لمَاذا يَختلِفُ المُسلِمونَ وقُرآنُهم وَاحدٌ ونَبيُّهم وَاحدٌ؟!!
إذا كانَ القُرآنُ وَاحداً والنَّبيُّ (ص) وَاحداً فكيفَ يَحصَلُ الإفتِراقُ بينَ المَذاهبِ الإسْلامِيةِ؟
الأخُ المحتَرمُ.. السَّلامُ علَيكم ورَحمةُ اللهِ وبرَكاتُه.
مَناشِىءُ الإختِلافِ مُتعدِّدةٌ، فبَعضُها يَعُودُ لأسبَابٍ سِياسيَّةٍ، كما في مَوضُوعِ الإمَامةِ، حيثُ اخْتلفَ المُسلِمونَ في تَشخِيصِ مَن هو الخَلِيفةُ الشَّرعيُّ بعدَ رسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقد جرَّ عليْهم هذا الإختِلافُ الوَيلَاتِ مِن يومِ حُدوثِه إلى زَمانِنا هذا.
وفي هذا الجَانبِ يَقُول الإمامُ الغَزالِي في كِتَابِه "سرُّ العَالمِينَ":
(لكنْ أسفَرتْ الحجَّةُ وَجهَها، وأجمعَ الجَماهِيرُ على متنِ الحَدِيثِ، مِن خُطْبتِه في يومِ غَديرِ خمٍّ، باتِّفاقِ الجَميعِ، وهو يَقُول: مَن كُنتُ مَولاهُ فَعليٌّ مَولاهُ. فَقَال عُمرُ: بخٍ بخٍ يا أبا الحَسنِ، لقد أصبَحتَ مَولايَ ومَولى كلِّ مُؤمنٍ ومُؤمِنةٍ. فهَذا تَسلِيمٌ ورِضىً وتَحكِيمٌ، ثمَّ بعدَ هذا غَلِبَ الهَوى لحُبِّ الرِّياسةِ، وحَملِ عَمودِ الخِلافةِ، وعُقودِ البُنودِ، وخَفقَانِ الهَوى في قَعقَعةِ الرَّايَاتِ، واشْتبَاكِ ازْدحَامِ الخُيُولِ، وفَتحِ الأمصَارِ؛ سَقاهُم كأسَ الهَوى، فعَادُوا إلى الخِلافِ الأولِ، فنَبذُوه وَراءَ ظُهورِهم، واشْترَوْا به ثَمناً قَلِيلاً). انتَهى [ مَجمُوعةُ رسَائلِ الإمامِ الغَزالِي، كِتابُ سرِّ العَالمِينَ: 483].
وبَعضُها عِلميَّةٌ، كما في اسْتفَادةِ المُرادِ مِن ظُهورَاتِ القُرآنِ والسُّنةِ الشَّرِيفةِ، كما هو الحَالُ في مَوضُوعِ الأسمَاءِ والصِّفاتِ الوَارِدةِ في القُرآنِ والسُّنةِ كقَولِه تعالى: (يدُ اللهِ فَوقَ أيدِيهِم) الفتح:10، فبَعضُ الفِرَقِ الإسْلامِيةِ - كالسَّلفِية – قَالُوا بأنَّ المُرادَ هو الظَّاهرُ الحَقِيقيُّ، أي أنَّ لِلهِ يداً حَقِيقةً، وبَعضُهم قَال - كالإماميَّةِ والمُعتزِلةِ وجَماعةٍ كَبِيرةٍ منَ الأشاعِرةِ - بأنَّ المُرادَ هو القُدرةُ، أي قُدرةُ اللهِ فوقَ قُدرتِهم، وهذا مَعنَاه الذَّهابُ إلى المَجازِ والتَّأوِيلِ في بَيانِ المُرادِ مِن هذِه الألفَاظِ، وغَيرُهم ذَهبَ إلى التَّوقُّفِ كما يُشِيرُ إليْه النَّووي في شَرحِه على مُسلمٍ، وهكَذا.. ولكنْ يَبقَى على الإنسَانِ تَحرِّي الحَقِيقةَ في كلِّ هذِه الإختِلافَاتِ بما رَزقَه اللهُ مِن قُدرةٍ وإمكانَاتٍ عِلميَّةٍ ولا يَبقَى أسِيرَ التَّقلِيدِ الأعمَى، لأنَّ النَّبيَّ (صلى الله عليه وآله وسلم) قَال في حَديثٍ صَحيحٍ - بل مُتواتِر عندَ البَعضِ -: (سَتفْترِقُ أمَّتِي إلى ثَلاثِ وسَبعِينَ فِرقةً، كلُّها في النَّارِ والنَّاجِيةُ منْها وَاحِدةٌ). انتهى.
أخرَجه أبو دَاودُ وابنُ مَاجةَ وأحمدُ والهَيثمِيُّ وابنُ أبِي عَاصمٍ والسُّيوطِي وابنُ حَجرٍ والتِّبرِيزي والألبَانِي وغَيرُهم، وهو حَديثٌ مَشهُورٌ ومُتَّفقٌ على صِحَّتِه كما يَقُول ابنُ تَيمِيةَ في "مَجمُوعِ الفَتاوى" 3: 345، وقد صرَّحَ السُّيوطِي بتَواتُرِ هذا الحَديثِ عن النَّبيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، كما في "فَيضِ القَديرِ" [فيض القدير 2: 27]، وكذلِك الكِتانِي في "نَظم المُتناثِرِ منَ الحَديثِ المُتواتِرِ" [المُتنَاثرُ منَ الحَديثِ المُتواتِرِ: 47].
ودُمتُم سَالِمينَ.
اترك تعليق