ما هيَ العلمانيَّةُ؟ وما هوَ خطرُها على الدِّينِ؟
العلمانيَّةُ مَبْدأٌ قائِمٌ على فَصْلِ السُّلطةِ السِّياسِيَّةِ عَنِ السُّلطةِ الدِّينيَّةِ. وتختلِفُ العلمانيَّةُ منْ تَصَوُّرٍ إلى آخَرَ، فهُناكَ علمانيَّةٌ متطرِّفةٌ، وأخرى يُمكِنُنا أنْ نُطلِقَ عليْها علمانيَّةً براغماتيَّةً يمكِنُ أنْ تَتَساهَلَ مَعَ الأديانِ في حُدُودِ التَّديُّنِ الشَّخْصِيِّ. ومِنْ هُنا يرى بَعْضُ الدّارِسِينَ أنَّ العلمانيَّةَ خِيارٌ إنسانيٌّ يَهْتَمُّ بِدُنْيا الإنْسانِ، وفي نَفْسِ الوَقْتِ يُحافِظُ على قَداسَةِ الدِّينِ، "وهيَ تكتفي بنفيِ أيِّ دورٍ (للإلهيِّ) أوِ (الدِّينيِّ) في تنظيمِ شُؤُونِ المجتمعِ العامَّةِ، كالإدارةِ والسِّياسَةِ والاقتصادِ والتَّعليمِ والثَّقافَةِ، والإبقاءِ على هَذا التَّنظيمِ بَشَريّاً بَحْتاً تَتَصارَعُ فِيهِ برامِجُ البَشَرِ ومَصالحُهُمُ الاقتصاديَّةُ والاجتماعيَّةُ المتغيِّرَةُ دائماً، دُونَ المساسِ بمُؤَسَّساتِ الدِّينِ أوِ التّعرُّضِ لِدَوْرِهِ في نَشْرِ مَبادئِ الإيمانِ بَيْنَ أتْباعِهِ. وفي هذِهِ الحالةِ يبقى الدِّينُ مُحْتَفِظاً بِقَداسَتِهِ، وَبِدَوْرِهِ في تَنْظِيمِ الجَوانِبِ الرُّوحيَّةِ والأخْلاقيَّةِ للإنْسانِ دُونَ التَّدَخُّلِ في الممارَساتِ السِّياسِيَّةِ المتقلِّبَةِ باسْتِمرارٍ في كُلِّ عَصْرٍ وزَمانٍ ومَكانٍ، أيْ إنَّ رَفْضَ الدِّينِ والإيمانِ ليسَ منَ الخَصائصِ الجَوْهَريَّةِ للعلمانيَّةِ"(1).
والعلمانيَّةُ ضِمْنَ هذِهِ الحُدُودِ وإنْ كانَتْ لا تُعَدُّ خَطَراً وُجُوديّاً على الدِّينِ، إلّا أنَّها تُعدُّ مُصادَرَةً للإسلامِ في بُعْدِهِ الاجْتِماعيِّ والسِّياسيِّ، ولِذَلِكَ يُمْكِنُنا أنْ نَقُولَ: إنَّ العلمانيَّةَ أحْدَثَتْ شَرْخاً في بِنيةِ المجتَمَعِ الإسْلاميِّ، أوْ جَرَّدتِ المجتمعَ منْ أيِّ هُوِيَّةٍ إسْلاميَّةٍ، وهذا مخالفٌ لِرُوحِ الإسْلامِ التي تَسْعى للنُّهوضِ بالإنْسانِ في شَتّى المجالاتِ الحَضاريَّةِ.
والعلمانيةُ في بعضِ توظيفاتِها الدَّلاليَّةِ تعني ما لا صلةَ له بالدِّينِ، أوْ ما كانتْ عَلاقتُهُ بالدِّينِ عَلاقةَ تَضادٍّ، وقدْ يتجلّى هذا المعنى في العلمانيَّةِ الصُّلبَةُ أوِ العلمانيَّةِ الفرنسيَّةِ، التي تعزلُ الدِّينَ عنِ المَشْهَدِ العامِّ بقرارٍ سِياسِيٍّ، "أمّا العلمانيَّةُ، فإنَّها صَرِيحةٌ، إنَّها قرارٌ سياسيٌّ يحدِّدُ بأُسُلوبٍ سُلْطَوِيٍّ وقانونيٍّ مَكانَ الدِّينيِّ. تَنْشَأُ العلمانيَّةُ بمرسومٍ تُصْدِرُهُ الدَّولةُ"(2). والتَّبريرُ الفلسفيُّ لمثلِ هذِهِ السُّلْطَةِ الإقْصائيَّةِ قائِمٌ على كَوْنِ الأدْيانِ عَقَبةً في طَريقِ الحَداثةِ، فالقَوانينُ الفرنسيَّةُ التي تُلاحِقُ حَتّى الحرِّيّاتِ الشَّخصيَّةَ مثلَ (الحِجابِ) بوصفِهِ رَمْزاً دينيّاً، تُصنِّفُ نَفْسَها بِشَكْلٍ أوْ بآخَرَ عَدُوّاً لَدُوداً للأدْيانِ، ومنَ الطَّبيعيِّ أنْ يَتَوَلَّدَ مَوْقِفٌ سلبيٌّ تُجاهَ هذِهِ العلمانيَّةِ بوصْفِها أقربَ إلى الحركةِ الإلحاديَّةِ. "إنَّ شِعارَ الإسْلامِ على الطَّريقَةِ الفرنسيَّةِ، أوِ الإسلامَ الفرنسيَّ يهدِفُ صَراحَةً إلى تَفْضِيلِ إسْلامٍ ليبراليٍّ، وحتّى علمانيٍّ، ما يعني إفراغَ كُلِّ دينٍ لا مِنْ تساميهِ بالضَّرورةِ، بَلْ مِنْ مُقتضاهُ المطلقِ"(3). وتعتمِدُ العلمانيَّةُ في خِطابِها السِّياسيِّ والثَّقافيِّ على رُؤْيةٍ فلسفيَّةٍ لها فَهْمٌ خاصٌّ لِلْكَوْنِ والإنْسانِ، وفي المقابِلِ يَتَمَتَّعُ الإسْلامُ برُؤيتِهِ المعرفيَّةِ الخاصَّةِ، وعليْهِ يمكِنُ أنْ يكونَ التَّصادُمُ مَعَ العلمانيَّةِ في الفعلِ السِّياسيِّ، وفي المنظورِ الفلسفيِّ أيضاً.
وبِاخْتِصارٍ فإنَّ العلمانيَّةَ خِيارٌ سِياسِيٌّ وثَقافيٌّ لا يَعْتَرِفُ بإلَهٍ لهُ حَقُّ التَّدَخُّلِ في حَياةِ النّاسِ، وإنَّما الإنْسانُ هوَ الذي يُحَدِّدُ خِياراتِهِ التي تُمْلِيها عليْهِ مَصالِحُهُ، في حينِ أنَّ الإسلامَ رُؤْيةٌ معرفيَّةٌ تُؤمِنُ بِوُجُودِ إلَهٍ لهُ إرادَةٌ وحِكْمَةٌ وراءَ خَلْقِ الإنْسانِ، وبالتّالي لا بُدَّ للإنْسانِ أنْ يُوازِنَ بَيْنَ الدُّنْيا التي هِيَ دارُ ابْتِلاءٍ، والآخِرَةِ التي هيَ دارُ جَزاءٍ، وَمَعَ ذلكَ لا يمنَعُ الإسْلامُ منْ فَتْحِ بابِ الاجْتهادِ واسِعاً في حُدُودِ القِيَمِ التي حَدَّدَها الشّارِعُ.
________________
(1) الصراعُ بينَ التيّارَينِ الدينيِّ والعلمانيِّ، محمَّد كامل ظاهر، دار البيرونيّ، بيروت، الطبعة الأولى، 1994م، ص 114.
(2) الإسلامُ والعلمانيَّةُ. أوليفييه روا. ترجمةُ صالح الأشمر. دار الساقي، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 2016م، ص 20.
(3) المصدر السابق، ص 51.
اترك تعليق