هَلْ مَعْرِفَةُ الأَشْيَاءِ بِأَضْدَادِهَا قَاعِدَةٌ صَحِيحَةٌ؟

- (بِأَضْدَادِهَا تُعْرَفُ الأَشْيَاءُ) كَمَا يَقُولُونَ... وَهَذِهِ مَرْدُودٌ عَلَيْهَا أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ، لِأَنَّ قَاعِدَةَ تَمْيِيزِ الخَيْرِ عَنْ طَرِيقِ تَذَوُّقِ الشَّرِّ هِيَ مِنْ سُنَنِ الحَيَاةِ الكَوْنِيَّةِ الَّتِي مِنَ المُفْتَرَضِ أَنَّ الخَالِقَ هُوَ الَّذِي وَضَعَهَا - عَلَى حَسَبِ اعْتِقَادِكُمْ - وَقَدْ كَانَ بِإِمْكَانِ الخَالِقِ بِصِفَتِهِ مُطْلَقَ القُدْرَةِ أَنْ يَضَعَ سُنَّةً كَوْنِيَّةً أُخْرَى تُمَكُّنِنَا مِنْ تَمْيِيزِ فَائِدَةِ الخَيْرِ دُونَ الحَاجَةِ لِوُجُودِ الشَّرِّ!

: اللجنة العلمية

     يَعْتَمِدُ العَقْلُ الإِنْسَانِيُّ فِي تَمْيِيزِهِ بَيْنَ الأَشْيَاءِ عَلَى المُقَارَنَةِ فِيمَا بَيْنَهَا، فَكُلَّمَا كَانَتِ الأَشْيَاءُ أَكْثَرَ تَقَابُلًا وَتَضَادًّا كُلَّمَا كَانَتْ أَكْثَرَ تَمَايُزًا وَوُضُوحًا، وَلِذَا قِيلَ: (مَعْرِفَةُ الأَشْيَاءِ بِأَضْدَادِهَا). فَطَبِيعَةُ المَعْرِفَةِ تُحَتِّمُ عَلَى العَقْلِ القِيَامَ بِهَذِهِ المُقَابَلَةِ لِرَسْمِ الحُدُودِ الفَاصِلَةِ بَيْنَ الشَّيْءِ وَضِدِّهِ، فَحَتَّى تَعْرِفَ النُّورَ لاَبُدَّ أَنْ تَعْرِفَ الظَّلَامَ، وَلَا يُمْكِنُ اقْتِرَاحُ وَسِيلَةٍ أُخْرَى; لِأَنَّ النُّورَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ هُوَ الظَّلَامَ، وَهَذَا مُسْتَحِيلٌ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ النُّورُ هُوَ غَيْرَ الظَّلَامِ، وَفِي هَذِهِ الحَالَةِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُبَايِنًا لَهُ بِالمُطْلَقِ، وَإِمَّا مُبَايِنًا لَهُ فِي بَعْضِ الوُجُوهِ، هَكَذَا يَحْصُرُ العَقْلُ الإِحْتِمَالَاتِ المُمْكِنَةَ، وَالإِنْسَانُ عِنْدَمَا يُفَكِّرُ فِي الأَشْيَاءِ يُفَكِّرُ ضِمْنَ هَذِهِ المَسَارَاتِ المُحَدَّدَةِ، وَهَذَا مَا نُسَمِّيهِ بِمَنْطِقِ الفِكْرِ، وَمَا لَيْسَ بِمَنْطِقٍ لَا يَكُونُ فِكْرًا.

     وَقَدِ اعْتَرَفَ المُعْتَرِضُ فِي كَلَامِهِ السَّابِقِ بِأَنَّ هَذِهِ القَاعِدَةَ مِنَ السُّنَنِ الكَوْنِيَّةِ الثَّابِتَةِ، إِلَّا أَنَّهُ يَقْتَرِحُ عَلَيْنَا كَوْنًا بَدِيلًا مِنْ وَحْيِ خَيَالِهِ لَيْسَ فِيهِ هَذِهِ القَاعِدَةُ، وَغَفَلَ بِأَنَّ ذَلِكَ يَعْنِي جَعْلَ الأَشْيَاءِ لَيْسَتْ بِأَشْيَاءَ، وَالإِنْسَانِ لَيْسَ بِإِنْسَانٍ، وَالعَقْلِ لَيْسَ بِعَقْلٍ، وَالمَوْجُودَاتِ لَا تَكُونُ هِيَ نَفْسُهَا المَوْجُودَاتِ، وَلَا يَتَوَقَّفُ الأَمْرُ عِنْدَ حُدُودِ الخَيْرِ وَالشَّرِّ، فَإِذَا لَمْ تَكُنْ هُنَاكَ حُدُودٌ فَاصِلَةُ بَيْنَ الأَشْيَاءِ سَتَكُونُ الأَشْيَاءُ المُتَكَثِّرَةُ شَيْئًا وَاحِدًا; بَلْ حَتَّى هَذَا الوَاحِدِ لَا يَكُونُ وَاحِدًا إِلَّا إِذَا كَانَ مُمَيَّزًا، وَهَذَا لَا يَكُونُ إِلَّا بِرَسْمِ حُدُودٍ لِلوَاحِدِ يَكُونُ مَا بَعْدَهَا نَقِيضًا لَهُ، وَهَكَذَا نَرْجِعُ مِنْ جَدِيدٍ إِلَى قَاعِدَةِ أَنَّ الأَشْيَاءَ تَمْتَازُ بِنَقِيضِهَا، وَالعَقْلُ الَّذِي مِنْ وَظِيفَتِهِ التَّعَرُّفُ عَلَى هَذِهِ الأَشْيَاءِ لَا يَتَعَرَّفُ عَلَيْهَا إِلَّا مِنْ خِلَالِ الشَّيْءِ وَنَقِيضِهِ أَيْضًا، وَبِالتَّالِي هَذِهِ القَاعِدَةُ العَقْلِيَّةُ هِيَ قَاعِدَةٌ وَاقِعِيَّةٌ اكْتَشَفَهَا العَقْلُ مِنْ طَبِيعَةِ الأَشْيَاءِ نَفْسِهَا، وَعَلَيْهِ لَا يُمْكِنُ اقْتِرَاحُ قَوَانِينَ لِعَالَمِ الوُجُودِ خَارِجَ إِطَارِ الوُجُودِ نَفْسِهِ، فَقَدْ صَمَّمَ اللهُ هَذَا الخَلْقَ بِقَوَانِينَ فِي مُنْتَهَى الدِّقَّةِ، وَأَيُّ اقْتِرَاحَاتٍ بَدِيلَةٍ يَعْنِي أَنْ يُصْبِحَ الوُجُودُ لَيْسَ الوُجُودَ.

     وَعَلَيْهِ فَإِنَّ مَا يَقَعُ ضِمْنَ قُدْرَةِ الإِنْسَانِ هُوَ السَّعْيُ لِمَعْرِفَةِ الحِكْمَةِ مِنْ وُجُودِ الأَشْيَاءِ، لَا أَنْ يَقْتَرِحَ نِظَامًا آخَرَ يُؤَدِّي لِاخْتِلَالِ كُلِّ النِّظَامِ، صَحِيحٌ أَنَّ اللهَ قَادِرٌ إِلَّا أَنَّ قُدْرَةَ اللهِ لَا تُفْهَمُ اعْتِبَاطًا وَإِنَّمَا ضِمْنَ دَائِرَةِ المُمْكِنِ، فَاللهُ قَادِرٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُمْكِنٍ فِي ذَاتِهِ، وَمَا لَا يَكُونُ مُمْكِنًا لَا يَقَعُ لِعَجْزٍ فِيهِ وَلَيْسَ فِي القُدْرَةِ، وَقَدْ أَجَابَ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ عَلَى مَنْ يَقُولُ: هَلْ يَقْدِرُ اللهُ عَلَى أَنْ يُدْخِلَ الدُّنْيَا فِي بَيْضَةٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَكْبُرَ البَيْضَةُ أَوْ تَصْغُرَ الدُّنْيَا. قَالَ: إِنَّ اللهَ قَادِرٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، وَلَكِنَّ مَا ذَكَرْتَ لَا يَكُونُ، أَيْ أَنَّهُ مُحَالٌ فِي نَفْسِهِ وَلَيْسَ لِكَوْنِهِ غَيْرَ قَادِرٍ. وَهَكَذَا أَيْضًا تُفْهَمُ القُدْرَةُ ضِمْنَ الحِكْمَةِ العَامَّةِ لِلخَلْقِ وَالوُجُودِ، فَمَثَلًا: اللهُ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ كُلَّ البَشَرِ مَلَائِكَةً إِلَّا أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجْعَلُ الإِنْسَانُ كَائِنًا مُرِيدًا مَسْؤُولًا عَنْ أَفْعَالِهِ، وَبِالتَّالِي لَا يَنْسَجِمُ ذَلِكَ مَعَ الحِكْمَةِ مِنْ خَلْقِ الإِنْسَانِ، وَكَذَلِكَ اللهُ قَادِرٌ أَنْ يَجْعَلَ الدُّنْيَا كُلَّهَا خَيْرًا إِلَّا أَنَّ ذَلِكَ لَا يُؤَهِّلُ الإِنْسَانَ أَنْ يَكُونَ إِنْسَانًا بِإِرَادَتِهِ وَيُحَقِّقُ المَكَانَةَ العَالِيَةَ وَالدَّرَجَةَ الرَّفِيعَةَ بِجُهْدِهِ وَكَسْبِهِ، فَكِفَاحُ الإِنْسَانِ لِلوُصُولِ إِلَى الكَمَالِ يَتَطَلَّبُ هَذَا العَنَاءَ.