أين الحرية في الإسلام وهو يمنع الإنسان من تبديل دينه؟

دائماً يتمُّ عقدُ مقارناتٍ وصداماتٍ في مجالِ الحُرّيّاتِ بينَ الإسلامِ والحرّيّات لدى الغربِ تحديداً، مِن ذلكَ قولهم: إنَّ الإسلامَ لا يسمحُ للمُسلمِ بتبديلِ دينِه. ونسمعُ أحدَهم يقول: لماذا لا يُتركُ الأبناءُ لحينِ أن يكبروا فيختاروا هُم دينَهم أو أن يُتركوا بلا دين. وطالما قالوا: بأنَّ الفقهاءَ قد اخترعوا حدَّ الردّةِ لكبحِ حُرّيّةِ الاعتقاد، وبأنَّ الإسلامَ يقفُ حجرَ عثرةٍ أمامَ اختيارِ المُسلم زوجتَه إن كانَت غيرَ مسلمةٍ أو كتابيّة، وأنّه يمنعُ المُسلمةَ منَ الزواجِ بغيرِ المُسلم.. فالإسلامُ والحُرّيّاتُ لا يتّفقان.!

: الشيخ معتصم السيد احمد

الجواب:

بيّنّا في أجوبةٍ سابقةٍ مفهومَ الحُرّيّةِ في الإسلام، ونختصرُ ذلكَ بالقولِ إنَّ الحُرّيّةَ وإن كانَت تعني القدرةَ على الاختيارِ والترجيح، إلّا أنَّ ذلكَ الاختيارَ محكومٌ بمجموعةٍ منَ الضوابطِ القيميّةِ والأخلاقيّة.

فالحرّيّةُ كمفهومٍ مُجرّدٍ تعني أن تتساوى جميعُ الخياراتِ في ذاتِ المرتبة.

والحُرّيّةُ بهذا المعنى حُرّيّةٌ لا معياريّة؛ لأنّها لا تعترفُ بوجودِ مُرجّحاتٍ موضوعيّة بينَ الخيارات.

فالمفهومُ المُجرّدُ للحُريّةِ لا يستقيمُ معَ وجودِ معيارٍ يلزمُ بفعلٍ دونَ الفعلِ الآخر.

وهذا خلافُ النظرِ للحُرّيّةِ ضمنَ الفلسفةِ الكُليّةِ للإنسان، فالحُريّةُ ضمنَ هذهِ الفلسفةِ الكلّيّةِ تفرضُ على الإنسانِ خياراتٍ دونَ خيارات أخرى، فلا يكونُ الإنسانُ حرّاً في فعلِ ما يحبُّ ويشتهي، وإنّما يجبُ عليه تحديدُ خياراتِه وفقاً للحِكمةِ مِن وجودِه في هذهِ الحياة.

فإنسانيّةُ الإنسانِ تلزمُه بترجيحِ خياراتٍ على خياراتٍ أخرى.

فالحرّيّةُ في الإسلام يجبُ أن تُفهمَ في إطارِ المسؤوليّة، فالإنسانُ حرٌّ فيما يفعل ولكنّه مسؤولٌ عن ذلكَ الفعل.

وإذا اتّضحَ ذلكَ نأتي لبعضِ المسائلِ التي تمَّت إثارتُها في السؤال:

يقولُ: (مِن ذلكَ قولُهم إنَّ الإسلامَ لا يسمحُ للمُسلم بتبديلِ دينِه)، فإذا كانَ الإنسانُ حُرّاً في اختياراتِه وفي نفسِ الوقتِ مسؤولاً عنها، فحينَها تصبحُ الحدودُ والموانعُ جُزءاً أصيلاً مِن مفهومِ الحرّيّة.

فمثلاً:

الأبُ الذي يُلزمُ ولدَهُ بمراجعةِ دروسِه لا يصادرُ بذلكَ حرّيّتَه، وإنّما يوجّهُ اختياراتِه ضمنَ الإطارِ الذي يخدمُ مصالحَه، فالحُرّيّةُ بالنّسبةِ للابنِ تعني أنّه حرٌّ في اختيارِ اللعبِ أو اختيارِ الدراسة، فإذا خُلّيَ وهواه قد يختارُ اللعب؛ لأنّه ينظرُ إلى الأشياءِ في حدودِ ما يحبُّ ويشتهي، بينَما الأبُ ينظرُ إلى جوانبَ أخرى غائبةٍ عن الابن.

وفي هذه الحالةِ لابدَّ للأبِ أن يمارسَ دورَ الإلزام، فيمنعُه مِن خيارٍ ويفرضُ عليهِ خياراً آخر.

وتصرّفُ الأبِ في هذه الحالةِ لا يتعارضُ معَ الحُرّيّةِ ضمنَ إطارِ المسؤوليّة، ولكنّه قد يتعارضُ مع الحُريّةِ اللامعياريّة واللامسؤولة.

ولا أظنُّ أنَّ هناكَ عاقلاً يؤمنُ بوجودِ حِكمةٍ لهذه الحياةِ يطالبُ بهذا الشكلِ منَ الحُرّيّة، فالأبُ الذي يسمحُ لولدِه المُصابِ بمرضِ السكّري تناولَ ما يشاءُ منَ الحلويّات بحُجّةِ عدمِ كبحِ حُرّيّتِه، فإنَّ هذا الأبَ يجبُ عقابهُ في نظرِ جميعِ العُقلاء.

والحالُ نفسُه بالنسبةِ لاختيارِ الإنسان بينَ الكُفرِ والإيمان، صحيحٌ أنَّ الإنسانَ حرٌّ في ذلكَ ولكنّه مسؤول، ومِن هُنا نفهمُ قولَه تعالى: (وَقُلِ الحَقُّ مِن رَّبِّكُم ۖ فَمَن شَاءَ فَليُؤمِن وَمَن شَاءَ فَليَكفُر)، ولا يعني ذلكَ أنَّ كلا الخيارينِ في حالةٍ منَ التساوي، فبعدَ بيانِ ما هوَ الحقُّ وما هوَ الباطل يجبُ على الإنسانِ تحديدُ موقفِه، وبذلكَ يكونُ مسؤولاً عن اختيارِه فإن كانَ خيراً فخير وإن كانَ شرّاً فشر، ولذلكَ جاءَ في تمامِ الآية (إِنَّا أَعتَدنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِم سُرَادِقُهَا ۚ وَإِن يَستَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالمُهلِ يَشوِي الوُجُوهَ ۚ بِئسَ الشَّرَابُ وَسَاءَت مُرتَفَقًا)، فالآيةُ تكشفُ مصيرَ مَن يختارُ الكُفرَ على الإيمانِ في الآخرة.

وعندَما يمارسُ الإسلامُ سُلطةً تمنعُ الإنسانَ مِن تبديلِ دينِه إنّما يمارسُ هذه السلطةَ خوفاً عليه مِن ذلكَ المصير.

فإلزامُ الإنسانِ ببعضِ الخياراتِ دونَ غيرها لا يعني مُصادرةَ الحرّيّة، وإنّما يعني توجيهَ الحُرّيّةِ في الاتّجاهِ الصحيح، فالطبيبُ الذي يمنعُ مرضاهُ مِن بعضِ الأمور لا يكبتُ حُرّيّتَهم وإنّما يحدّدُ لهم الخيارات التي تفيدُ صحّتَهم.

ومنَ المعلومِ أنَّ السّلطةَ الخارجيّةَ التي تراقبُ خياراتِ الإنسان تمثّلُ ضرورةً لاستقرارِ المُجتمعات.

فالإنسانُ المُتمرّدُ على الحقِّ لابدَّ مِن إرغامِه على الحقِّ بشكلٍ أو بآخر، وهذا ما توافقَ عليهِ العُقلاء في جميعِ الأنظمةِ الاجتماعيّة والسياسيّة، فإذا كانوا لا يُعدّونَ ذلك مُصادرةً للحُرّيّات، فلماذا يُتّهمُ الإسلامُ بمُصادرةِ الحُريّةِ عندَما يمنعُ المُسلمَ منَ الارتداد؟

يقولُ: (لماذا لا يُترك الأبناءُ لحينِ أن يكبروا فيختاروا هُم دينَهم أو أن يُتركوا بلا دين)، ويمكنُنا أن نسألَ أيضاً لماذا نفرضُ عليهم التعليمَ والدراسةَ ولا نتركَهم حتّى يكبروا ثمَّ يقرروا؟ ولماذا نفرضُ عليهم الأخلاقَ الجيّدةَ والآدابَ الحسنة؟ فلنتركهم لحُرّيّتهم فلعلّهم يفضّلونَ التمرّدَ على الأخلاقِ والآدابِ السيّئة!

وهكذا عشراتُ الأسئلةِ التي تفرضُ نفسَها إذا كانَت الحُرّيّةُ هيَ مُجرّدُ القُدرةِ على الاختيار.

أمّا إذا كانَت الحُرّيّةُ هيَ التي تضعُ الإنسانَ في إطارِ المسؤوليّة، فحينَها يجبُ عليهِ اختيارُ الحقِّ على الباطل، والخيرُ على الشر، والحسنِ على القبيح.

فالحريّةُ ليسَت القيمةَ الوحيدةَ التي تتحكّمُ في حياةِ الإنسان، وإنّما هناكَ قيمٌ أخرى إذا تمَّ إهمالُها ستكونُ النتيجةُ الفسادَ الحتميَّ للحياة.

والدينُ كقيمةٍ في نفسِه، وكمنظومةٍ منَ القيم، لا يمكنُ أن يخضعَ للأذواقِ والأهواء، فهوَ ليسَ منَ الاختياراتِ التي يتساوى فيها الفعلُ والترك، وإنّما هوَ الحقُّ الواضحُ الذي لا يسعُ الإنسانَ تركه.

فالدينُ بما هو خيارٌ راجحٌ بجميعِ المعايير العقليّةِ والفطريّةِ والأخلاقيّة لا يمكنُ تركُه للصّدفةِ أو للترجيحاتِ الارتجاليّة، فهوَ خيارٌ مصيريّ وقيمةٌ محوريّةٌ لا تستقيمُ الحياةُ مِن دونه.

وعليهِ فالواجبُ على العالمِ إرشادُ الجاهلِ وتعليمُه، والطفلُ هُنا بمثابةِ الجاهلِ الذي يحتاجُ إلى مَن يأخذُ بيدِه إلى طريقِ الحقِّ والصّواب.

فليسَ منَ الحِكمةِ تركُ الطفلِ وحدَه تتقاذفُه أمواجُ الجهلِ والضّلال، والعجيبُ أنَّ مَن يقترحُ تركَ الطفلِ وشأنه لا يتركُه وشأنه، وإنّما يعملُ بطريقةٍ مباشرةٍ أو غيرِ مُباشرة على تنشئتِه بعيداً عن الدين.

فالمُجتمعاتُ في حقيقتِها تمثّلُ الحاضنَ الثقافيَّ للأطفال، وبالتالي تتأثّرُ خياراتُهم بحسبِ المُحيطِ الثقافيّ الذي ينشأون فيه.

فالذي يمنعُ المُجتمعاتِ المُتديّنةَ مِن تربيةِ أولادِها على الدين، لا يمارسُ نفسَ هذا المنعِ معَ المُجتمعاتِ غيرِ المُتديّنة، وعندَها لا تكونُ الخياراتُ متساويةً أمامَ الطفلِ لكي يختارَ ما يشاء، وإنّما هناكَ خيارٌ واحدٌ أمامَه وهو الابتعادُ عن الدين، وبذلكَ يتّضحُ أنَّ دعواتِ تركِ الأطفالِ وحرّيّتِهم المُستقبليّة ليسَ إلّا خُدعةً ماكرة.

يقولُ: (وطالما قالوا بأنَّ الفقهاءَ قد اخترعوا حدَّ الردّةِ لكبحِ حُرّيّةِ الاعتقاد)، لماذا يخترعُ الفقهاءُ حدَّ الردّةِ وهُم لا يمتلكونَ أيَّ نوعٍ مِن أنواعِ السّلطة؟ وما هيَ الفائدةُ التي يجنِيها الفقيهُ عندَما يُقامُ حدُّ الردّةِ على المُرتد؟ وفي أيّ زمانٍ منَ الأزمنةِ أقامَ الفقهاءُ هذا الحدَّ؟ فوظيفةُ الفقهاءِ هيَ بيانُ الأحكامِ الشرعيّة التي نصّت عليها النصوصُ الشرعيّة، فلا يمتلكونَ القُدرةَ وليسَت لهم شرعيّةٌ تسمحُ لهم باختراعِ حدودٍ أو إضافةِ أحكام.

وقد فصّلنا في إجابةٍ سابقةٍ فلسفةَ حُكمِ المُرتدِّ يمكنُ الرجوعُ إليها في الموقع.

وبكلمةٍ مُختصرة نقول: إنَّ الهدفَ مِن حُكمِ المُرتدِّ ليسَ منعَ التفكيرِ والنقاشِ العلمي، وإنّما هدفُه منعُ العبثِ القائمِ على التشكيكاتِ غير النزيهة.

فحدُّ الردّةِ بمثابةِ السّياجِ الذي يُشكّلُ حصناً للمُجتمع.

فإشكاليّةُ حُكمِ المُرتدِّ تُفهمُ في إطارِ ردعِ الأيادي العابثةِ في العقيدةِ بوصفِها قضيّةَ أمنٍ قومي إذا صحَّت العبارة.

فالعقيدةُ تُمثّلُ الأساسَ لبناءِ المُجتمعِ المُسلم، والعبثُ فيها هو عبثٌ في تلكَ الأساسات، ومِن هُنا شرعُ الإسلامِ أقصى أنواعِ الرّدعِ لحمايةِ المُجتمعِ المُسلم.

فبناءُ العقيدةِ يمثّلُ الخطوةَ الأولى لبناءِ المُجتمع والعبثُ فيها يمثّلُ أيضاً الخطوةَ الأولى لتهديمِ ذلكَ المُجتمع.

ومِن هنا نفهمُ الحملةَ المُنظّمةَ والموجّهةَ لاستهدافِ عقائدِ المُسلمين مِن قِبلِ الأعداء، باعتبارِ أنَّ الهدفَ مِنها هوَ تفكيكُ بُنيةِ المُجتمعاتِ المؤمنة.

يقولُ: (الإسلامُ يقفُ حجرَ عثرةٍ أمامَ اختيارِ المُسلمِ زوجتَه إن كانَت غيرَ مُسلمةٍ أو كتابيّة)، حرّمَ الإسلامُ زواجَ المُسلمِ منَ الكافرةِ دونَ الكتابيّة، وحرّمَ زواجَ المُسلمةِ منَ الكافرِ والكتابي.

ولا يعدُّ ذلكَ مصادرةً للحُرّيّةِ بالمفهومِ الإسلاميّ، وإنّما هوَ توجيهٌ للحُرّيّةِ في إطارِ ما هوَ أصلحُ للمُسلمِ وللمُسلمة.

فالإسلامُ يتدخّلُ في هذهِ المسألةِ مِن بابِ ترجيحِ خيارٍ على خيارٍ آخر، كحالِ مَن يتدخّلُ في خياراتِ ابنِه للزّواج، فيفرضُ عليه اختيارَ زوجةٍ صالحةٍ وليسَت فاجرة، وكذلكَ الحالُ عندَما تمنعُ بعضُ الدولِ الزواجَ الذي يترتّبُ عليه أضرارٌ على الأطفالِ في المُستقبل، فالخوفُ مِن حصولِ الضررِ المادّيّ أو النفسيّ منَ المُبرّراتِ العقلائيّةِ التي تستدعي تدخّلَ المُشرّع، وزواجُ المُسلمةِ مِن غيرِ المُسلم أو العكس، فيهِ ضررٌ على الإيمان، وهذا المقدارُ كافٍ لحظرِ هذا الزواجِ ومنعِه.