقف الإنسان أمام نفسه، وأمّا الثاني: فعندما يقف أمام الاخرين، فإنّه يزداد غموضاً وتلوّناً، قال تعالى: ﴿وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ﴾.

وإذا كانت الديانات هي رسالة من الخالق للمخلوق، فحينها تكون الأديان هي الإطار الأنسب للإنسان، بل لا غنى للإنسان عن الأديان؛ لكونها القادرة على مناجاة الإنسان من الداخل، وتحريكه من الباطن ليجد الإنسان ذاته، فيحقّق الانسجام مع نفسه والتكامل مع محيطه، وبذلك نفهم الترابط العضويّ والمنطقيّ بين الدين والأخلاق.

ومع أنّ إنسانيّة الإنسان تتجلّى في تعامله مع الآخر، إلّا أنّ ذلك يبدأ من الصلاح على مستوى الذات ثمّ ينعكس صلاحاً على مستوى الجماعة، فعندما يقف الإنسان وجهاً لوجه مع ذاته يكون هو المسؤول عن إنسانيّته، والدين ليس إلّا تنبيهاً للإنسان النائم في أعماق الإنسان.

فالخطوة الأولى للأخلاق هي صدق الإنسان مع ذاته وابتعاده عن الازدواجيّة والنفاق، إلّا أنّ هذا الصدق والوضوح لا يمكن أنْ يتحقّق من دون أن يكون هناك إلهٌ عالم بما في قلبه، ومراقباً لجميع ما يخطر في نفسه، ومع وجود ذلك لا يكون مجدياً من دون أن يكون هناك محكمة كبرى تكشف فيها البواطن والسرائر، وهذا ليس شيئاً آخر غير الدين، وهو الإيمان بالله والإيمان بحكمه العادل يوم القيامة، قال تعالى:﴿ يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ * فَمَا لَهُ مِن قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ﴾، فشهادة الله على بواطن الإنسان، وإيمان الإنسان بوجود هذا الشاهد، يشكّلان معادلة التديّن في داخل الإنسان، وهي ليست شيئاً آخر غير معادلة الأخلاق.

وعليه، فإنّ الإنسان بقدر وضوحه في مخبره، غامض في مظهره، ولا يعرف مرض القلوب إلّا الله خالق الإنسان، وبالتالي لا تستقيم للإنسان حياة في هذه الدنيا، ولا يكون لوجوده حِكمة، ما لم يكن هناك إلهٌ عالمٌ بحاله، ومحاسبٌ له على أعماله، يرشده إلى ما فيه خيره وصلاحه، ويحذّره ممّا فيه هلاكه، ثمّ يكون إلى الله تعالى مرجع العباد جميعاً ليحكم بينهم بالعدل.

ثانياً: النظريّات الأخلاقيّة ومسوّقات الفعل الأخلاقيّ: إذا كان الإنسان بطبعه كائن أخلاقيّ، أيْ لا يمكن القيام بأيّ فعل إراديّ ما لم يكن خلف هذا الفعل مبرّر ودافع، فحينها يصبح الإنسان بين خيارين، الأوّل: أن تكون الأهواء والشهوات هي المبرّر لجميع ما يقوم به، وعندها يفقد الإنسان إنسانيّته ويتحوّل إلى كائن غريزيّ مثله كمثل الحيوان.

الخيار الثاني: أن نعترف بوجود قيم أخلاقيّة موجودة في فطرة الإنسان وهي التي تجعله يتسامى على دوافعه الغرائزيّة، بل أصلاً لا يمكن أن نتحدّث عن إنسانيّة الإنسان أو كون الإنسان كائن أخلاقيّ ما لم نعترف مسبقاً بوجود هذه القيم الأخلاقيّة، فلو لم يكن الإنسان مفطوراً على هذه القيم، فمن المستحيل أنْ يجد سبيلاً إلى الإيمان بها، فالإنسان واجدٌ لهذه القيم وعارف بها، ولكنّه غافل عنها، فلا يستغني عن تذكير المذكّرين وتنبيه العارفين، وهنا تتجلّى مهمّة الأنبياء (عليهم السلام) بوضوح، كما يصفها أمير المؤمنين (ع): (ليثيروا لهم دفائن العقول، ويستأدوهم ميثاق فطرته..) وبالتالي فإنّ كلّ إنسان يجد في نفسه بذور التكامل القابلة للنمو والزيادة.

فحقيقة القيمة ومعناها، أقرب إلى الحالة الوجدانيّة التي فطر عليها الإنسان، فلولا وجود حقائق مقدّسة عند البشر، لما تكاملت الحياة بل تعذّرت، والاستدلال على وجودها شبيه بالاستدلال على وجود العقل، فكما تسالم البشر على وجوده، كذلك تسالموا على وجود القيم، ومن هنا جاز لنا الجزم بأنّ رسالات الأنبياء (عليهم السلام) ما جاءت، إلّا من أجل التذكير بهذه القيم، ولهذا السبب يتمّ تصديقهم واتّباعهم، فليس من المعقول، أن يكون هناك نبيٌّ يأمر بالظلم وينهى عن العدل مثلاً.

ومن هنا يجب أن لا نفهم القيم في ضمن إطار الانفعالات النفسيّة نحو الأشياء، وإنّما يجب فهمها في إطار الاعتراف بوجودها المستقلّ كحقائق تمتاز بالثبات، وبمعنى آخر إخراجها من النسبيّة المتحرّكة، إلى المطلق والثابت؛ وذلك لأنّها تعبّر عن عمق الذات المفطورة على حبّ الجمال والكمال والخير.

ونحن هنا لا ننكر وجود قيم خاطئة نتيجة انفعال النفس بالمحيط، وتأثّرها بعوامل الوراثة، والتربية، والواقع السياسيّ، والاجتماعيّ، والاقتصاديّ، وعوامل البيئية وغيرها.. التي تسهم في صياغة شخصيّة الإنسان، ولكنّنا نفرّق بين حالة الفعل والانفعال، فالنفس هي مصدر الضعف المنفعل بالواقع، في حين أنّ العقل مصدر القوّة، الذي يميّز الحسن والقبيح والحقّ والباطل، والقيم قد تنشأ من العقل وقد تنشأ من النفس، ولهذا نحن لا نقول: إنّ القيم هي انتقاء بلا معيار، وإنّما العقل الكاشف لها هو الذي يعطينا الثقة بها، وهو واحد عند الجميع، والضمانة الأخرى للقيم هي الدين، المذكّر بتلك القيم والمثير لدفائن العقول، فيصبح العقل والدين أو العقل المستبصر ببصائر الوحي هو أساس القيم ومصدر شرعيّتها، فالإنسان حتّى إن كان مفطوراً على القيم الأخلاقيّة إلّا أنّ هوى النفس وانفعالها بالمحيط يبعد الإنسان كثيراً عن فطرته، ومن هنا لا يمكن أن يستغني الإنسان أبداً عن الدين في أيّ فعل أخلاقيّ، وذلك لأنّ الدين يذكّره بهذه القيم الأخلاقيّة أوّلاً، ويحاسبه على فعله بناءً على هذه القيمة ثانياً.

ويبقى المستوى الثالث من الأخلاق وهو (ما وراء الأخلاق)، نترك الحديث عنه، لأنّ الأجوبة السابقة حملت الكثير من هذا المعنى، ولذا ننصح القارئ بالرجوع إلى بعض العناوين المنشورة في صفحتنا، مثل: (هل يحتكر الدين الأخلاق أو أنّها مفهوم أوسع من الأديان؟)، و (أيّهما أهم الأخلاق أم الدين)، و (هل الدين مصدر الأخلاق الوحيد)، و(هل يسمح للملحد أن يحدّثنا أخلاقيّاً)، و (هل يتمكّن الإلحاد من إيجاد تفسير مادّي للأخلاق)، وغير ذلك من العناوين المنشورة على الصفحة.