اللهُ يَعلَمُ بالمَصائبِ والزَّلازلِ والكَوارثِ التي يَذهَبُ ضَحايَاهَا أبرِياءُ، لمَاذا لا يَمنعُها؟!!!

نُصوصٌ منَ القُرآنِ: (مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا  إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ)، (مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ وَمَن يُؤْمِن بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)، النُّصوصُ تَعرِضُ فِكرةً مَفادُها أنَّ المَصائِبَ والكَوارِثَ (الطَّبيعِية والبَشرِية) التي تُصِيبُ البَشرَ والتي يَنجمُ عنْها عَادةً ضَحايَا منَ الأبرِياءِ وخَسائرُ جَسِيمةٌ في المُمتَلَكَاتِ، إنَّما هي مُدوَّنةٌ مُسبَقاً في كِتَابِ القَدرِ وبقَرارٍ مُباشرٍ منَ اللهِ أو بإذنٍ منه، أو بعِلمِه، فإذا أردْنا أنْ نُبَرِّئَ اللهَ منَ المَسؤُولِيةِ عن المَصائبِ، وأنَّها لم تَكنْ بتَخطِيطٍ مُباشرٍ منه ولا بمُوافَقتِه، فهو للأسفِ لم يَتدخَّلْ لمَنعِ وُقوعِ ما يُخالِفُ مَشِيئَتَه، ومَاذا نَستفِيدُ مِن فِكرَةِ أنَّها بعِلمِه فقط ولكنَّه لا يَتدخَّلُ؟

: اللجنة العلمية

     الأخُ المحتَرمُ.. السَّلامُ علَيكم ورَحمةُ اللهِ وبرَكاتُه. 

     حتى نُحِيطَ بمَوضُوعِ المَصائبِ والزَّلازلِ والبَراكِينِ ونَحوِها منَ الكَوارثِ الطَّبِيعِيةِ والبَشرِيةِ عليْنا أنْ نَعرِفَ هذِه المُقدِّماتِ الثَّلاثِ:

     أوّلاً: أنَّ هذا الكَونَ قد خَلقَه اللهُ (عزَّ وجلَّ) وِفقَ نِظامِ العِليَّةِ، أي وِفقَ قَانُونِ السَّببِ والمُسبَّبِ، فالنَّارُ خَلقَها اللهُ (عزَّ وجلَّ) مُحرِقةً، فلا يُمكنُ في الظُّرُوفِ الإعتِيادِيةِ أنْ يَضعَ الإنسَانُ يَدَه في النَّارِ ولا تَحترِقُ، أو يَرمِي نَفسَه مِن شَاهقٍ ولا يَسقطُ على الأرضِ، أو يَتناوَلُ السُّمَّ القَاتلَ ولا يُموتُ، أو تَصدِمُه سَيارةٌ مُسرِعةٌ ولا يَتأثَّرُ بشَيءٍ، ولو تَدخَّلَ المَولَى سُبحانَه في مَنعِ قَوانِينِ الطَّبيعةِ مِن أداءِ عَملِها وِفقَ نِظامِ العِلِّيةِ هذا لتَعطَّلتْ الحَياةُ كلُّها، وأصبحَ في أقلِّ الأحوَالِ بإمكانِ السُّرَّاقِ أنْ يَسرِقُوا ما يَشاؤونَ منَ النَّاسِ والبُيوتِ ويَقفِزُونَ بينَ العِماراتِ ولا يُصِيبُهم أذىً، أو يَعبرُ النَّاسُ في الشَّوارعِ مِن أيِّ مَكانٍ يُرِيدُونَ والسَّيارَاتُ تَجرِي مُسرِعةً ولا يُصطدَمُونَ بشَيءٍ، وهكَذا تَتحوَّلُ الدُّنيا إلى فَوضَى عَارِمةٍ لا يَحكُمُها نِظامٌ طَبِيعيٌّ ولا تُوجَدُ فيْها قَوانِينُ لأيِّ شَيءٍ، فَيتعطَّلُ نِظامُ الحَياةِ والمُجتَمعاتِ بأكمَلِه.

     ثَانياً: لا يُوجَدُ شرُّ مُطلَقٌ في هذا الكَونِ، بل كُلُّها شُرورٌ نِسبِيةٌ، فالسُّمُّ الَّذي تَحمِلُه الأفعَى هو شرٌّ بالنِّسبةِ إليْك، لكنَّه خَيرٌ بالنِّسبةِ لها ويُعتَبرُ وَسِيلةَ حَياةٍ ودِفاعٍ عن وُجُودِها، والزَّلازلُ التي تَخسِفُ بالبُيوتِ والعِمارَاتِ هي شرٌّ بالنِّسبةِ لأهلِ هذِه البُيوتِ والعِمارَاتِ، لكنَّها بالنِّسبةِ  للأرضِ هي خَيرٌ لها ولولَاها لانْفجَرتْ القِشْرةُ الأرضِيةُ وتَهشَّمتْ كما يُؤكِّدُ عُلمَاءُ الجيُولوجْيا، وهكذا البَراكِينُ، وحتى الآلامُ والأوجَاعُ التي تُصِيبُ الإنسَانَ هي مُنبِّهاتٌ لعِلَاجِ خَطرٍ أكبرَ، فالوَجعُ الَّذي يُصِيبُ الأسنَانَ مثلاً هو مُنبِّهٌ لمُعالَجتِها من تَلوُّثٍ وضَررٍ أكبرَ قد يَقعُ، وهَكذا.

     ثَالثاً: حتى نَفهمَ كِتاباً ما أو رِوايةً تَقعُ تَحتَ أيدِينَا، لا بدَّ مِن قِراءَةِ جَميعِ فُصُولِها ولا يَصحُّ الإكتِفاءُ بقِراءةِ فَصلٍ وَاحدٍ منْها فقط ثم الحُكمُ عليْها، وهكذا حالُنا نحنُ مع ما يَجرِي في هذِه الدُّنيا، فالدُّنيا هي فَصلٌ وَاحدٌ أو حَلَقةٌ وَاحِدةٌ مِن سِلسلَةِ عَوالِمَ وحَلَقاتٍ تَرتبِطُ بَعضُها ببَعضٍ ارْتِباطاً وَثِيقاً، ولا يُمكنُ عَزلُ ما يَجرِي في عَالمِ الدُّنيا عن عَالمِ الآخرَةِ أبداً، لأنَّ مُوجِدَ هذِه الفُصُولِ وهذِه العَوالِمِ  هو خَالقٌ وَاحدٌ، وقد أخبَرَنا بارْتِباطِ هذِه الفُصُولِ بَعضُها ببَعضٍ.

     يَقُول تعالى: (ونَبلُوكُم بالشَّرِّ والخَيرِ فِتنةً وإليْنا تُرجَعُونَ) الأنبِياء: 35.

     ويقول تعالى: (ولِنَبلُوَكم بشَيءٍ منَ الخَوفِ والجُوعِ ونَقصٍ منَ الأموَالِ والأنفُسِ والثَّمرَاتِ وبَشِّرِ الصَّابرِينَ الَّذينَ إذا أصَابَتْهُم مُصِيبةٌ قَالُوا إنَّا لِلهِ وإنَّا إليْه رَاجِعُونَ) البقرة: 155.

     ويقول تعالى: (ولَنُذِيقنَّهم منَ العَذابِ الأدنَى دُونَ العَذابِ الأكبَرِ لَعلَّهُم يَرجِعُونَ) السجدة: 21.

     ويقول تعالى: (فكُلّاً أخَذْنا بذَنبِه فمِنْهُم مَن أرسَلْنا عَليْه حَاصباً ومِنْهم مَن أخَذتْه الصَّيحةُ ومِنْهم مَن خَسفْنا به الأرْضَ ومِنْهم مَن أغْرَقْنا وما كانَ اللهُ لِيظْلِمَهم ولكنْ كَانُوا أنْفُسَهم يَظلِمُونَ) العنكبوت: 40.

     ففي كلِّ هذِه الآياتِ الكَرِيمةِ يُخبِرُنا اللهُ (عزَّ وجلَّ) بعِلَاقةِ المَصائبِ والعَذابَاتِ التي يَتعرَّضُ لها الإنسْانُ في هذِه الدُّنيا بعَالَمِ الآخرَةِ، وهو عَالَمُ الثَّوابِ والعِقابِ، فقد تَكُون بَعضُ هذِه البَلاءَاتِ عُقوبَاتٍ مُعجَّلةً لأهلِها كما تُبيِّنُ لنا الآيةُ الأخِيرةُ، وقد يَكُون منْها ابْتلَاءَاتٌ لأجلِ الإمتِحانِ والإختِبارِ ورَفعِ الدَّرجَاتِ كما تُوضِّحُه الآيتَينِ الأولِيَّتينِ، وقد يَكُون منْها تَنبِيهَاتٌ وعِظاتٌ للصَّحوِ مِن عَالَمِ الغَفلَةِ كما تُوضِّحُه الآيةُ الثَّالِثةُ، وهكَذا.  

     فإذا عَرفْنا هذِه المُقدِّماتِ الثَّلاثَ نأتِي على جَوابِ السُّؤالِ أعلَاه وهو: لمَاذا لا يَمنعُ اللهُ المَصائبَ والكَوارثَ الطَّبيعِيةَ التي قد يَتضرَّرُ منْها أُناسٌ أبرِياءُ لا ذَنبَ لهم كالأطفَالِ مثلاً، وهو سُبحانَه يَعلَمُ بحُدُوثِ هذِه الكَوارثِ والمَصائبِ، فَنَقُول: 

     تَقدَّم في النُّقطةِ الأولَى أنَّ اللهَ سُبحانَه قد خَلقَ هذا الكَونَ وِفقَ نِظامِ العِلِّيةِ، فَالحَرائقُ والفَيضَانَاتُ والزَّلازلُ والبَراكِينُ المُدمِّرةُ التي تَحدُثُ لا يُمكنُ أنْ يَنجوَ منْها مَن يَقعُ تَحتَ أسبَابِها، طِفلاً كانَ أو امْرأةً ، أو كانَ الوَاقعُ تَحتَ أسبَابِها مُطِيعاً لرَّبِه أو عَاصِياً، فنِظامُ العِلِّيةِ هنا حَاكمٌ على هذِه المَوجُوداتِ جَمِيعِها، وهو نِظامٌ لا يَختلِفُ ولا يَتخَلَّفُ وِفقَ الأسبَابِ الطَّبيعِيةِ، فقد تَكُون هذِه الإبتَلاءَاتُ عُقوبَاتٍ مُعجَّلةً لأهلِها (كما يُشِيرُ إليْه البَعضُ بأنَّ المَناطقَ التي حَدثَ فيْها زِلزَالُ تسُونامِي هي مَناطقُ تَحدُثُ فيْها الفَاحِشةُ كَثِيراً منَ السِّياحةِ الجِنسِيةِ والإتجَارِ بالأطفَالِ ونحوِ ذلك منَ المُنكرَاتِ)، أو تَكُون ابْتلَاءاتٍ الغَرضُ منْها رَفعُ دَرجَاتِ أهلِها الصَّابرِينَ وتَهذِيبُ نُفوسِهم، أو تَكُون عِظاتٍ ليَتَّعظَ منْها النَّاسُ ولا تَغُرَّنَّهم هذِه الحَياةُ الدُّنيا بزُخرُفِها وزِبرِجِها ويُدرِكوا أنَّ أمرَ اللهِ إذا أتى هو كَلمْحِ البَصرِ كما تَحدثُ هذِه الزَّلازلُ والبَراكِينُ فتَجرُفُ مَن يَقعُ تَحتَ سَطوَتِها كَلمْحِ البَصرِ.. أما الأطفَالُ والأبرِياءُ منَ النَّاسِ الَّذين يَقعُونَ ضَحايَا لهذِه الكَوارثِ وهم لا يَنطبِقُ عليْهم أيُّ وَصفٍ منَ الأوصَافِ المُتقدِّمةِ (العَذابُ المُعجَّلُ، أو الإبتِلَاءُ لغَرضِ رَفعِ الدَّرجَاتِ، أو العِظةِ والعِبرَةِ) فالمَولَى سُبحانَه عَادلٌ لا يَظلِمُ مِثقالَ ذرَّةٍ أبداً، وقد جَاءتْ بَعضُ الرِّوايَاتِ تُشِيرُ إلى أنَّ اللهَ سُبحانَه يَشمِلُهم برَحمَتِه فيُدخِلُهم الجَنةَ مِن غَيرِ حِسابٍ. 

     ودُمتُم سَالِمينَ.